تخلّى العشرات من ضباط شرطة العاصمة البريطانية عن أسلحتهم النارية، بعد إدانة زميل لهم بقتل شاب من أصحاب البشرة السمراء يبلغ من العمر 24 عاماً.
وأدى ذلك لطلب المسؤولين في لندن الدعم من قوات الأمن في المدن الأخرى، حتى أن الجيش نفسه استعد لسد ذلك النقص في القوة الأمنية التي تسبب بها الضباط المحتجون.
وقال رئيس الحكومة البريطانية ريشي سوناك إن الشرطة تحتاج إلى محددات واضحة لعملها، عندما يضطر أفرادها إلى استخدام السلاح للحفاظ على الأمن. كذلك وقفت وزيرة الداخلية إلى جانب الضباط في ضرورة حماية عناصر الشرطة من العقاب والمساءلة القانونية عندما يحتاجون لاتخاذ قرارات مصيرية خلال أجزاء من الثانية.
هذه هي ليست المرة الأولى التي تتصدر الشرطة فيها عناوين الإعلام هذا العام، فخلال الأشهر الماضية تكشفت عدة مشكلات يعانيها النظام الأمني دفعت بالمسؤولين لإعادة تقييمه، والبحث وراء مواطن الخلل التي هزت ثقة الشارع بأداء هذه القوة التي تضم عشرات الآلاف من الضباط والعناصر، في العاصمة وحدها.
وواجهت الشرطة مؤخراً اتهامات بالعنصرية والتمييز ضد النساء داخل وخارج المؤسسة الأمنية، كما طالتها انتقادات لتجاهل عناصرها وتساهلهم مع الجرائم الصغيرة التي باتت تزعج الأفراد والشركات معاً، ناهيك عن تلك الملاحظات التي ترافقت مع تطبيق الشرطة لقانون النظام العام الجديد قبل أشهر.
أزمة استخدام السلاح
تعود حادثة قتل الشاب كريس كابا على يد شرطة العاصمة البريطانية إلى سبتمبر من العام الماضي، لكن قرار المحكمة صدر بشأنها منذ أيام قليلة، إذ أدين الضابط الذي أطلق النار رغم أنه برر فعله بأن كابا كان يقود سيارة تلاحقها الشرطة بسبب وجودها بموقع جريمة قبل فترة، لكن يبدو أن هذا المبرر لم يكن كافياً بالنسبة للقضاء.
وبثت إدانة الضابط الخوف في قلوب زملائه، فقرر المئات منهم التخلي عن أسلحتهم خشية مصير مماثل إذا ما اضطروا لإطلاق النار على مدنيين أثناء تأدية واجبهم.
ولكن تلك الخطوة خلقت ثغرة أمنية دفعت وزارة الدفاع لإعلان جاهزية الجيش لتعويض نقص قوات الأمن المسلحة في العاصمة لندن.
وبعد اتصالات حثيثة ومكثفة بين المؤسسات المعنية، أعلن عمدة لندن صادق خان أن المدينة الأكبر في بريطانيا عادت محمية بعد تخلي بعض الضباط عن تمردهم، والاستعانة بقوات أمنية مسلحة من مدن أخرى، مؤكداً أنه على تواصل مستمر مع مفوض شرطة العاصمة، ولم تعد هناك حاجة إلى الاستعانة بالجيش.
مساءلة أفراد الشرطة
انتهاء استنفار الجيش لم يعالج أزمة "المتمردين" في الشرطة، فالخشية من المحاكمة عند استخدام الضباط للأسلحة تحتاج إلى حل، كما يقول رئيس الوزراء ووزيرة داخليته، رغم أن الأرقام تقول إن 10 حوادث فقط أصيب فيها مدنيون بنار الشرطة في إنجلترا وويلز بين مارس 2022 ومارس 2023.
ولم يظهر مفوض الشرطة السير مارك بيتر رولي حماسة مشابهة لما أبداه ريشي سوناك وسويلا برافرمان في الدفاع عن "الضباط المتمردين"، وقال في رسالة وجهها إلى وزيرة الداخلية إن "أفراد الشرطة مدربون لاتخاذ القرار الصحيح في أضيق اللحظات، ومساءلة أياً كان عن قراره هو أمر ضروري من أجل المحافظة على نزاهة القوة الأمنية وصورتها أمام الشارع، كما يتيح لنا تطوير أدواتنا".
وانخرطت الشرطة في إنجلترا وويلز خلال عام واحد بـ18395 عملية إطلاق نار، كانت حصة العاصمة منها نحو 20%. كما تشير الأرقام إلى أن أكثر من 6500 شرطي مسلح يعمل في الإقليمين معاً، نحو 3000 بينهم في لندن وحدها، وفق بيانات وزارة الداخلية الصادرة نهاية مارس.
سوء السلوك المهني
وتبدو الملاحقة القانونية عند سقوط مدنيين بأسلحة الضباط أو العناصر أقل المخاطر التي يجب أن تخشاها مؤسسة الشرطة حالياً، فهناك اتهامات ودعاوى موجهة لأفرادها بسوء السلوك والعنصرية على أساس العرق والجنس. وقد وثقت تحقيقات داخلية وبرلمانية هذه المشكلات؛ التي تكبر مخاطرها وفق مختصين.
قبل نحو أسبوع، أظهر تقرير رسمي أن 1600 شرطي في لندن كانوا محل استجواب بسبب ممارسات غير مهنية، حتى أن نحو 200 بينهم موقوفون عن العمل، و860 آخرين مهامهم مقيدة، فيما تستمر جلسات الاستماع لجزء ثالث بمعدل جلستين يومياً، للتحقق من الادعاءات المرتبطة بسلوكهم المسيء مهنياً.
بحسب مساعد مفوض شرطة العاصمة ستيورات كندي، فإن عملية تطهير المؤسسة الأمنية من المخالفين لقواعد السلوك المهني قد تستغرق سنوات.
وأوضح في حديث لهيئة الإذاعة البريطانية أن 100 ضابط وعنصر طردوا من العمل، وهناك مئات الأفراد مهددون بذات المصير في ختام جلسات الاستماع الحالية.
وتضم شرطة لندن بين صفوفها أكثر من 34 ألف ضابط وعنصر. ويقول مساعد مفوض شرطة العاصمة "إن المئات من هؤلاء لا يستحقون البقاء في العمل، لكن الأمر يعود إلى محاكم ولجان مختصة لتقرير مصيرهم. ويمكن أن يتعارض رأي هذه الجهات مع قناعة القائمين على شرطة العاصمة وتوجهاتهم".
"مؤسسة عنصرية"
قبل أسبوعين فقط من "تمرد الضباط"، نشرت صحيفة "الجارديان" تقريراً عن 5 ضباط سابقين في شرطة العاصمة أرسلوا بين 2020 و2022، رسائل عنصرية بشأن مسؤولين في الحكومة مثل رئيس الوزراء ووزيرة الداخلية، إضافة إلى شخصيات من الأسرة الملكية مثل ميجان ماركل، زوجة الأمير هاري.
وسبق ذلك بنحو 6 أشهر صدور مراجعة مستقلة تصف الشرطة بالمؤسسة العنصرية. كما كشفت المراجعة، التي قادتها عضو مجلس اللوردات لويز كيسي، عن إخفاقات جسيمة في الجهاز وحاجته الماسة إلى إصلاحات جذرية، مشيرة إلى أن التحقيق في سوء سلوك ضباط وعناصر الشرطة يستهلك أوقاتاً طويلة.
وكانت قائدة شرطة العاصمة السابقة ريسيدا ديك هي من أمر بإجراء المراجعة عام 2021 بعد الحكم بالسجن مدى الحياة على ضابط اغتصب وقتل الشابة سارة إيفرارد.
وقد أكدت المراجعة ما ورد في تحقيق أجري عام 1999 بشأن مقتل مراهق أسود يدعى ستيفن لورنس، وخلص إلى أنّ قوة الشرطة تتسم بالعنصرية.
ويقول الباحث في الشؤون الأمنية مارك ويبر لـ"الشرق" إن ثقة البريطانيين بالشرطة اهتزت كثيراً، بعد التقارير والأخبار السلبية التي صدرت منذ بداية العام الجاري بشأن سلوك أفرادها، مشيراً إلى أن إصلاح هذه المؤسسة ليس أمراً سهلاً في ظل تجذر مشكلاتها وتفاقمها على مدار نحو ثلاثة عقود.
التمييز ضد النساء
ويعد التمييز ضد المرأة داخل أو خارج العمل من أبرز المآخذ على أفراد الشرطة. وما عرف في قضية الضابط ديفيد كاريك مطلع العام الجاري يكفي لفهم مدى تفشي العنصرية ضد النساء داخل هذه المؤسسة. فقد اعترف كاريك بارتكاب 24 جريمة اغتصاب خلال نحو عقدين دون أن يكتشف أمره أو يبلغ ضده.
واعتذرت الشرطة حينها عن فشلها في كشف انتهاكات كاريك، لكن تعهدها بمعالجة العنف والكراهية ضد النساء لم يرتق بعد إلى المستوى المطلوب، بحسب الرئيسة التنفيذية لمنظمة مكافحة الاغتصاب في إنجلترا وويلز جين بتلر، التي تتهم الشرطة بأنها لا تولي هذه المسألة ذات الأهمية التي تتبناها لمواجهة جرائم أخرى.
وتوضح بتلر، في مقالة نشرتها على موقع المنظمة، أن جرائم رجال الشرطة بحق النساء تفضح عقوداً من غض الطرف عن ثقافة الكره والتمييز على أساس الجنس داخل المؤسسة، مشددة على ضرورة تبني السلطات المختصة لجملة من الإجراءات التي من شأنها إعادة ثقة المرأة البريطانية بضباط وعناصر الشرطة.
وتشير الأرقام إلى أن أكثر من 275 ضابطاً وعنصراً من شرطة العاصمة متورطون في قضايا عنف ضد المرأة بين مارس 2022 و2023، مقارنة بنصف هذا العدد تقريباً في العام الذي سبقه، ما يحد من تفاؤل الشارع بإمكانية انتهاء هذه المشكلة التي باتت تؤثر سلباً على تعاطف وتعاون الناس مع الشرطة.
الجرائم الصغيرة
وإذا كانت المراجعات المستقلة والرسمية قد نجحت في دفع الشرطة لبذل مزيد من الجهد لمعالجة مشكلات العنصرية والتمييز داخل المؤسسة، فإن التساؤلات مستمرة بشأن أنواع الجرائم التي تصنف بـ"الصغيرة"، لكنها باتت تؤرق الأفراد والمؤسسات التجارية على السواء، فهل يمكن تحفيز الشرطة لملاحقة أكبر لمرتكبيها؟
وكالة الصحافة الألمانية نشرت مؤخراً تقريراً تصف فيه العام الجاري في بريطانيا بـ"عام اللصوص"، بعد انتشار السرقة من البقالات ومنافذ البيع، مما دفع المتاجر الكبرى إلى مزيد من التدابير لمنع هذه الظاهرة، مثل زيادة عدد أفراد الأمن أو كاميرات المراقبة، ومطالبة المتسوقين بإظهار فواتير الشراء قبل مغادرة المتجر.
ووجهت وزيرة الداخلية سويلا برافرمان رسالة إلى الشرطة تطالب فيها بجدية التحقيق في جرائم السرقة من المتاجر أو من الأفراد في الشارع والأماكن العامة، لكن القائمين على المؤسسة ردوا بأن مثل هذا الأمر يعني "تشتيت جهود الضباط والعناصر وتقليل الانتباه والتركيز على الجرائم الكبيرة وحماية أمن البلاد".