بعد تأجيلات متعدّدة، يشرع مجلس الشيوخ الفرنسي في مناقشة مشروع قانون للهجرة وسط خلافات حادة بين المعارضة والأغلبية الحاكمة بشأن بعض بنوده، فيما يلقى التشريع الجديد، دعماً كبيراً من شرائح واسعة من المجتمع.
ويصرّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على تمرير مشروع قانون الهجرة الذي وعد به خلال حملته الانتخابية لعام 2022، والذي قُدّم في فبراير 2023 لمجلس الوزراء، وكان مقرراً أن يُناقش في البرلمان في مارس الماضي، إلا أن السّخط الاجتماعي الذي خلفته خطة "إصلاح التقاعد"، دفع إلى تأجيل مناقشته.
ويعتبر المشروع الذي أحيل إلى البرلمان بعد المصادقة عليه من قبل مجلس الوزراء، الثاني من نوعه في فترة حكم ماكرون، ويأتي في ظل تخوّفات عبّر عنها عدد من المهاجرين بشأن مضامين القانون، في حين تؤكد الحكومة الفرنسية أنها تهدف إلى "حماية حقوق العمال والمهاجرين".
ومن المنتظر أن يحال مشروع القانون إلى الجمعية العامة (مجلس النّواب) من أجل استكمال مسار التصويت عليه، وذلك مباشرة بعد المصادقة عليه من قبل مجلس الشّيوخ (لا تتوفر فيه الحكومة على أغلبية مطلقة).
وفي الوقت الذي يصف فيه ماكرون المشروع بأنه "متكامل ومتوازن"، ويهدف إلى خفض أعداد المهاجرين غير النظاميين وملاحقة شبكات التهريب والتمكن من دمج الرجال والنساء الذين يساهمون في تعزيز قوة فرنسا، تؤكد المعارضة التي يتقدمها الجمهوريون وحزب التجمع الوطني (RN) بأن القانون الجديد "لا يستجيب لتطلعات الفرنسيين الذين ضاقوا ذرعاً من تبعات تدفقات المهاجرين".
ويعتقد ماكرون، أنه يجب أن تكون فرنسا أكثر فعالية في تطبيق حق اللجوء، الذي "يساء استخدامه من قبل شبكات المهربين".
وأكد في حوار مع صحيفة "لوبوان" الفرنسية، أنه "لا يتعين علينا الحد من الهجرة فحسب، بل يجب العمل على المدرسة وقيم الجمهورية"، في إشارة إلى تصاعد أعمال العنف داخل فرنسا.
بنود القانون
ويهدف مشروع القانون، بحسب معطيات نشرها مجلس الشيوخ الفرنسي إلى تعزيز مكافحة الهجرة غير النظامية، وتقديم تصاريح إقامة للعمال غير النظاميين.
كما يعتزم القانون تسريع معالجة طلبات اللجوء، وتبسيط النزاعات الإدارية المتعلقة بحقوق الأجانب، وحتى جعل الحصول على بطاقة إقامة متعددة السنوات مشروطاً بإتقان الحد الأدنى من اللغة الفرنسية.
ومن بين أبرز النقاط التي يتضمنها المشروع الجديد للهجرة، تسهيل إبعاد المهاجرين غير النظاميين إلى بلدانهم الأصلية، خاصة أولئك الذين ارتكبوا جنحاً، وذلك بتقليص سبل استئناف الحكم أمام المحاكم.
ففي السابق مثلاً، كان المهاجر غير الشرعي يملك الحق في أن ينقض قرار الترحيل 10 مرات أمام المحاكم، لكن في حال تمت المصادقة على القانون الجديد، فلن يستطيع المهاجر غير الشرعي نقض قرار المحكمة إلا 4 مرات فقط.
وحالياً، يستفيد المهاجرون غير النظاميين الموجودين في فرنسا منذ 3 أشهر على الأقل من خدمة المساعدة الطبية للدولة، التي تتيح تغطية حتى 100% من مصاريف العلاج. لكن هذه الخدمة يمكن أن تتحول بحسب المشروع إلى مساعدة طبية للحالات العاجلة فقط.
وعلى الرغم من أن مشروع القانون يتضمن إجراءات "قاسية" في حق المهاجرين غير النظاميين، إلا أن اليمين المتطرف اعتبره غير كاف، ويخدم مصالح جزء من المهاجرين.
وفي محاولة للدّفاع عن القانون الذي أعدته حكومته يقرّ ماكرون بأن "فرنسا كانت دوماً بلد هجرة في كل الأوقات، ولا يمكن اعتبار الهجرة مسألة محرمة، ولا يمكن طرحها إلا في أوقات الأزمات"، وأضاف في مقابلة مع "أوروبا 1"، أنه يجب التعامل مع الهجرة والمهاجرين بمنظور إنساني.
انقسام سياسي
ترفض أحزاب اليمين (الجمهوريون) واليمين المتطرف (الجبهة الوطنية) وجزء من اليسار خطة الحكومة الفرنسية لمواجهة تدفق المهاجرين، إذ توحدوا لرفض مضامين المشروع، خصوصاً المادة الثالثة منه، والتي تنص على منح إقامة لمدة سنة قابلة للتجديد للمهاجرين غير الشرعيين العاملين في قطاعات تعاني من نقص العمالة.
هذا البند، الذي تم التوصل إليه بالتنسيق بين وزيري الداخلية جيرالد دارمانان والعمل أوليفييه دوسو، لاقى ترحيباً من قبل عدد من النقابات والقطاعات المعنية، كقطاعات المطاعم والخدمات والصحة، لكنه لقي رفضاً واسعاً من قبل الجمهوريين.
وقال إريك سيوتي رئيس حزب "الجمهوريون" اليميني الفرنسي في مقابلة مع قناة "فرانس 2"، إن الحزب لن يقبل تمرير المادة 3 من القانون، مضيفاً: "سنستخدم كلّ الوسائل لمنع تمرير هذه المادة الخطيرة".
وفي الوقت الذي دافع فيه وزير الداخلية الفرنسي عن المادة الثالثة بالقول إن باريس ستعمل على زيادة اليد العاملة المؤهلة وتحسين وضع العمال، رد عليه زعيم "الجمهوريين" بالقول "لدينا 5 ملايين فرنسي، و400 ألف أجنبي في وضع قانوني، هل سنحتاج إلى الذهاب والبحث عن الأشخاص الذين هم في وضع غير قانوني؟ نحن نرفض الهجرة".
وسيسمح التعديل القانوني الجديد لطالبي اللجوء بالعمل مباشرة بعد تقديم طلبهم، شرط أن يكونوا حاملين لجنسيات محددة مذكورة على قائمة يتم تحديثها سنوياً.
ويرى مصطفى الطوسة، المحلل والخبير في الشأن الفرنسي في تصريحات لـ"الشرق"، أن الحكومة ستجد صعوبة كبيرة في إقناع البرلمانيين بالقانون بسبب بنود خلافية، خصوصاً البند الثالث"، مضيفاً أن "اليمين التقليدي والمتطرف يخوضان معركة لإسقاط هذه المادة".
ودعت أصوات مُعارضة لقدوم المهاجرين إلى سنّ قوانين رادعة تحمي أمن الفرنسيين خصوصاً بعد سقوط مدرس في شمال البلاد على يد شاب روسي متطرف في أكتوبر الماضي، وهو ما يجعل هذا القانون يواجه عقبات سياسية ونقابية خصوصاً من اليمين المتطرف.
ويشير الطوسة إلى أن "نواب اليمين المتطرف والتقليدي هدّدوا بعدم التصويت على مشروع القانون إذا تضمن المادة الثالثة"، وهو ما يجعل الحكومة أمام مطبات سياسية يعتبرها الخبير نفسه "تشير إلى عدم التوافق بشأن القانون".
ولتجاوز حالة الجمود، اقترح ماكرون على المعارضة الجلوس على طاولة المفاوضات من أجل البت في المشروع وإحقاقاً للمصلحة العليا للبلاد، إذ قال في رسالة وجهها لزعماء المعارضة، إن "سياسة الهجرة الفرنسية سترتكز على حماية الحدود الخارجية الأوروبية، ويجب علينا أن نحقق النتائج المرجوة".
ويقف المحلل المقيم في باريس عند البند السابع الذي يثير هو الآخر انقساماً كبيراً داخل البرلمان، وهو بند تريد من خلاله الحكومة سن إجراءات قاسية في حق المهاجرين من بينها إلغاء نظام الضمان الاجتماعي والصحي للمهاجرين بدون أوراق الإقامة.
ويرى المحلل أن "اليسار يرفض البند السابع من القانون ويعتبره خارج النموذج الاجتماعي للدولة الفرنسية التي عادة ما توصف بأنها حاضنة مهاجرين" مشدداً على أن اليسار هدد بعدم التصويت على القانون إذا ما تضمن هذه النقطة.
ووفقاً لمعطيات قدمها المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية، فإنه حتى عام 2022، يعيش حوالي 7 ملايين مهاجر في فرنسا أي 10.3% من إجمالي السكان، 35% منهم حصل على الجنسية الفرنسية، وهو ما تعارضه أصوات منتمية إلى اليمين المتطرف.
وتملكُ الحكومة الفرنسية خيارات دستورية لتجاوز الجمود البرلماني، إذ يمكنها اللجوء إلى المادة الاستثنائية 49.3، التي تسمح بتمرير مشاريع القوانين دون عرضها على مجلس النواب.
كما يؤكد الطوسة مشدداً على أن "وزير الداخلية يرفض اللجوء إلى هذه المادة، لأنه يعتبر نفسه يقود معركة سياسية ضد خصومه في أفق الترشح للانتخابات الرئاسية وهو بذلك يريد نيل صوت البرلمان، ويكسب ثقة النواب".
بنود إيجابية
من جانبه، يرى عمر المرابط، وهو محلل سياسي ونائب عمدة سابق بفرنسا، أن مقترح قانون الهجرة يتضمن "عدة بنود إيجابية وأخرى سلبية"، ويضيف أن الهدف من القانون هو التضييق على الهجرة السرية والمهاجرين في فرنسا.
ويسود في فرنسا توجه إلى إعادة النظر في سياسات الهجرة، إذ أظهر استطلاع للرأي أجراه المعهد الوطني للإحصاء والرأي لصالح شبكة CNE NEWS في مايو الماضي، أن 70% من الفرنسيين يؤيدون إجراء استفتاء بشأن سياسة الهجرة في فرنسا. وهي زيادة بـ8 نقاط مقارنة باستطلاع سابق عن هذا الموضوع أُجْرِي في فبراير.
وقال المرابط لـ"الشرق"، إن مشروع القانون يتضمن بنوداً إيجابية وأخرى سلبية، لافتاً إلى أن القانون يهدف بالأساس إلى مواجهة الهجرة غير النظامية والمهاجرين.
وشدد المرابط على أن فرنسا تراهن على القانون الجديد من أجل تسهيل ترحيل الأجانب غير المرغوب فيهم، خاصة عند ارتكابهم لجريمة، فضلاً عن المساعدة على عملية تسوية أوضاع المهاجرين غير الشرعيين الذين يعملون في القطاعات التي تعاني من نقص في اليد العاملة.
واعتبر في تصريحاته أن مشروع القانون قوبل بانتقادات من قبل جميع الأطياف السياسية. فاليمين، الذي يرغب في خفض أعداد المهاجرين، يعتقد أن القانون متساهل للغاية فيما يعتقد اليسار أن مشروع القانون صارم بشكل مفرط.
وبحسب المحلل نفسه، فإن الحكومة الفرنسية لا تريد تمرير القانون بالاعتماد على الاجتهاد الدستوري، لكنها تسعى إلى تحقيق توافق سياسي.
وقال النائب السابق لعمدة "أتيس مونس"، في تصريحات لـ"الشرق"، أن "الحكومة ستقوم بتسوية وضعية المهاجرين غير النظاميين، وبالتالي ستتحسن ظروفهم الاقتصادية، وسيلزم المشغل معاملتهم معاملة قانونية".