
قال مسؤولون أميركيون لمجلة "فورين بوليسي" إن الصين تراقب تحركات عملاء وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية الذين يعملون في مهام حساسة بإفريقيا وأوروبا، بمجرد مسح جوازات سفرهم في المطارات.
وبحسب المسؤولين الأميركيين، تأخذ هذه المراقبة أشكالاً مختلفة، وتكون مكشوفة أحياناً لدرجة تجعلهم يعتقدون أن الصينيين يريدون أن تعرف واشنطن أنهم على علم بعملاء الـ"سي آي إيه"، لتعطيل مهماتهم، وفي أحيان أخرى تكون خفية ويتم رصدها فقط عبر تقنيات الرقابة المتطورة لعملاء الاستخبارات الأميركية.
وذكرت المجلة أن بكين تتقدم خطوات في حرب البيانات مع الولايات المتحدة، وسط تقارير عن قلق وكالة الاستخبارات الأميركية من قدرة نظيرتها الصينية على تحديد عملاء "سي آي إيه" الذين يغادرون إلى إفريقيا وأوروبا في مهمات حساسة، ضمن فصل جديد من معركة المعلومات التي ترسم مسار الصراع بين القطبين الكبيرين.
وتستغل "سي آي إيه" توسع الحضور الصيني عالمياً لحشد المزيد من الموارد، وقال مسؤول سابق في الوكالة: "لا نستطيع أن نصل إليهم في بكين، ولكن يمكن أن نفعل ذلك في جيبوتي".
وأضاف المسؤول في حديث لـ"فورين بوليسي": "انظر في خارطة مبادرة الحزام والطريق لترى أنشطتنا تحدث، فهناك توجد أهدافنا"، في إشارة إلى المبادرة الصينية لربط بكين بالعالم.
وكشف مسؤول سابق آخر أن الولايات المتحدة تنشط بقوة في تجنيد الروس والصينيين بإفريقيا، لافتاً إلى أن "تحركات الصين العدائية الأخيرة لتتبع العملاء الأميركيين تمثل رداً على محاولات التجنيد هذه".
حرب البيانات
ووفقاً لـ"فورين بوليسي"، أزعجت عمليات التتبع الصينية قيادات "سي آي إيه" الحريصين على ألا تعرف بكين أبداً هوية عملائها السريين وأماكن انتشارهم.
وفي غياب أي أدلة ظرفية، يتساءل قادة الاستخبارات الأميركية عن الطريقة التي استطاعت بها الصين كشف جواسيسهم، ففي أزمنة سابقة كانت الأنظار تتجه في مثل هذه الحالات إلى خائن محتمل، أو ثغرة في برنامج الاتصالات السري.
لكن في الأزمنة الحديثة يعتقد مسؤولو الاستخبارات أن الجواب يكمن في البيانات، وتحديداً الهجمات الإلكترونية الصينية المكرّسة لسرقة قدر هائل من المعلومات الشخصية، من قبيل بيانات السفر والصحة، إضافة إلى أرقام الهواتف الشخصية للمسؤولين الأميركيين.
ويعتقد المسؤولون الأميركيون أن عملاء الاستخبارات الصينية فحصوا بعمق هذا الكم الهائل من البيانات المسروقة لتحديد العملاء السريين الأميركيين.
ووصف مسؤول الاستخبارات السابق عمليات التتبع بأنها "توظيف دقيق واحترافي للبيانات"، مؤكداً بحسب المجلة أن القضية "ليست عشوائية أو عامة وإنما مشكلة بيانات كبيرة".
ولم تعلّق "سي آي إيه" على القصة، كما رفضت السفارة الصينية في واشنطن الرد على طلبات متكررة لـ"فورين بوليسي" للتعليق.
ووفقاً للمجلة، تحدد المعركة حول البيانات من يتحكم فيها، ومن يستطيع سرقتها، والطريقة التي يمكن أن تستخدم بها لتحقيق أهداف اقتصادية وأمنية، أطر الصراع العالمي بين واشنطن وبكين.
وأشارت إلى أن الصراع حول البيانات حدد بالفعل مسار السياسة الصينية، وهو الآن بصدد تغيير مسار السياسة الخارجية الأميركية، وأسلوب واشنطن في جمع المعلومات الاستخباراتية حول العالم.
وكما استخدمت الصين البيانات سيفاً ودرعاً ضد الولايات المتحدة، تسعى وكالات الاستخبارات الأميركية إلى اختراق تدفق البيانات الصينية، واستخدام قدراتها المعلوماتية الكبيرة، لتحدد بدقة حجم ما تعرفه الصين عن عملاء الولايات المتحدة وعملياتها.
تفوّق صيني
ويرى مسؤولون أميركيون أن بكين تمتلك العديد من المزايا في حرب البيانات، وذلك بفضل نظام مراقبة الكل الذي تعتمده في رصد تحركات مواطنيها، وشبكات الشركات الصينية، إضافة إلى هجماتها الإلكترونية العالمية، وقدرتها على التركيب السريع لهذه البيانات المستقاة من مصادر مختلفة واستخدامها كسلاح.
وأفاد مدير المركز الوطني الأميركي للأمن ومكافحة التجسس، ويليام إيفانينا، أن الصين من "الدول الرائدة في جمع البيانات الشخصية حول العالم، مستخدمة في ذلك الوسائل القانونية وغير القانونية".
وأضاف إيفانينا أن الصين استطاعت "الحصول على البيانات الشخصية لمعظم سكان الولايات المتحدة، بما في ذلك بيانات حول الصحة والوضع المالي والسفر وغيرها من المعلومات الحساسة"، من خلال هجماتها الإلكترونية.
وأشارت المجلة إلى أن حرب البيانات بين واشنطن وبكين تكتسب أهمية كبرى لدى الاستخبارات بالبلدين، وأن "المعلومات تحكم عالم الاستخبارات، وكلما زادت أعطت تفوّقاً أكبر"، كما يقول ستيف رايان عميل الاستخبارات الأميركي السابق، والرئيس التنفيذي الحالي لشركة "ترينتي سايبر" للأمن الإلكتروني.
وفي حقبة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، كانت المعلومات تأتي غالباً مبتورة وعلى مراحل متقطعة، رسالة معترضة هنا، وتقرير من مصدر بشري من هناك؛ أما اليوم فإن طبيعة الحياة اليومية التي تقودها البيانات خلقت، بحسب المجلة، قدراً هائلاً من المعلومات التي يمكن اختلاسها دفعة واحدة، ومن ثم استخدامها من جهات مثل بكين، لتغذية كل شيء من استهداف العملاء الأميركيين إلى تعزيز الشركات الصينية المدعومة من الدولة.
ولكن للبيانات هدفاً آخر يتعلق بالسياسة الداخلية، إذ تعتقد الصين، بحسب مسؤولين أميركيين سابقين وحاليين، أن "البيانات تحقق الأمن وتضمن استقرار النظام في وجه التهديدات الداخلية والخارجية للحزب الشيوعي الحاكم"، لافتين إلى أن مزيجاً من هذه التهديدات هو الذي أوجد الحافز لهذه الحملة الصينية لمكافحة التجسس الموجهة ضد الولايات المتحدة، والتي وصفوها بأنها الأكثر عدائية حتى الآن.
عهد جديد بدعم إيراني
إن الوضعية الهجومية الحالية لبكين تخفي، وفقاً للمجلة، تاريخاً من الضعف الاستخباراتي الذي كانت فيه الصين مجرد هدف للاستخبارات الأميركية.
وفي عام 2010 بدأ عهد جديد، عندما اكتشف المسؤولون الصينيون أن "سي آي إيه" اخترقت عبر السنين حكومتهم على نحو منهجي، مع عملائها المزروعين في الجيش، والحزب الشيوعي الصيني، وجهاز الاستخبارات، وغيرها من المراكز الحساسة، وهو ما أثار غضبهم جداً.
وقال مسؤول أميركي كبير في مكافحة التجسس: "لقد طال الغضب حينها أعلى مستويات الحكومة الصينية".
لكن ثغرة في النظام الإلكتروني الذي تستخدمه "سي آي إيه" للتواصل مع عملائها (اكتشفت بداية في إيران ويعتقد أن طهران مررتها إلى بكين)، مكنت الاستخبارات الصينية بين عامي 2010 و2012 من أن تستأصل بلا رحمة شبكة عملاء "سي آي إيه" في الصين ضمن عمليات واسعة، أدت إلى مقتل وسجن عشرات الأشخاص.
وبحسب "فورين بوليسي"، لم يكن الغضب بسبب الاختراق الأميركي للدولة فقط، وإنما أيضاً بسبب حجم الفساد الكبير الذي تم كشفه، مع فضح الاستخبارات الصينية للأساليب الأميركية في التجنيد، ففي الصين الغنية حديثاً مع بدايات الألفية الجديدة، كان الفساد شائعاً بين المسؤولين، لدرجة أن المسؤول الذي لا يشارك في الفساد ينظر إليه على أنه أحمق وخطر على زملائه، وقد استغلت "سي آي إيه" هذا الوضع.
وكانت الوكالة الأميركية تغدق على عملائها حينها، فالجواسيس الكبار في المنشآت الدبلوماسية يتلقون مبالغ تصل إلى مليون دولار في العام، كما كانت "سي آي إيه" تدفع عن عملائها ما يعرف بـ"رسوم الترقية"، وهي رشوة مفروضة على الموظفين الذين يريدون الترقي في السلم الوظيفي، وكانت هذه الرشوة تخدم أهداف الوكالة، فكلما ترقى عملاؤها في السلطة كان ذلك أفضل.
ومن هنا أدركت الصين، بحسب المجلة، أن القضاء على الاختراق الأميركي يتطلب أيضاً مكافحة الفساد، وهو ما دفع زعيم الحزب الشيوعي حينها والرئيس الحالي شي جين بينغ في عام 2012 إلى إعلان حملة ضد الفساد قادت إلى تطهير واسع في مختلف مستويات الدولة.
وقال مسؤول أميركي سابق "لقد كانت الحملة ضد الفساد مدفوعة بالرغبة في تعزيز السلطة، ولكنها كانت أيضاً حول إنهاء الطريقة التي يمكن أن تستفيد بها الولايات المتحدة من الفساد، وكان هذا يتطلب تحديداً التعامل مع رسوم الترقية".
حرب الإنترنت
وبعد التعامل مع ملفي العملاء والفساد، بدأت الصين تدرك الأهمية الكبيرة للبيانات، حين كشفت وثيقة مسرّبة في عام 2013 مستوى الاختراق الكبير لوكالة الأمن القومي الأميركي لخدمات شركة هواوي الصينية للاتصالات.
وذكر محلل سابق في الاستخبارات الأميركية: "لقد أدرك المسؤولون الصينيون كيف أن الإنترنت والتكنولوجيا استخدما على نحو شامل ضدهم بطريقة لم يكونوا يتصورونها حتى ذلك الحين.. لقد انتبهوا إلى أن أنظمة الإنترنت التي لم يصنعوها توجه ضدهم كسلاح".
ومنذ ذلك الحين أسست الصين، بحسب مسؤولين أميركيين، نظاماً استخباراتياً معقداً لجمع البيانات بما في ذلك تتبع الرحلات الجوية والمسافرين لأغراض تجسسية.
كما سرّعت بكين هجماتها الإلكترونية التي تستهدف البيانات البيومترية للمسافرين في المطارات، بما في ذلك القرصنة الصينية الناجحة لبيانات من مطار بانكوك الدولي، وبدأت الانتقال من مجرد جمع البيانات إلى تمحيصها من أجل الاستخدام.
ولاحظ المسؤولون الأميركيون أن المنشآت الاستخباراتية في الصين أصبحت في الغالب مجاورة لمراكز معالجة اللغة والبيانات.
وأفضت هذه القدرات المعلوماتية الجديدة إلى الاختراق الصيني الناجح لمكتب شؤون الموظفين في الولايات المتحدة، والذي مكن القراصنة الصينيين من سرقة بيانات مفصلة وحساسة لـ21.5 مليون موظف أميركي حالي وسابق.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لم تفصح علناً عن الاختراق إلا في عام 2015، إلا أن المسؤولين الأميركيين كانوا على علم به قبل ذلك التاريخ.
ومنح هذا المزيج من بيانات السفر المسروقة ومعلومات مكتب شؤون الموظفين الاستخبارات الصينية، بحسب المجلة، أدلة قوية تمكنها من تحديد العملاء المحتملين للاستخبارات الأميركية، ومن ثم تتبعهم في مواقع تمركزهم، ورصد اتصالاتهم بمصادرهم الصينية.
كما يخشى المسؤولون الأميركيون أن تمكن هذه البيانات الصين من تتبع المنشقين والأعداء المحتملين لبكين حول العالم.
وقالت المجلة إن الصين تمتلك حالياً معرفة غير مسبوقة بنظام العمل في الولايات المتحدة، وهو ما يُصعّب تعامل واشنطن التي تحلّق بعين واحدة بعد تفكيك شبكة جواسيسها في الصين.