تقرير فرنسي: المصرف المركزي اللبناني "صندوق أسود" للطبقة السياسية

time reading iconدقائق القراءة - 10
حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة خلال مؤتمر صحافي في العاصمة اللبنانية بيروت - 11 نوفمبر 2019 - AFP
حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة خلال مؤتمر صحافي في العاصمة اللبنانية بيروت - 11 نوفمبر 2019 - AFP
دبي -الشرق

في حديث إلى صحيفة "لوموند" الفرنسية، نفى حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة، مسؤوليته عن العجز المالي الذي يشهده لبنان، فيما تحدثت الصحيفة في تقرير لها عن الاشتباه في تنفيذ المصرف المركزي سياسة خاصة "أسهمت في ارتفاع ثروة النخبة الحاكمة في البلاد".

تقرير "لوموند"، جاء بعد أيام على انسحاب شركة "ألفاريز آند مارسال" الأميركية، المتخصصة في استشارات إعادة الهيكلة، من التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان المركزي، بعد عدم تلقيها المعلومات اللازمة لإتمام المهمة، وفقاً لما أفادت في بيان.

وأشارت "لوموند" إلى أن حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة، الذي يشغل منصبه منذ 27 عاماً، قاوم بشدة مساعي شركة "ألفاريز آند مارسال" في عملية التدقيق المالي، بحجة "السرية" على الحسابات البنكية، على الرغم من الخسائر الكبيرة المسجلة في هذا القطاع، والتي تقدر بنحو 68 مليار دولار.

وزيرة العدل اللبنانية ماري كلود نجم، قالت في تعليقها على انسحاب شركة التدقيق: "إنها صفعة للدولة اللبنانية"، مضيفة أن "المصرف المركزي أصبح دولة داخل دولة، ويرفض كشف الحسابات، وهذا يبعث بإشارات سيئة، بأن المصرف يخفي أشياء ما".

بعد أزمة السيولة الحادة التي شهدها لبنان في نهاية صيف 2019، انهارت العملة المحلية "الليرة" بشكل كبير، كما ارتفعت أسعار المواد الأولية بشكل حاد، كما بلغ عدد السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر 55% بعدما كان 30% في 2019.

ممارسات غير تقليدية

وأشارت "لوموند" إلى أن فرنسا، ودول عربية وغربية، ترفض تقديم الدعم المالي للبنان، بعدما دأبت على إنقاذه على مدى السنوات العشرين الماضية من أزماته المالية، وتشترط توقيعه اتفاقاً مع صندوق النقد الدولي، قبل تقديم أي دعم.

الصندوق رفض تقديم أي إعانات مالية إلى بيروت، قبل أن تنفذ الحكومة اللبنانية إصلاحات اقتصادية جذرية، ومنها الرقابة المالية على المصرف المركزي.

وتنقسم المفاوضات بين صندوق النقد الدولي والحكومة اللبنانية إلى مسارات ثلاثة، الأول يخص الحسابات المالية التي تشرف عليها شركة الحسابات الفرنسية KPMG، ويهدف إلى معرفة الميزانية الحكومية الدقيقة في مصرف لبنان، والثاني يخص "الامتثال" الذي تشرف عليه شركة "أوليفر وايمان" الأميركية، للتحقق من أن ممارسات المصرف المركزي اللبناني لا تحيد عن معايير البنوك المركزية، أما الثالث فيخص التدقيق الجنائي، للكشف عن أي عمليات اختلاس محتملة.

حكومة تصريف الأعمال اللبنانية برئاسة حسّان دياب، والتي استقالت على خلفية انفجار مرفأ بيروت في الـ4 من أغسطس الماضي، تبنت هذه المسارات الثلاثة "لمواجهة الضغط الذي مارسه الشارع اللبناني، واتهامه  النخبة المسيطرة على السياسة والمال في البلاد، بالوقوف خلف الأزمة الاقتصادية الخانقة"، وفقاً لما أفادت به "لوموند".

الهندسة المالية

لتمويل عجز الموازنة ووقف انهيار الليرة اللبنانية، لجأ مصرف لبنان إلى "ممارسات غير تقليدية" وصفتها "لوموند" بـ "الهندسة المالية"، وهو نظام مصمم لامتصاص الودائع بالدولار من البنوك التجارية، بسعر فائدة مرتفع للغاية، والذي أطلق عليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون "هرم بونزي".

و"هرم بونزي" أو "مخطط بونزي"، هو نظام بيع هرمي متسلسل محكوم عليه بالانهيار، ويحمل اسم الأميركي تشارلز بونزي، ويعتبر أحد أشكال الاحتيال، إذ يتلقى المستثمرون القدامى الأموال من المستثمرين الجدد، لتستمر العملية في الدوران حتى انفجار فقاعة المضاربة.

مناطق الظل

أسهمت "الهندسة المالية" لمصرف لبنان المركزي، وفقاً لـ"لوموند"، في ارتفاع ثروة المساهمين في البنوك، ومن بينهم العديد من السياسيين. ومن بين المستفيدين الرئيسيين من هذه الخطة، "بنك البحر المتوسط" (Bankmed)، والذي يشارك في رأس ماله رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري.

ووفقاً لـ"صندوق النقد الدولي"، فإنه في عام 2016 فقط، أسهمت "الهندسة المالية" لمصرف لبنان المركزي في كسب بنوك لبنانية أرباحاً وصلت إلى 5 مليارات دولار، وهو ما يعادل 10% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وذلك من دون تقديم أي تعويضات للدولة.

وحصلت صحيفة "لوموند" على تقرير كانت أجرته شركة "إرنست ويونغ لبنان" للتدقيق المالي في 2018، يطرح عناصر إشكالية أخرى.

وقال المدققون في هذا التقرير، إنه "لم يسمح لهم بإجراء جرد لمخزون الذهب في مصرف لبنان المركزي، والذي كان يقدر بـ5.5 مليار يورو". كما أشار التقرير إلى "زيادة مشبوهة في أصول المصرف المركزي بقيمة 6 مليارات دولار، على أساس إجراءات حسابية مشكوك فيها".

وقالت "لوموند" إن منتقدي حاكم المصرف اللبناني رياض سلامة، يعتقدون أن مناطق الظل هذه، ليست سوى جزء صغير من نظام أكبر، استفادت منه النخبة الحاكمة في لبنان، معتبرين أن مصرف لبنان هو "الصندوق الأسود للنظام السياسي المفترس، الذي تسبب في الوضع السيئ للبنان".

وقال الخبير الاقتصادي توفيق غاسبار للصحيفة، إن "مصرف لبنان تسلل إلى جميع الدوائر الاقتصادية في البلاد، واستفادت منه الطبقة السياسية بشكل كبير".

سلامة: العجز ليس مسؤولية المصرف

وفي رده على أسئلة "لوموند" كتابياً، قال حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، إن "مصرف لبنان أدى مهمته كاملاً، وعمل لمصلحة لبنان"، مؤكداً أن "العجز المزدوج الذي أدى إلى الهشاشة (العجز في الميزانية والعجز في الحساب المالي) ليس مسؤولية المصرف".

وفي بداية نوفمبر الجاري، أكد رياض سلامة أن "لبنان ليس دولة مفلسة"، رابطاً الأزمة الحالية بالتوترات الإقليمية، وهي التصريحات التي لم يهضمها الكثير من اللبنانيين، الذين يجدون صعوبة في الوصول إلى مدخراتهم في البنوك منذ عام تقريباً.

وبشأن التدقيق الجنائي، أكد سلامة لـ"لوموند" أن "بنك لبنان تعاون مع شركة ألفاريز آند مارسال".

وقالت الصحيفة الفرنسية إن مسار الإجراءات المتبعة مثير للشكوك، مشيرة إلى أن سلامة ومن خلال شبكته داخل المؤسسة المالية اللبنانية، "ضاعف العقبات أمام شركة التدقيق المالي".

وتابعت الصحيفة أن أحد أبرز المسؤولين، وهو رئيس مجلس النواب نبيه بري، زعيم "حركة أمل"، "حال دون ترشيح شركة التدقيق الأميركية (كرول)، بسبب ما قال إنه ارتباط بين الشركة وإسرائيل". واعتبرت الصحيفة أن "تصريحات بري لا أساس لها من الصحة، فترشيح (كرول) لم يقلق حتى حزب الله اللبناني، الموالي لإيران، والذي يعتبر أشد المعادين لإسرائيل".

وأكدت "لوموند" أن رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري، "يعارض بشدة التدقيق الجنائي"، معتبرة أن موقفه منطقي بسبب استفادة "بنك البحر المتوسط" الذي يشارك في رأس ماله مالياً، إضافة إلى قربه من سلامة، الذي كان مقرباً لفترة طويلة من والده، رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، الذي اغتيل في عام 2005.

وقال الخبير الاقتصادي توفيق غاسبار، إن "الرسالة التي أرسلها رياض سلامة إلى الطبقة الحاكمة في لبنان، مفادها: إذا غرقتُ فستغرقون أيضاً"، مؤكداً أن "الكارثة في لبنان، هي نتيجة عقود من سوء الإدارة والفساد، بقيادة النخبة الأوليغارشية".

وأشارت الصحيفة إلى أنه "على الرغم من الضغوط التي مورست، إلا أن حكومة دياب صمدت، واختارت  في يوليو الماضي شركة (ألفاريز آند مارسال). وفي بداية سبتمبر الماضي، أرسلت هذه الشركة إلى مصرف لبنان قائمة بـ 129 طلباً، ولكن رد المؤسسة المالية اللبنانية كان أقرب إلى اعتراض".

ورفض مصرف لبنان تلبية 58٪ من طلبات الشركة الأميركية، سواء كانت مالية (تقديم مستندات الحسابات)، أو إدارية (تقديم قائمة موظفي مصرف لبنان منذ عام 2015)، أو حتى لوجستية (اتاحة مكتب يستخدمه خبراء الشركة)، وفقاً لـ"لوموند".

 وقال خبير اقتصادي لبناني، فضل عدم الكشف عن هويته للصحيفة، إن "شركة ألفاريز آند مارسال، فهمت جيداً أن الجحيم في انتظارها، ولهذا قررت الانسحاب".

وفي تصريحه لـ"لوموند"، برر رياض سلامة موقفه مع الشركة الأميركية، بالمادة 151 من قانون العملة والائتمان التي "تمنع البنك المركزي من الكشف عن الحسابات المفتوحة لديه"، كما أكد أنه "طلب من وزير المالية تفويضاً كتابياً، لتسليم الحسابات السيادية، ولم يصله أي رد".

الخوف من الكواليس

المدير العام السابق لوزارة المالية اللبنانية آلان بيفاني، لـ"لوموند"، إن "الحسابات السيادية ملك للدولة، والدولة هي التي عينت ألفاريز آند مارسال للتدقيق المالي"، مضيفاً أنه "لا يوجد إذاً أي شيء يمكن طلبه".

وكان المجلس الاستشاري الأعلى لوزارة العدل اللبنانية، قرر أن حجة "السرية المصرفية" التي استخدمها مصرف لبنان "غير مقبولة".

وخلال الأيام القليلة الماضية، كشف مقربون من رياض سلامة، أن التدقيق في مصرف لبنان سيُجريه المصرف الفرنسي المركزي، وهي فكرة اقترحها الصيف الماضي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي يشدد على أهمية التدقيق الجنائي.

لكن وفقاً لمصادر "لوموند"، فإن مصرف فرنسا المركزي لا ينوي تنفيذ هذه العملية، مشيرة إلى أنه التزم فقط بتقديم المساعدة الفنية، بصفته "طرفاً ثالثاً موثوقاً به".

وأشارت الصحيفة إلى أن الأوساط الإصلاحية في لبنان، تخشى من أن التقارب بين مصرفي لبنان وفرنسا، سيقود إلى ترتيبات خلف الكواليس بين المانحين الدوليين وحاكم مصرف لبنان، وهي "الصفقة" التي من شأنها أن تدفن التدقيق الجنائي.

وقال مصدر حكومي لـ"لوموند" إن "المجتمع الدولي وفّر التغطية للطبقة الساسية اللبنانية لمدة ثلاثين عاماً"، متسائلاً عما "إذا كان بإمكانه أن يوفر له الإفلات من العقاب، مقابل تعهد بسيط بتغيير ممارساته؟".