
أنهى الجيش الإسرائيلي، هذا الأسبوع، عملية عسكرية واسعة في مخيم جنين، شمال الضفة الغربية المحتلة، استمرت 48 ساعة، قتل خلالها 12 فلسطينياً، وأصاب بجروح 120 مواطناً، ودمر 90% من البنية التحية في المخيم، وأكثر من 120 منزلاً.
غير أن جيش إسرائيل لم يتمكن من الوصول إلى أكثر من 300 مقاتل ينتمون لعدة أجنحة عسكرية لحركات "فتح" و"حماس" و"الجهاد الإسلامي" والجبهة الشعبية، ما جعل العديد من المراقبين الإسرائيليين يصفون نتيجة العملية بـ "الاستعراضية" و"المخيبة للآمال".
وجاء هذا الهجوم عقب مواجهة مسلحة شديدة مع المقاتلين الفلسطينيين في المخيم في 19 يونيو الماضي، نجح خلالها الفلسطينيون في إصابة سبعة من الجنود وإعطاب خمس مركبات عسكرية مستخدمين عبوات ناسفة وصفتها إسرائيل بأنها "جديدة ومتطورة"، أعقبها ظهور صور لمحاولات إنتاج صواريخ قالت إسرائيل إنها "تهدد التجمعات السكانية" التي لا تبعد سوى بضعة كيلومترات عن المخيم.
كتائب فلسطينية
وشهدت الضفة الغربية المحتلة العام الماضي ميلاد وتشكل مجموعات مسلحة، وقيامها بسلسلة هجمات على أهداف إسرائيلية. أبرز هذه المجموعات كانت "عرين الأسود" في مدينة نابلس، و"كتيبة جنين" و"كتائب شهداء الأقصى" و"كتائب القسام" في مخيم جنين في شمال الضفة الغربية.
وضمت هذه المجموعات مئات المقاتلين من مختلف الفصائل، وحظيت بحاضنة شعبية واسعة من قبل جمهور فلسطيني يقول مراقبون إنه متعطش للبحث عن بديل، بعدما فشلت المفاوضات مع إسرائيل، وتواصل الاستيطان على نحو لا يقضي فقط على أي أمل بقيام دولة فلسطينية مستقبلاً، بل ويهدد بقاء ووجود الفلسطينيين في بلادهم.
وشهد العام 2022 عودة بعض أنواع الهجمات الفلسطينية المسلحة التي توقفت منذ نهاية الانتفاضة الثانية قبل عشرين عاماً.
وشنت إسرائيل سلسلة عمليات عسكرية في جنين ونابلس اغتالت وقتلت خلالها المئات، بينهم 175 العام الماضي وحوالي 200 هذا العام. ومن بين الضحايا أكثر من مئة في جنين وحدها.
"المكان الأخطر في العالم"
ووصف رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في تصريح له عقب العملية الأخيرة، مخيم جنين بأنه "المكان الاكثر خطورة في العالم". واعترف أن الجيش استخدم طائرات لقصف أهداف في المخيم وذلك للمرة الأولى في الضفة الغربية منذ 20 عاماً.
لكن نتنياهو اعترف أيضاً بأن العملية لم تحقق اهدافها كاملة متعهداً بمواصلة شن العمليات على المخيم حتى القضاء على ما أسماه بـ"الإرهاب" في هذا المخيم الذي وصفه بـ"عش الدبابير".
وفي السياق ذاته، قال الناطق باسم الجيش الاسرائيلي البريجادير جنرال دانيال هاجاري: "علينا أن نعي أنه لا يوجد حل سحري للإرهاب وسنضطر إلى مواصلة العمل والعودة إلى المخيم في اللحظة التي نحصل فيها على معلومات عن الناشطين والمطلوبين".
"خزان الثورة"
وتوصف مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في البلاد والخارج بأنها "خزان الثورة"، حيث شكلت منذ نشوءها في العام 1948 "مصدراً لأعداد كبيرة من المقاتلين الذين شاركوا في مختلف مراحل العمل الوطني".
ويبلغ عدد مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية المحتلة 19 مخيماً، وفي قطاع غزة 8 مخيمات. وتتميز هذه المخيمات بالاكتظاظ الشديد، فعلى سبيل المثال يبلغ عدد سكان مخيم بلاطة قرب نابلس 30 ألفاً يعيشون على مساحة قدرها كيلومتر مربع واحد، فيما يبلغ عدد سكان مخيم جنين حوالي 15 ألفاً يعيشون على مساحة قدرها نصف كيلو متر مربع.
أما مخيمات قطاع غزة فهي أشد اكتظاظاً حيث يشكل اللاجئون حوالي 75% من سكان القطاع البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة يعيشون في بقعة جغرافية هي الأكثر اكتظاظاً في العالم (364 كيلومتر مربع).
الذاكرة والذكرى الحية
ويتميز مخيم جنين عن غيره من مخيمات الضفة الغربية المحتلة، بوقوعه على مشارف الخط الأخضر الفاصل بينه وبين المدن والقرى والأراضي التي نزح منها أهل المخيم، فيما تسمى اليوم إسرائيل.
وينحدر غالبية سكان المخيم من مناطق الساحل مثل حيفا وقراها التي تميزت بخصوبة أرضها وجمال تضاريسها من جبال وتلال وشواطئ.
وقال الباحث علاء أبو لحلوح، أحد أبناء المخيم لـ"الشرق": "تصور أنك تعيش في مخيم شديد الاكتظاظ، وفي فقر وحرمان، بينما أرضك الخصبة وبيتك الجميل أمام ناظريك يستمتع فيها الآخرون".
ويرى علاء أن هناك عاملاً آخر ساهم في جعل مخيم جنين على هذا النحو، وهو توارث فكرة الثورة والمقاومة من جيل إلى جيل.
وقال: "أبناء المخيم من الشباب في سن العشرينات اليوم نشأوا وشبّوا على حكايات أقاربهم من آباء وأشقاء وأعمام وأخوال وقعوا أسرى أو شهداء في الانتفاضة الثانية، والذين شبوا بدورهم على حكايات الانتفاضة الأولى وهكذا".
وعن اختلاف أنماط التفكير بين مخيم جنين والمخيمات القريبة برام الله، المركز الإداري للسلطة الفلسطينية، قال علاء: "مخيم جنين يقع في أقصى شمال الضفة الغربية، وهو بعيد عن نمط الحياة السائد في المركز، ولا يعرف عنه الكثير، وذلك بخلاف سكان المناطق المحيطة بالمركز والذين يتأثرون بنمط الحياة هذه".
تاريخ من المواجهات
وكان مخيم جنين معقلاً للمسلحين من مختلف الفصائل في الانتفاضة الثانية الذين تصدوا لاجتياح الجيش الإسرائيلي في العام 2002، حيث درات معركة واسعة استمرت عدة أسابيع، وجرت من بيت لبيت، وقتل فيها 58 فلسطينياً و23 جندياً إسرائيلياً.
وأزال الجيش الاسرائيلي حياً كاملاً في المخيم عن الوجود ليتمكن من احتلاله. ووفق تقارير وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا"، فقد هدم الجيش الإسرائيلي بصورة كاملة 450 بيتاً، ودمر بصورة شبه كاملة أكثر من 400 بيت فيما تعرض 300 بيت لأضرار جزئية.
ويقيم أهالي المخيم على مدخله نصباً تذكارياً للشهداء الذين سقطوا في المعركة، وتحول بعضهم إلى أيقونات وطنية تتردد أسماءها في أغاني وأهازيج وأدبيات المقاومة مثل أبو جندل من قادة الأمن الوطني، ومحمود طوالبة من الجهاد الاسلامي، وزياد العامر من حركة "فتح" وغيرهم.
ورثة الحكاية
عضو المجلس التشريعي السابق من حركة "فتح" جمال حويل الذي اعتقل في معركة جنين وأمضى أكثر من عشر سنوات في السجن قال لـ"الشرق، إن "الجيل الجديد من أبناء المخيم تربى على إرث الجيل السابق من المقاتلين الذين تحولوا إلى أسطورة".
وأضاف: "هنا يوجد سياق تاريخي واجتماعي ووطني. هوية المخيم هوية نضالية، والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين متقاربة، وظاهرة المقاومة المسلحة في المخيم ظاهرة لازمته في مختلف المراحل، ومن الطبيعي أن يرث الجيل الجديد فكرة المقاومة المسلحة وينقلها للجيل الذي يليه".
رموز وطنية
وبدأت ظاهرة المقاومة المسلحة في مخيم جنين فردية، ثم توسعت في الدوائر الجغرافية والاجتماعية لتشمل أصدقاء وجيران وأقارب، وامتدت لتصل إلى المدن المجاورة مثل نابلس وطولكرم وطوباس.
وسرعان ما تحولت الظاهرة إلى عمل منظم مع قيام بعض الفصائل بتوفير المال والسلاح لهذه المجموعات.
وتحول بعض أبناء هذه المجموعات إلى رموز وطنية في وسائل التواصل الاجتماعي، وأصبحوا نماذج للشباب الباحث عن الخلاص، فأخذ الكثيرون يقلدونهم ويسيرون على دربهم.
وبينت نتائج استطلاع أخير للرأي العام أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية أن 71 في المئة من الفلسطينيين يؤيدون تشكيل مجموعات عسكرية تقوم بالمقاومة المسلحة.
ويرى كثير من المراقبين أن نتائج الجولة الأخيرة من المواجهة ستعزز فكرة المقاومة المسلحة في الشارع الفلسطيني في ظل غياب بدائل سياسية أخرى.
اقرأ أيضاً: