تحقيق لـ"الشرق" يكشف تفاصيل جديدة عن مقتل السفير الأميركي في بنغازي

time reading iconدقائق القراءة - 17
مسلح يلوح ببندقيته بينما تشتعل النيران داخل مجمع القنصلية الأميركية في بنغازي - نوفمبر 2012 - AFP
مسلح يلوح ببندقيته بينما تشتعل النيران داخل مجمع القنصلية الأميركية في بنغازي - نوفمبر 2012 - AFP
دبي -الشرق

كشف تحقيق استقصائي لقناة "الشرق" في برنامج "أمام الكواليس"، عبر وثائق حصرية، خيوط العلاقة الملتبسة بين الولايات المتحدة والجماعات المسلحة في ليبيا، ودور الأخيرة في حادثة اغتيال السفير الأميركي في بنغازي كريستوفر ستيفنز وفريقه، التي حيّرت الرأي العام وأحدثت انقسامات حادة في المشهد السياسي الأميركي.

وأظهر التحقيق الذي بثته "الشرق"، الجمعة، تحت عنوان "قتيل المراجعات"، أن هدف الهجوم على القنصلية الأميركية في سبتمبر 2012 لم يكن قتل السفير بل أسره ومبادلته مع سجناء لدى الولايات المتحدة من تنظيم القاعدة. 

واستعان برنامج "أمام الكواليس" بمجموعة من السياسيين وصنّاع القرار، الذين ساهموا في بلورة علاقات الغرب بليبيا، إضافة إلى شهادات سجناء ليبيين ساعدت في كشف حقائق وأسرار حول الظروف التي مهّدت لوقوع جريمة اغتيال السفير ستيفنز.

وكشف تحقيق "الشرق" أن إدارة أوباما كانت تقدم دعماً مادياً ولوجستياً وعسكرياً للفصائل الليبية المقاتلة، بل إنها دعمت "برنامج المراجعات" الإصلاحي الذي أطلقه سيف الإسلام القذافي، وسُمح من خلاله بإطلاق سراح قادة من تنظيم القاعدة ليتمكنوا بعد ذلك من لعب أدوار عدة في ليبيا، أوصلتهم إلى السلطة.

إليكم التفاصيل الكاملة للتحقيق الذي يرصد أدلة تكشف كيف حدثت جريمة اغتيال السفير الأميركي التي تورطت فيها شخصيات رئيسية منها سفيان بن قمو، وأحمد أبو ختالة، وكتيبة 17 فبراير التي كانت واشنطن تدفع لها لحماية قنصليتها.

فصل جديد في السياسة الخارجية الأميركية بدأ يتشكل بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، التي أعلن تنظيم القاعدة مسؤوليته عنها، ليردّ بوش على الهجمات بغزو أفغانستان ثم العراق، فيما كانت الإدارة الأميركية تنشط في الكواليس على جبهة أخرى في بلد عربي آخر هو ليبيا، كما يؤكد الدبلوماسي الأميركي السابق إيثان تشورين في حديثه لـ"الشرق"، قائلاً: "كانت الولايات المتحدة بحاجة إلى خطوات جيدة ورأت أن القذافي قد يلعب دوراً في ذلك".

تطبيع العلاقات مع ليبيا

وتابع تشورين الذي رُشح لخلافة ستيفنز سفيراً للولايات المتحدة في ليبيا، أنه "إذا نجحنا في إظهار مدى التأثير الإيجابي لحرب العراق في ليبيا، كونها قلبت موقف القذافي ليكون في صفنا، فذلك سيعطي دفعاً كبيراً للسياسة الأميركية.. القذافي سيعطينا ما نحتاجه، وفي المقابل نرحب به مرة أخرى في المجتمع الدولي ونطبّع معه العلاقات".

 وقال السير جون جنكينز، السفير البريطاني السابق في سوريا والعراق وليبيا والسعودية، لـ"الشرق"، إن "توني بلير (رئيس وزراء بريطانيا آنذاك) أقنع القذافي بالتخلي عن برنامج تطوير أسلحة الدمار الشامل، ودفع تعويضات عن حادثة "لوكربي" (لاتهام ليبيا بتفجير طائرة أميركية فوق اسكتلندا عام 1988)".

ومع إقفال ملف لوكربي، بات في الإمكان فتح ملف تنظيم القاعدة في ليبيا، الذي كان ملفاً مشتركاً بين البلدين، وفيما حاولت إدارة بوش الثأر لهجمات 11 سبتمبر، كان القذافي يسعى لمنع عودة نشاط القاعدة في بلاده بعدما حاولت "الجماعة الليبية المقاتلة"، وهي إحدى أذرع التنظيم، اغتيال الزعيم الليبي ثلاث مرات.

تسليم مقاتلي "القاعدة"

في عام 2003، انطلقت معركة اصطياد المشتبه بهم من التنظيم، بتعاون أميركي بريطاني، شملت أفغانستان والسودان وماليزيا وهولندا. وعلى خلفية هذه العملية، وقع عبد الحكيم بلحاج زعيم "الجماعة الليبية المقاتلة" في قبضة الاستخبارات المركزية الأميركية، فيما أودع سفيان بن قمو، وهو ليبي قاتل في أفغانستان وعمل سائقاً شخصياً لبن لادن، معتقل غوانتانامو الأميركي.

وبعد ذلك، أرسل بلحاج وبن قمو ومعهما 10 عناصر آخرين، إثر صفقة بين القذافي وواشنطن، إلى سجون ليبيا للتحقيق معهم في عملية تسليم هزّت الرأي العام العالمي، وعُرفت بـ"التسليم الاستثنائي".

يوضح تشورين الذي عمل في ليبيا وإفريقيا والشرق الأوسط أنه "كان هناك رحلات جوية حطت في طرابلس أقلت أعضاء من (الجماعة الليبية المقاتلة) مثل بلحاج وخالد شريف وغيرهم، وقيل يومها إن مسؤولين كباراً في الاستخبارات الليبية التقوهم في المطار"، مشيراً إلى أن "الولايات المتحدة كانت تستعين بأجهزة القذافي لانتزاع الاعترافات تحت التعذيب".

وبعد بحث دقيق حول عملية التسليم الاستثنائي، كشفت "الشرق" عن رسالة سرية تعرض فيها وكالة الاستخبارات الأميركية على الزعيم الليبي الأسبق مساعدته في عمليات الاستجواب.

المراجعات 

في عام 2006، ظهر سيف الإسلام القذافي تحت الأضواء ليمثل "الوجه الجديد" لليبيا، مطلقاً مشروعاً إصلاحياً عرف باسم "ليبيا الغد". ضمن هذا المشروع فتح نجل الزعيم الليبي الأسبق فصلاً جديداً في علاقة الولايات المتحدة ونظام القذافي بالتيارات الدينية.

انطلق في ليبيا برنامج إصلاحي يهدف إلى تغيير نمط تفكير الجماعات الدينية الإسلامية داخل السجون وحثهم على نبذ التطرف، ما يمهد للمصالحة بينهم وبين النظام الليبي، وهو ما لعب دوراً مهماً في تغيير مجريات الأحداث في ليبيا، وشكّل محوراً أساسياً في عملية التحقيق بمقتل كريس ستيفنز.

وضمن مشروع "المراجعات"، اختير علي الصلابي، وهو أحد رموز جماعة الإخوان المسلمين في ليبيا، وكان قد فرّ إلى قطر في التسعينات، كوسيط بين النظام والسجناء، وسعى حينها لإقناع أعضاء الجماعة المقاتلة بالتعاون مع واشنطن وطرابلس.

وإثر تلك المهمة التي انتهت عام 2009، نجح الصلابي في إقناع القذافي بإطلاق سراح 210 سجناء، من بينهم القياديان السابقان في الجماعة الليبية المقاتلة بن قمو وبلحاج.

وأشارت المحققة السابقة في وكالة الاستخبارات الأميركية CIA، كلير لوبيز، في حديث إلى "الشرق"، إلى أن "السجناء الذين أطلق سراحهم القذافي أمثال بن قمو أصبحوا قادة الثورة الإسلامية في ليبيا".

أما الدبلوماسي والكاتب تشورين فاعتبر أن عملية الإفراج عن أولئك السجناء كانت "بمثابة قنبلة موقوتة أطلقت من قبل واشنطن وطرابلس"، خصوصاً أنها جاءت قبل عامين من موجة "الربيع العربي".

في فبراير 2011، بدأت شرارة الأحداث في بنغازي شرق ليبيا، حيث مسرح جريمة مقتل السفير الأميركي، فخرج آلاف المتظاهرين إلى الشوارع، رافعين راية الثورة وكانوا خليطاً من نشطاء المجتمع المدني وأعضاء التنظيمات الدينية، برز منهم وسام بن حميد وأحمد أبو ختالة وفوزي بو كتف.

صعود الإسلاميين

الكثير ممن قادوا هذه الاحتجاجات كانوا من السجناء الذين أُطلق سراحهم في برنامج "المراجعات" الذي شكل عاملاً أساسياً في الانقلاب على نظام القذافي، وأبرزهم بلحاج وبن قمو، وقد تلقوا دعماً لوجستياً وعسكرياً واستخباراتياً من واشنطن.

تقول لوبيز التي تعمل حالياً نائبة رئيس قسم الأبحاث والتحليل في مركز السياسة الأمنية في واشنطن لـ"الشرق": "نظمنا مع حلفائنا في حلف شمال الأطلسي هجوماً عسكرياً على القذافي، لقد ساعدناهم بالأسلحة والذخيرة والمعلومات الاستخباراتية".

غيّرت الإدارة الأميركية فجأة خطابها بشكل جذري، حتى طالتها الاتهامات بالترتيب المسبق لصعود الإسلاميين إلى الحكم، وزعزعة استقرار الدول تحت غطاء مطالب الديمقراطية والعدالة.

فبلحاج الذي وصف يوماً بالإرهابي تحوّل إلى بطل، حتى إن السناتور الجمهوري الأميركي جون ماكين اعتذر له أواخر عام 2011.

تغيّر المفهوم الأميركي والأوروبي بشكل جذري تجاه جماعة الإخوان المسلمين، خاصة بعد "خطاب القاهرة" عام 2006 الذي أعلن فيه الرئيس الأميركي المنتخب حديثاً، آنذاك، باراك أوباما عن رؤية أميركية مختلفة للشرق الأوسط، تشكل بداية جديدة كما أسماها، تلا ذلك طلبه بعد عام واحد إعداد "التوجيه الرئاسي رقم 11"، لإعادة تقييم احتمالات الإصلاح السياسي في الشرق الأوسط ودور الإخوان المسلمين في العملية. وهذا التوجيه ظل سرياً بموجب توجيهات رئاسية لأوباما.

شاركت أيضاً أوروبا في هذا المفهوم، ففي بريطانيا التي احتضنت الإخوان منذ خمسينات القرن الماضي، كلّف رئيس الحكومة السابق ديفيد كاميرون، جون جينكنز بتشكيل فريق عمل لإعداد وثيقة مماثلة للتوجيه الرئاسي الأميركي، عُرفت بـ"تقرير كاميرون".

مقتل القذافي

وبحلول مارس 2011، باتت بنغازي تحت سيطرة معارضي القذافي، بعد تدخل حلف الناتو عسكرياً لصالحهم، وقبل نهاية العام ظهر بلحاج على شاشة قناة قطرية، ليعلن مقتل القذافي، بالتزامن مع زيارة وزيرة الخارجية الأميركية إلى ليبيا.

قبل مقتل القذافي، اُنشئ تحالف "المجلس الوطني الانتقالي" لرسم خارطة لمستقبل ليبيا، حينها أرسلت واشنطن كريس ستيفنز مبعوثاً خاصاً لدى السلطة الليبية الناشئة.

وفي عهد أوباما، وصل ستيفنز إلى بنغازي أوائل أبريل 2011 لتأسيس وجود أميركي دبلوماسي فيها، وبعد نحو سنة على إقامته فيها عُيّن سفيراً للولايات المتحدة، حيث استحدث مقران أميركيان في بنغازي، في الوقت الذي سيطرت فيه فصائل ضمت في صفوفها مسلحين من تنظيمات دينية مختلفة، من الإخوان والسلفيين إلى القاعدة، على بنغازي.

اختارت الولايات المتحدة التعاون مع "كتيبة 17 فبراير"، وهي من الفصائل الدينية المسلحة، لتأمين مقر بعثتها في بنغازي. وكانت الكتيبة قد اكتسبت سمعة بأنها تابعة للإخوان، وهي أقوى الفصائل إذ ضمت 12 وحدة قتالية. كان يقودها فوزي بو كتف وإسماعيل الصلابي، شقيق علي الصلابي الذي توسط في برنامج المراجعات. 

في 2012 تصاعدت وتيرة التهديدات الأمنية وازدادت محاولات اغتيال الدبلوماسيين الأجانب، إذ ألقيت قنبلة فوق سور المجمع الأميركي في بنغازي في أبريل 2012، وخلال يونيو من العام ذاته أحدثت قنبلة أخرى فجوة في جدار المجمع.

عثرت "الشرق" على تقرير للكونغرس يفيد بأن الأميركيين رفعوا رواتب كتيبة  "17 فبراير" التي اعتمدت واشنطن عليها لتأمين بعثتها في بنغازي من 27 دولاراً إلى 35 دولاراً يومياً.

تزايدت المخاطر على الوجود الأميركي في ليبيا بعد عدة عمليات أميركية استهدفت قياديين في القاعدة، ما جعل السفير الأميركي يشعر بالخطر، حيث قال في رسالة إلكترونية أرسلها إلى صديق في بريطانيا: "أترقب بعينين واسعتين قصف موكبي بقذائف آر بي جي".

وتسارعت أنباء الاحتجاجات الغاضبة ضد سفارتي الولايات المتحدة في القاهرة وتونس، رداً على "فيلم مسيء للإسلام"، أنتجه مخرج مصري أميركي. عززت هذه الأنباء مخاوف كريستوفر ستيفز، إذ كان آخر ما كتب في مذكراته: "تهديدات أمنية لا تنتهي.. الميليشيات هي القوة الرئيسية على الأرض، ما أضعف مؤسسات الأمن.. الظروف صعبة.. لائحة الاغتيالات التابعة للإسلاميين في بنغازي.. أنا مستهدف".

اغتيال السفير

في 11 سبتمبر 2012، كان السفير الأميركي كريستوفر ستيفنز يستضيف دبلوماسياً تركياً لتناول العشاء، بينما كانت الفصائل المسلحة تغلق الشوارع المحيطة خارج مجمع البعثة الأميركية.

نحو الثامنة مساء، ودّع ستيفنز ضيفه ليستقبل هجوماً بالرصاص أشعل النار في مقر البعثة الأميركية في بنغازي، فسقط السفير قتيلاً إلى جانب موظفين آخرين.

وضع الهجوم إدارة أوباما على خط النار، فدافعت عن نفسها بالقول إن الهجوم كان عفوياً وجاء في خضم موجة الاحتجاجات المتعلقة بالإساءة للإسلام، لكن في عام 2016 أصدر الكونغرس تقريراً بشأن هجوم بنغازي، خلص إلى أن عملية الاغتيال وقعت عن "سابق تصوّر وتصميم ولم تكن عفوية".

وبحسب اعترافات السجناء، فإن من ترأس اجتماع التخطيط لقتل السفير هو سفيان بن قمو الذي كان معتقلاً في غوانتانامو قبل تسليمه إلى القذافي، وفي تقرير سري من الشرطة الليبية، حصلت عليه "الشرق"، اعترف السجناء بأن "أبو ختالة"، قائد الهجوم، سعى للقبض على السفير ستيفنز حياً ومقايضته بأعضاء بارزين من القاعدة محتجزين في سجن أميركي، ما يؤكد أن الهدف من العملية لم يكن قتل السفير وإنما أسره.

كما اعترف السجناء بأن كتيبة 17 فبراير المكلفة بحماية البعثة الأميركية، انسحبت عند بدء الهجوم على مقر البعثة الأميركية.

ما زال الجدل بشأن جدوى السياسة الأميركية في ليبيا قائماً حتى اليوم. تقاذفت الطبقة السياسة الاتهامات وألقتها بدورها على الدوائر الاستخباراتية. لكن الثابت أن واشنطن دفعت ثمن اضطرابات غذّتها، وظنت أنها ستكون في مأمن بعد دعم القائمين عليها.

وتُظهر المقابلات التي أجراها التحقيق والبحث في وثائق رسمية نُشرت بعد هجوم بنغازي إقراراً واضحاً بجلب السياسات الأميركية الخارجية الفوضى إلى دول الشرق الأوسط ومنها ليبيا، وقد كان الاعتماد الأميركي الأكبر في هذا على التيارات الدينية.

سقط السفير وثلاثة آخرون، رغم الدعم الأميركي للفصائل الليبية. دعم تنوّعت أشكاله، من دفع رواتب مسلحين إلى غطاء جوي من الناتو وإمدادات عسكرية منحتهم السيطرة على البلاد. وسبق كل ذلك الدعم الأميركي للبرنامج الأخطر، برنامج المراجعات الذي أطلق سراح قادة الجماعات المقاتلة من السجون، ومكنهم من لعب أدوار عدة في ليبيا، أوصلتهم إلى السلطة، وأدت في الوقت ذاته إلى مقتل كريس ستيفنز وزملائه.