تجاوزت تداعيات الحرب الجارية في قطاع غزة، منطقة الشرق الأوسط، لتصل إلى الجامعات الأميركية الكبرى، التي تحولت إلى ساحة لصراع الخطابات بين الطلاب المؤيدين لطرفي النزاع، وسرعان ما توسع نطاقها لتضم سياسيين ورجال أعمال انتقدوا الأصوات التي تحمّل إسرائيل مسؤولية العنف، بينما خرج مئات الطلاب، الخميس الماضي، في مسيرات لإعلان التضامن مع فلسطين بعدد من الجامعات، منها أريزونا، وفرجينيا، وأوهايو، ونيويورك، وجورج تاون في واشنطن، وجامعات أخرى.
أول ردود الفعل بدأت من جامعة هارفارد المرموقة، الاثنين الماضي، حين أصدر ائتلاف يضم 34 منظمة طلابية بالجامعة بياناً اعتبر فيه أن هجوم حركة "حماس" ضد إسرائيل "لم يأت من فراغ" ويحمّل "النظام الإسرائيلي المسؤولية الكاملة عن جميع أعمال العنف المنتشرة”، بعد عقود من الاحتلال، مؤكداً أن "نظام الفصل العنصري هو المسؤول الوحيد".
البيان أثار ردود فعل غاضبة في وسائل الإعلام الأميركية ومواقع التواصل الاجتماعي، ومن سياسيين تخرجوا في الجامعة على غرار عضو مجلس الشيوخ تيد كروز الذي اتهم الموقعين على البيان بـ"دعم الإرهابيين"، والنائبة إليز ستفيانيك التي طالبت الجامعة بإدانة البيان.
من جانبها أعلنت كلودين جاي، رئيسة الجامعة، أن البيان المؤيد للفلسطينيين، "لا يعبّر عن المؤسسة التعليمية ككل، أو قيادتها"، لكنها قالت في بيان: "دعوني أؤكد أيضاً أنه بينما يحقّ لطلابنا التحدث بالنيابة عن أنفسهم، ينبغي ألا تتحدث أي مجموعة طلابية أو حتى 30 مجموعة باسم جامعة هارفارد، أو قيادتها".
ضغوط وتهديد
وتصاعدت ردود الفعل الغاضبة لتشمل رجال أعمال أميركيين طالبوا بالكشف عن أسماء الطلاب الموقعين على البيان المؤيد لفلسطين، وهددوا بإدراجهم على قوائم شركاتهم السوداء، حتى لا يتم توظيفهم عقب التخرج، حسبما نقلت مجلة "فوربس".
ونشرت عدد من المواقع المحلية أسماء الطلاب الذين وقعوا على البيان المؤيد لفلسطين، فيما قاد مجهولون شاحنة في محيط الجامعة، تحمل لوحة إلكترونية تُظهر صور وأسماء الطلاب الموقعين على البيان.
ومع تزايد الضغوط، أعلن عدد من الطلاب سحب توقيعهم على البيان.
وكانت المجموعة الطلابية التابعة لمنظمة العفو الدولية بجامعة هارفارد، بين من سحبوا التوقيع، ولم يرد مكتب المنظمة في واشنطن على طلب "الشرق" للتعليق.
وفي جامعة نيويورك، فقدت رئيسة نقابة المحامين الطلابية، رينا ووركمان، عرض عمل في شركة المحاماة "وينستون آند سترون"، بعد أن كتبت بياناً في النشرة الإخبارية الطلابية للمجموعة جاء فيه أن "إسرائيل تتحمل المسؤولية الكاملة عن هذه الخسارة الفادحة في الأرواح"، ورفضت إدانة "حماس"، وهو ما أثار موجة انتقادات واسعة من أكاديميين وسياسيين، بينهم النائب الديمقراطي عن نيويورك ريتشي توريس.
وأرجعت "وينستون آند سترون"، قرارها بإلغاء عرض التوظيف إلى أن تعليقات ووركمان "تتعارض بشدة مع قيم وينستون آند سترون".
لكن ردود الفعل الغاضبة لم تمنع العديد من المجموعات الطلابية المؤيدة لفلسطين في عدد من الجامعات الأخرى من إصدار بيانات، أو المشاركة في مظاهرات تدافع عن "المقاومة الفلسطينية".
"العدالة في فلسطين"
وخرج المئات من الطلاب المنضوين تحت ائتلاف "طلاب لأجل العدالة في فلسطين"، الخميس، في مسيرات منسقة للتضامن مع فلسطين بعدد من الجامعات، منها أريزونا، وفرجينيا، وولاية أوهايو، ونيويورك، وجورج تاون في واشنطن، وجامعات أخرى.
وقال ناشط بمجموعة "طلاب القانون لأجل العدالة في فلسطين" وهي جمعية أسسها مجموعة من الطلاب بجامعة جورج تاون، لـ"الشرق"، إن "هناك حالة من "القلق والخوف وسط الطلاب المؤيدين لفلسطين، منعت الكثير من الخروج للتعبير عن آرائهم".
ولفت الناشط، الذي رفض الإفصاح عن اسمه، إلى أن "ما حدث لطلاب جامعة هارفارد يدفع الكثيرين للخوف من الانتقام عبر التشهير في وسائل الإعلام بنشر أسمائهم وصورهم باعتبارهم داعمين للإرهاب".
وأضاف الناشط، الذي رفض كشف اسمه، أنه "في الوقت نفسه، لا يمكننا السكوت على المساعي الرامية للترويج للخطاب الإسرائيلي، الذي يعطي الانطباع بأن حياة الإسرائيليين أهم من حياة الفلسطينيين، والذي يصور المقاومة الفلسطينية على أنها إرهاب، من خلال إنكار انتهاكات حقوق الإنسان المستمرة التي ترتكبها إسرائيل في حق الفلسطينيين منذ عقود".
وتابع: "لذلك فإن الطلاب يخرجون في المظاهرات، وهم يرتدون أقنعة تُخفي وجوههم، مخافة الكشف عن هويتهم".
محاولات "إغلاق النقاش"
برايان كاتوليس المسؤول السابق بوزارة الخارجية الأميركية، ونائب رئيس معهد الشرق الأوسط للسياسات حالياً، اعتبر أن الخطابات التي يتبناها الطلاب المحسوبون على الطرفين، "تغلب عليها العاطفة".
وقال كاتوليس لـ"الشرق"، إن "ردود الفعل التي أعقبت تلك الخطابات من القوى غير الليبرالية وغير المتسامحة سواء من اليمين أو اليسار، تعمّق من مشكلة تجريد الفلسطينيين والإسرائيليين من إنسانيتهم على حد سواء"، معتبراً أن "هذه المناقشات لا تخدم الأغراض البناءة للاستجابة للتحديات الفعلية على الأرض في الشرق الأوسط".
وبسؤاله عن ردود فعل السياسيين ورجال الأعمال إزاء بيانات الطلاب، قال إن "هذه التصرفات هي أحدث الأمثلة على قيام مجموعات مختلفة من أقصى اليسار وأقصى اليمين بالعمل الإضافي لإغلاق النقاش وخنق الانتقادات بشأن ما تفعله الجهات الفاعلة المختلفة في الشرق الأوسط في هذا الصراع".
وحذر من أن "التأثير المباشر هو إغلاق النقاش البناء بطرق يمكن أن تكون ضارة" بفرص انخراط الولايات المتحدة بشكل بناء في الشرق الأوسط على المدى الطويل.
حق الطلاب في التعبير
في جامعة كولومبيا بنيويورك، خرج عشرات الطلاب المؤيدين لفلسطين، وآخرون مؤيدين لإسرائيل في مظاهرات متفرقة داخل الحرم الجامعي، ما دفع إدارة الجامعة إلى إغلاق الحرم الجامعي أمام العموم، بحسب صحيفة "نيويورك تايمز".
موظف بإدارة جامعة كولومبيا في نيويورك طلب عدم كشف هويته، قال لـ"الشرق"، إن الجامعة أدانت رسمياً هجوم "حماس" على إسرائيل، لكنها "لا تمنع مؤيدي فلسطين من التظاهر، ورفع شعارات تنتقد إسرائيل".
وقال الموظف، وهو من أصول عربية، إنه "ليست هناك أي سياسة ضد الطلاب المدافعين عن فلسطين خلال الظروف الحالية. هناك فقط القانون الداخلي للجامعة الذي يكفل لجميع حقوق الطلاب في التعبير عن الرأي، التظاهر وتوقيع عرائض أي قضية يدعمونها".
وأضاف: "لكن الواقع شيء آخر. في حين أنه لن تتخذ في حقك أي إجراءات قانونية أو تأديبية، فأنت، كمدافع عن فلسطين، قد تتعرض لمضايقات وقمع ممنهج من الأفراد الذين تتعامل معهم في الجامعة. لأن الكل سيعتبرك من مناصري الإرهاب والمشجعين عليه".
غضب بين الطلاب اليهود
وأدانت معظم الجامعات الأميركية، هجوم "حماس" ضد إسرائيل، غير أنها سمحت بتنظيم مظاهرات مؤيدة لفلسطين، وهو ما أثار انتقادات من جانب الطلاب الإسرائيليين.
وانتشر مقطع فيديو بشكل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي في الولايات المتحدة، يُظهر طالبة يهودية وهي تبكي، بينما تخاطب أحد المسؤولين بإدارة جامعة واشنطن، في أثناء مظاهرة مؤيدة لفلسطين. وتظهر الطالبة في مقطع الفيديو، وهي تقول: "إنهم يريدون الموت لشعبي. يريدون قتلنا.. لماذا تسمحون بهذه المظاهرة؟ لماذا لا تضعون حداً لها؟".
في المقابل شدد منظمو المظاهرة على أنها ليست لمساندة "حماس"، بل للدفاع عن حق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
وتداولت وسائل إعلام أميركية مقطع فيديو لإحدى المشاركات في المظاهرة، وهي تقول: "في الأسبوع الماضي، شاهد سكان غزة للمرة الأولى باقي أراضيهم الفلسطينية، بعدما تمكنوا من الخروج من السجن الذي فرض عليهم منذ نحو 16 عاماً".
برايان كاتوليس، يرى أن الجامعات يجب أن تكون لديها سياسة "تشجع على التنوع والتعاطف والتسامح مع وجهات النظر المتعددة".
وأضاف أنه يجب على الجامعات أن تسعى إلى توفير بيئات "خالية من التنمر ومحاولات إسكات الرأي الآخر. ومن المؤسف أن عدداً كبيراً للغاية من الناس من كافة جوانب هذا النقاش الحساس انخرطوا بطرق يبدو أنها تُجرّد أولئك الذين لا يشاركونهم وجهات نظرهم بشكل كامل من إنسانيتهم".
وتابع: "إذا كانت مراكز التعليم العالي لدينا غير قادرة على توفير ذلك، فإن هذا لا يبشر بالخير بالنسبة لمستقبل الخطاب الديمقراطي في أميركا".
"تركيز على التطرف"
وعن تعامل وسائل الإعلام الأميركية مع النقاش الحالي في الجامعات بشأن النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، اتهم المسؤول السابق بالخارجية الأميركية وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بأنها تميل إلى تسليط الضوء على "المواقف الأكثر تطرفاً من كلا الجانبين".
واعتبر كاتوليس، أن المشكلة "أعمق كثيراً من مجرد فرض قيود مزعومة على حرية التعبير.. بل هي أصوات غير ليبرالية على جانبي النقاش، تسعى إلى إغلاق الحوار بطرق غير مفيدة. والتأثير الإجمالي لذلك هو تقليل احتمال انخراط الولايات المتحدة بشكل بناء في الشرق الأوسط على المدى الطويل".
ورأى كاتوليس، أن المسار الأفضل للمضي قدماً يتلخص في بناء حوار أوسع نطاقاً بين الأصوات الأكثر اعتدالاً وانفتاحاً التي تسعى إلى السلام في المنطقة.
وقال: "لا يزال هناك في الواقع تحالف قوي من المعتدلين يتعين بناؤه لصالح حل الدولتين، ونأمل أن تحفز المأساة الحالية التي تتكشف على الأرض في الشرق الأوسط على العودة إلى دعم الدبلوماسية والأدوات الأخرى اللازمة لتحقيق حل عادل ودائم للصراع".