حاول رئيس وزراء بريطانيا ريشي سوناك ووزيرة الداخلية سويلا برايفرمان، إلغاء تظاهرات ستنطلق، السبت المقبل، خلال الاحتفال السنوي بذكرى انتهاء الحرب العالمية الأولى "يوم الهدنة"، للمطالبة بوقف الحرب على غزة، لكن الشرطة خيبت آمالهما، إذ اعتبرت "أن القوانين الحالية لا تسمح بالحظر، والفعاليتان يمكن أن تتزامنا دون وقوع قلق".
ويبدو أن سوناك قبِل القرار على "مضض"، لكن برايفرمان شنت حرباً على قادة الشرطة عبر مقال نشرته في صحيفة "تايمز" البريطانية، لتضع رئيس الوزراء في "حرج شديد" لأن كل ما يصدر إعلامياً عن أعضاء الحكومة، نصاً أو فيديو، يجب أن يُصادق عليه "10 داونينج ستريت" قبل نشره. فبدا الأمر وكأن وزيرة الداخلية تتحدث باسم الحكومة.
وصعّدت الحكومة البريطانية خلافها مع قائد شرطة لندن، الخميس، بشأن أسلوب تعامل أفراده مع مسيرة مؤيدة للفلسطينيين في مطلع الأسبوع، واتهمتهم باتخاذ "موقف منحاز" نحو "القضايا اليسارية".
ومنذ 14 أكتوبر الماضي، تنطلق تظاهرات في المملكة المتحدة كل يوم سبت، لدعم غزة والاحتجاج على الهجوم الإسرائيلي ضد القطاع، لتجذب المزيد من المؤيدين لمطالبها في الشارع البريطاني.
وترتفع الأعداد أسبوعياً، وتزداد معها الضغوط الشعبية على أحزاب البرلمان لوقف الحرب، وإنهاء معاناة أكثر من مليوني فلسطيني محاصرين ومعرضين للموت.
ويرى مراقبون أن التظاهرات المؤيدة لفلسطين تزداد زخماً بمرور الوقت، مع ازدياد عدد السياسيين المؤيدين لوقف الحرب في غزة، منوهين إلى أن الانقسام السياسي إزاء هذه المسألة تسلل إلى كل أحزاب البرلمان البريطاني.
محاولة إلغاء التظاهرات
خلال الأيام الماضية، وجه سوناك، رسالة إلى الشرطة يحذّر فيها من تزامن التظاهرات المؤيدة لفلسطين مع إحياء ذكرى "يوم الهدنة" في 11 نوفمبر الجاري، معرباً عن خشيته من وقوع أعمال عنف، وسلوكيات قد تخرج من المتظاهرين تهدد أمن وسلامة المحتفلين في ذكرى انتهاء الحرب العالمية الأولى.
مطالب سوناك وجدت ترحيباً وتأييداً من قبل برايفرمان، إذ غردت عبر منصة X (تويتر سابقاً) مشيدة بموقف رئيس الحكومة، ومعلنة ضم صوتها إليه في المطالبة بإلغاء التظاهرات المؤيدة لفلسطين، "وخاصة مع تصاعد جرائم الكراهية ضد المسلمين واليهود بشكل ملحوظ منذ 7 أكتوبر الماضي".
من ناحيتها، أشارت صحيفة "جارديان"، نقلاً عن مصادر رسمية، إلى أن اليهود في بريطانيا كانوا عرضة لأكثر من ألف جريمة كراهية منذ اندلاع الحرب على قطاع غزة قبل شهر، لافتةً إلى أن عدد الجرائم المسجلة في حق هذه الجالية خلال 28 يوماً، هو الأعلى منذ بدء التوثيق الرسمي لمثل هذا النوع من الأعمال العدائية عام 1984.
وبموجب المادة 13 من قانون النظام العام البريطاني الصادر للعام 1986، يمكن لرئيس الشرطة أن يقدم طلباً لوزير الداخلية لمنع التظاهرات لتجنب حالات الاضطراب العام الشديدة، وهو ما تسعى إليه برايفرمان.
وقد لجأت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة تيريزا ماي عندما كانت وزيرة للداخلية عام 2010، إلى ذات المادة عندما حظرت مسيرة لرابطة الدفاع الإنجليزية التي كانت تهدد بالتصعيد في بريطانيا ضد ما تسميه بـ "الإسلام الجهادي".
رفض المنظمين
رفض المنظمون للتظاهرات المؤيدة لفلسطين، مطالب التأجيل، وقالوا إن ما تسوقه الحكومة من مخاوف بشأن ذكرى انتهاء الحرب العالمية الأولى لا أساس له من الصحة، فالتظاهرات ستلتئم بعيداً عن النصب التذكاري لـ"يوم الهدنة". كما أنها لن تبدأ في وقت مبكر السبت المقبل، ولن تتعرض للمناسبة ومن يحييها، بأي شكل كان.
وأصدرت "حملة التضامن مع فلسطين" المنظمة للتظاهرات، بياناً قالت فيه إن المسيرات لن تمر عبر منطقة "وايت هول"، حيث مواقع الحكومة والبرلمان ومكان الاحتفال بذكرى "يوم الهدنة"، منوهة إلى أنها ستبدأ في حدود الواحدة ظهراً، كما أنها ستنطلق من حديقة "هايد بارك" وصولاً إلى السفارة الأميركية في لندن.
وبعد فشل محاولات إقناع المنظمين بإلغاء التظاهرات، قالت الشرطة البريطانية إن القوانين لا تسمح لها بإلغاء المسيرات من جانبها، فالتشريعات تمنحها صلاحيات وقف الاحتجاجات التي تشكل خطراً حقيقياً على أمن الدولة. "وما يبدو من الحراك المؤيد لفلسطين أنه لا يمثل ذلك التهديد الذي يرتقي إلى مستويات تستوجب تعطيله ومنعه".
مفوض الشرطة، السير مارك رولي قال، في بيان، إن التقدم بطلب لوزيرة الداخلية من أجل منع التظاهرات المؤيدة لفلسطين، يستوجب وجود دليل على احتمال وقوع اضطراب كبير خلالها، كما أن "المعلومات الاستخباراتية بشأن مسيرات السبت المقبل، لا تشير إلى الحد الأدنى من القلق الذي يستدعي منعها".
هجوم وزيرة الداخلية
وحمل رئيس الوزراء مفوض الشرطة مسؤولية منحه الضوء الأخضر للتظاهرات المؤيدة لفلسطين، السبت المقبل، منوهاً إلى أن قرار الشرطة مستقل، ولكن المفوض رولي عليه أن يتحمل مسؤولية ضمان أمن من يُحيون ذكرى "يوم الهدنة" بالتزامن مع التظاهرات التي يتوقع أن يشارك فيها عشرات الآلاف من البريطانيين.
سوناك عقد اجتماعاً مع مفوض الشرطة في محاولة أخيرة لإقناعه بحظر التظاهرات، ولكن النتيجة بقيت ذاتها. حتى أن الأمر ارتد سلباً عليه، وتعرض لانتقادات من قبل مسؤولين في الحزب الحاكم، رأوا أن تدخل رئيس الوزراء في تنظيم التظاهرات لم يكن صحيحاً. فهذه المسألة هي من مسؤولية شرطة العاصمة أولاً وأخيراً.
بالنسبة لوزيرة الداخلية "عكسَ قرار الشرطة ازدواجية في معايير التعامل مع التظاهرات عموماً. كما أن ضباط السلك المعنيين يخشون من انتقادات المتظاهرين أكثر من خوفهم على أمن وسلامة غالبية البريطانيين، خاصة وأن تقارير تحدثت عن ارتباط إحدى المجموعات المنظمة لتظاهرات السبت المقبل بقادة حركة حماس".
وباحت برايفرمان بهذا وأكثر في مقالها على صحيفة "تايمز"، ولأن الكلمات حملت هجوماً واضحاً على الشرطة، وتهديداً مبطناً بإجراءات تضيق الخناق على قادة السلك، إن لم تحظر تظاهرات السبت المقبل، انفجرت موجة انتقادات واسعة لمقال وزيرة الداخلية، واضطر متحدث باسم الحكومة للقول بأن الأمر قيد المراجعة.
بين الشرطة والحكومة
زعيم المعارضة العمالية كير ستارمر، قال إن الحكومة باتت تدار بوزيرة للداخلية لا يمكن السيطرة عليها، فيما اتهم ساسة آخرون سوناك بمنح برايفرمان "الضوء الأخضر" للهجوم على الشرطة، وطالبوه بمعاقبة الوزيرة أو طردها. ولكن متحدثاً باسم الحكومة قال إن سوناك ما زال يثق ببرايفرمان، وسينظر في محتوى المقالة.
ويمكن لرئيس الوزراء أن يجبر وزيرة الداخلية على الاعتذار من الشرطة، أو يعاقبها بطرق مختلفة تتدرج بين التنبيه والطرد وفقاً للقوانين المتبعة، خاصة وأن "10 داونينج ستريت" قد اقترح على برايفرمان إجراء عدة تعديلات على مقالتها قبل النشر، ولكن الوزيرة لم تأخذ بها. وفقاً لمصادر فضلت عدم ذكر اسمها لصحيفة "تليجراف".
كما أن ثمة انقساماً حتى بين نواب حزب المحافظين الحاكم بشأن مقالة وزيرة الداخلية، وقد عبر عدد من الوزراء عن رفضهم لما جاء فيها.
وتقدم نواب من مختلف أحزاب مجلس العموم بمذكرات تطالب بإقالة الوزيرة من منصبها، بسبب انتقادها لعمل قوات الشرطة، واتهام ضباط الجهاز الأمني بالتحيز لصالح "تيارات إسلامية".
أبعاد سياسية للتظاهرات
وفي مقابل مساعي الحكومة لحظر تظاهرات المؤيدة لفلسطين، عبّر ساسة في البلاد عن تأييدهم لها، من بينهم رئيس الحزب القومي الأسكتلندي حمزة يوسف، وعمدة لندن العمالي صادق خان، ورئيس حزب العمال السابق جيرمي كوربين، الذي قرر المشاركة فيها إلى جانب قادة نقابات التعليم، والإطفاء، والسكك الحديدية.
وتقول صحيفة "ذا ميل" إن قادة النقابات المرتبطة بحزب العمال، رفضوا مقاطعة تظاهرات السبت المقبل، وقد أعلن كل من رئيس اتحاد التجارة دانيال كيبد، ورئيس اتحاد الإطفاء مات وراك، ورئيس اتحاد السكك الحديدية مايك لينش، عن مشاركتهم في الحراك. ما دفع بوزراء إلى المطالبة بمساءلة زعيم "العمال" عن مواقف النقابات.
وقال رئيس التحرير السابق لصحيفة "تايمز"، مايكل بانيون، لـ"الشرق"، إن الحراك الشعبي المؤيد لوقف الحرب على قطاع غزة تتردد أصداؤه في الحزبين الرئيسين، ولكن المؤيدين له في حزب المحافظين الحاكم ليسوا كثراً، ولا يعبرون عن مواقفهم بذات الوضوح والصراحة التي نشهدها بين صفوف "العمال".
ويلفت بانيون، إلى أن "المحافظين" أكثر وحدة وتماسكاً إزاء ما يجري في الشرق الأوسط، حتى إن ساسة بينهم "يؤججون" الانقسام الذي تعيشه المعارضة إزاء الحرب لزيادة الضغط على زعيم "العمال" كير ستارمر، ودفع حزبه عموماً نحو تدهور شعبي يقلل من فرص فوزه في الانتخابات العامة المتوقعة في نهاية عام 2024.
ويلفت بانيون إلى وجود أصوات "راديكالية" بين المطالبين بحظر تظاهرات السبت المقبل المؤيدة لوقف الحرب، ولكن ذلك لا ينفي وجود ساسة وشخصيات يعكسون مخاوف حقيقية لدى فئات من المجتمع البريطاني بشأن احتمالات تدهور الأوضاع الأمنية خلال إحياء ذكرى "يوم الهدنة" بالتزامن مع احتجاجات كبيرة كما يتوقع.
وشدد بانيون على وجود نواب محافظين يؤيدون وقف الحرب في غزة، ولكنهم "لا يريدون الخروج عن حالة التأييد لإسرائيل التي يتبناها الحزب بشكل عام"، أما في "العمال" فقد تحول الانقسام بشأن هذا الأمر إلى أزمة قد تؤثر سلباً على مستقبل الحزب، وخاصة إذا ما تصاعد الخلاف بين كير ستارمر والنواب المؤيدين لفلسطين.
استقالة وزير عمالي
ووصلت أزمة الانقسام بين المؤيدين لوقف الحرب والمعارضين لها في "العمال"، إلى استقالة أول وزير في حكومة الظل العمالية التي يرأسها كير ستارمر. حيث أعلن وزير "رفع مستوى حياة البريطانيين" عمران حسين، استقالته من منصبه احتجاجاً على موقف زعيم الحزب في رفض المطالبة بوقف الحرب الإسرائيلية على غزة.
وتفتح استقالة عمران الباب أمام نواب وأعضاء في حكومة الظل يواجهون المشكلة ذاتها مع ستارمر. ووفقاً لتقديرات صحيفة "إندبندنت" ثمة أكثر من 65 نائباً عمالياً يرغبون في وقف الحرب على غزة، وهو ما يعادل ثلث نواب الحزب المعارض في مجلس العموم. أما موقف ستارمر، فيزداد تعقيداً مع مرور الوقت، وفق الصحيفة.
ويلفت الباحث في الشأن البريطاني رياض مطر، إلى أن انتقال عدوى الاستقالة من مجالس البلديات إلى البرلمان سيضع زعيم "العمال" في ورطة حقيقية. لافتاً في حديث لـ"الشرق"، إلى أن ستارمر، يراهن على قدرة حلفاء إسرائيل لدفعها نحو هدن إنسانية تخفف الضغوط السياسية والشعبية على الأحزاب والحكومات الغربية.
وأشار مطر، إلى أن استقالة نحو 50 عضواً عمالياً من مجالس البلديات، واستقالة وزير في حكومة الظل، هي إشارات على أن الأزمة وسط "العمال" تكبر، ولم تفلح جميع محاولات ستارمر للسيطرة عليها، ولكن الخشية من استفادة الحزب الحاكم من انقسام المعارضة، قد تدفع بنواب "العمال" إلى عدم التصعيد ضد زعيم الحزب.