أثارت زيارة وزير الخارجية البريطاني إلى الصين أسئلة عدة بشأن استراتيجية المملكة المتحدة في آسيا، وتحديداً في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، أو ما يعرف باسم "أندو-باسيفيك".
هذه الزيارة هي الأولى لمسؤول بهذا المستوى منذ خمس سنوات، وما باح به جيمس كليفرلي في ختامها يكشف عن موقف لندن الرافض للقطيعة مع بكين، رغم عدم ترددها في مكاشفة القيادة الصينية بكل مخاوفها واعتراضاتها.
وتطرح هذه الزيارة أيضاً أسئلة عن إمكانية تغيير في استراتيجية بريطانيا تجاه الصين، وإلى أي مدى يقف البرلمان والحكومة في رسم هذه الاستراتيجية وتطبيقها؟ خصوصاً وأن تقريراً من مجلس العموم استبق زيارة كليفرلي بالدعوة لحق تايوان في تقرير مصيرها، والتي تعدها بكين خطاً أحمراً، وجزءاً لا يتجزأ من أراضيها، مما سبب إحراجاً لوزير الخارجية، وجعل مهمته "أكثر صعوبة".
ووجد كليفرلي ترحيباً من مضيفيه الذين كشفوا له وجود عوائق أمام تحسين العلاقات بين البلدين. ولكن بكين أيضاً لا تريد القطيعة مع لندن، ولا ترغب بإقفال أبواب التعاون على كافة المستويات طالما بقي الأمر ممكناً.
أما بريطانيا فهي تفضل التمييز بين الشق الاقتصادي ومجالات التعامل الأخرى مع الصين، فتبقي المسارات منفصلة كي تستطيع الموازنة بين حماية أمنها القومي، ودعم اقتصادها الوطني.
المكاشفة والمواجهة
في بكين أجرى كليفرلي مباحثات مع نائب الرئيس الصيني هان جينج، ونظيره الصيني وانج يي. وعندما سأل عن فحوى زيارته باختصار، قال لهيئة الإذاعة البريطانية: "إن لندن تريد إنعاش قنوات الاتصال مع بكين للاستفادة من فرص تحسين العلاقات التي تضيع غالباً بسبب تفسيرات خاطئة، أو سوء فهم لرسائل غير مباشرة بين الطرفين".
ولفت إلى أنه "لا يتوقع نتائج كبيرة من الزيارة الأولى، ولكن التواصل الموثوق والمستمر والمتسق سوف يكون له تأثير إيجابي في نهاية المطاف"، على حد تعبيره.
وأوضح كليفرلي في المقابلة ذاتها، أن القطيعة مع الصين لن تعزز مصداقية المملكة المتحدة، كما أن التواصل مع بكين لا يعني بأي حال، التخلي عن القضايا الخلافية بينها وبين لندن، خاصة فيما يتعلق بملف حقوق الإنسان. كما شدد على أنه أثار خلال زيارته كل تحفظات لندن إزاء "سياسة العنف" التي تتبعها الصين في هونج كونج، و"الممارسات العنصرية ضد الإيجور".
وفي تصريحاته لصحيفة "جارديان"، اعترف الوزير بـ"عبثية تجاهل بكين"، وقال إن "محاولة عزل ثاني أكبر اقتصاد في العالم هي سياسة خاطئة"، منوهاً إلى أن الصين "دولة كبيرة ومؤثرة ومعقدة، وبالتالي من الطبيعي ألا يكون التعامل معها سهلاً وبسيطاً".
وقال أيضاً إن "بريطانيا لن تتردد في مكاشفة بكين بكل ما يثير قلقها، وفي ذات الوقت لن تتأخر في التعاون معها من أجل حلحلة كثير من القضايا الدولية حول العالم".
الحكومة والبرلمان
بينما كان كليفرلي في طريقه إلى بكين لتعزيز قنوات الحوار معها، خرجت وثيقة برلمانية تطالب الحكومة البريطانية بمزيد من العمل والمواقف لضمان حق تايوان في تقرير مصيرها.
واعتبر المسؤولون الصينيون أن "ساسة في المملكة المتحدة لا يريدون تحسن العلاقات بين البلدين". ورد كليفرلي بأن الوثيقة صدرت عن لجنة للشؤون الخارجية في مجلس العموم، ولا تعكس موقف الحكومة.
وطالبت أليسا كيرنز، رئيسة اللجنة التي أصدرت التقرير، بمواقف أكثر صرامة وحزماً مع الصين. وقالت في بيان رسمي إن حكومة (ريشي) سوناك "لا تملك استراتيجية واضحة في التعامل مع بكين".
وأضافت: "إلا أن ذلك لا يلغي حقيقة أن فتح باب الحوار مع القيادة الصينية يعد خطوة إيجابية إذا ما تمسكت المملكة المتحدة بمواقفها، وعبرت عن رفضها القاطع لانتهاك الصين لحقوق الإنسان، واستخدامها العنف ضد الدول والشعوب".
وأشارت كيرنز، التي تنتمي لحزب المحافظين الحاكم، إلى أن لندن تحاول منذ سنوات الفصل بين المسارين الاقتصادي والسياسي في التعامل مع بكين، "ولكن هذه الاستراتيجية لم تنجح في ردع الصينيين ومنعهم من التعامل بقسوة مع أقاليم داخلية ودول مجاورة لهم"، وفق قولها.
وأكدت أنه "لابد من مواقف حازمة تتبناها الحكومة البريطانية لإقناع الحزب الشيوعي الصيني بتغيير سلوكه ولغة حواره مع الداخل والخارج".
"الحاجة إلى الصين"
مثلت الوثيقة البرلمانية من وجهة نظر كبير محرري الشؤون الخارجية في صحيفة "تايمز" البريطانية مايكل بنيون "ضربة حقيقية" لجهود الحكومة البريطانية لتعزيز قنوات الحوار مع بكين.
والحوار "ضروري جداً" برأيه، لأن القطيعة مع دولة بحجم الصين هو "خطأ استراتيجي". كما أن المملكة المتحدة تحتاج إلى التعاون مع الدولة الأسيوية ليس فقط لأسباب اقتصادية، وإنما أيضاً من أجل حلحلة كثير من المشكلات الدولية.
ولفت بنيون في حديث مع "الشرق"، إلى أن الوثيقة البرلمانية "لا تعكس رأي مجلس العموم ككل"، وإنما "تعبر عن موقف مجموعة من النواب الراغبين بالتصعيد مع الصين إلى حد القطيعة"، وهذا ما رفضته حكومات المحافظين منذ عام 2019، باستثناء رئيسة الوزراء السابقة ليز ترس، التي كانت مستعدة للخصومة مع بكين، ولكنها لم تبق على رأس السلطة لوقت تتضح فيه حقيقة استعدادها هذا على أرض الواقع.
ويشير كبير محرري الشؤون الخارجية في "تايمز"، إلى أن زيارة كليفرلي لبكين "لا تعني بأي حال من الأحوال، تغير الاستراتيجية البريطانية إزاء الصين، وإنما تعكس قناعة سوناك وحكومته بأهمية الحوار مع القيادة الصينية لمعالجة المواضيع الخلافية".
وشدد على أن "التواصل يتيح التعرف على توجهات الصينيين، ويخلق أمام حكومة المحافظين فرصاً لتبادل وجهات النظر معهم بشأن أزمات ومشكلات العالم".
بين الصين وروسيا
كليفرلي طالب الصين بالتدخل والمساعدة في إنهاء الحرب الأوكرانية، وهو ما لا ترفضه رئيسة لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان البريطاني أليسا كيرنز، والتي تعترض على استراتيجية الحكومة إزاء بكين.
والصين "ليست عدواً مباشراً للمملكة المتحدة وأوروبا كما هو الحال مع روسيا"، على حد تصريحات كيرنز.
ووفق رأي الباحث في الشؤون البريطانية جوناثان ليز، لا تعتبر المملكة المتحدة الصين عدواً لها، بسبب تحالفها مع روسيا وموقفها من الحرب الأوكرانية. وتميز لندن بين مصلحة بكين في دعم الروس سياسياً، وبين الانخراط في الدعم العسكري المباشر لهم ضد أوكرانيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو).
ويقول ليز في حديث مع "الشرق"، إن "الكتلة البرلمانية التي تحاول إحراج الحكومة في ملف الصين لا تمثل أكثرية، وهي تدرك تماماً أن الصدام مع بكين لا يصب في صالح لندن، ولا يجب أن يكون هدفاً مباشراً للسياسة الخارجية".
وأضاف: "المشكلة الرئيسية بالنسبة لهذا التكتل تكمن في عدم وضوح استراتيجية الدولة تجاه الصين".
وأعلنت الحكومة البريطانية منذ أشهر قليلة المراجعة الخاصة لاستراتيجيتها في التعامل مع الصين. ورفض رئيس الوزراء ريشي سوناك اعتبار بكين تهديداً مباشراً لبلاده، وإنما وصفها بـ"التحدي الممنهج" الذي يتوجب مواجهته على عدة أصعدة، خصوصاً تلك التي تتعلق بالأمن القومي البريطاني.
العلاقات الاقتصادية
تأتي المحافظة على العلاقات الاقتصادية على رأس أولويات الحكومة البريطانية في فتح أبواب التواصل مع بكين مجدداً، ولا تزال الصين رابع أكبر شريك تجاري للمملكة المتحدة حول العالم، والأول في آسيا. وفي عام 2021، ساهمت أكثر من 800 شركة صينية في خلق 80 ألف فرصة عمل في المملكة المتحدة.
وبلغ التبادل التجاري بين المملكة المتحدة والصين حتى نهاية الربع الأول من العام الجاري، أكثر من 107.5 مليار جنيه استرليني، مقسمة إلى 38 ملياراً لصادرات بريطانيا إلى الصين، ونحو 70 مليار جنيه لوارداتها من الدولة الآسيوية. أما الاستثمارات البريطانية في الصين فبلغت 10.3 مليار جنيه نهاية عام 2021، في حين استثمرت الصين 5 مليارات جنيه في مشاريع بريطانية، وفق أرقام العام ذاته.
وفي سياق المقاربة الاقتصادية في العلاقة مع الصين، يقول وزير الخارجية البريطاني إن "التعاون مع بكين أمر حتمي إذا أردنا التعامل مع الأزمات البيئية التي يواجهها الكوكب. فالصين هي أكبر مستثمر في الطاقة المتجددة حول العالم. وفي ذات الوقت هي أكبر مصدر للانبعاثات الكربونية التي يحتاج البشر لتقليصها".
اقرأ أيضاً: