تحولت التظاهرات المؤيدة لفلسطين في بريطانيا إلى "لعنة" تهدد الحزبين الرئيسيين في البلاد، فقد اهتز حزب "المحافظين" الحاكم، بسبب انتقادات وزيرة الداخلية سويلا برافرمان للشرطة التي سمحت بالتظاهرات الأخيرة، رغم "مخاوف" الحكومة من تأثيرها على أمن المحتفلين بذكرى انتهاء الحرب العالمية الأولى في العاصمة لندن.
ويتوقع الكثير من نواب الحزب والأعضاء، من رئيس الوزراء ريشي سوناك، إقالة الوزيرة بعد تجاهلها تعديلات "10 داونينج ستريت" على مقال نشرته برافرمان في صحيفة "تايمز" اتهمت فيه الشرطة بـ"التحيز" للإسلاميين، واهتمامها بسمعتها أكثر من أمن وسلامة البريطانيين في إحياء ذكرى "يوم الهدنة".
وبينما تواصل مقالة برافرمان تعميق شروخ الحزب الحاكم، يحبس زعيم حزب العمال كير ستارمر أنفاسه بانتظار جلسة البرلمان، الأربعاء المقبل، إذ من المقرر أن يناقش مجلس العموم مقترحاً تقدم به الحزب القومي الاسكتلندي، لتبني قرارٍ يدعو إلى وقف حرب غزة، ويدفع الحكومة للضغط على إسرائيل بشأن ذلك.
من الصعب تمرير مقترح "الاسكتلندي" مع وجود أكثرية برلمانية مطلقة للحكومة التي ترفض وقف الحرب، ولكن ما يقلق ستارمر هو المتمردون من نواب "العمال"، الذين سوف يخالفون تعليماته بعدم دعم المقترح. ومن ثم سيتقدمون باستقالاتهم من الحزب، احتجاجاً على استمرار تأييد ستارمر لهجوم إسرائيل على قطاع غزة.
زيادة الضغط الشعبي
أكثر من 300 ألف شخص جابوا شوارع العاصمة لندن، السبت الماضي، وهم ينادون بالوقف الفوري للحرب على قطاع غزة. وازدياد الأعداد في كل سبت تنظم فيه التظاهرات، منذ الرابع عشر من أكتوبر الماضي، يؤكد أن الضغط الشعبي على حكومة "المحافظين" يكبر، وينذر بمزيدٍ من الانقسام السياسي والمجتمعي.
ويقول رئيس "حملة التضامن مع فلسطين"، الدكتور كامل حواش: "التظاهر في بلد ديمقراطي كالمملكة المتحدة يشكل عبئاً على الحكومة، ويضغط على النواب الذين يمثلون المتظاهرين تحت قبة البرلمان. وبالتالي يمكن القول إن الصوت الشعبي المناهض لاستمرار الحرب على غزة، ورفض مواصلة احتلال فلسطين، بات مسموعاً".
ويلفت حواش، في حديث لـ"الشرق"، إلى أن استمرار التظاهر يستقطب مزيداً من المؤيدين لوقف إطلاق النار، وخاصة مع تدهور الأوضاع الإنسانية في غزة، وارتفاع أعداد الضحايا مع الوقت. ويضيف: "كلما اتسعت رقعة التأييد الشعبي لوقف الحرب صار من الصعب على الأحزاب تجاهلها، وبات النواب بحاجة إلى الخوض في هذه المسألة".
ورغم هذا، لا يميل الدكتور حواش إلى الإفراط في التفاؤل إزاء تأثير التظاهرات على القرار السياسي في بريطانيا، مستذكراً الاحتجاجات المليونية التي شهدتها لندن، في العام 2003، مطالبة بعدم غزو العراق. ولكن رئيس الحكومة حينها، العمالي توني بلير، تجاهلها كافة.
هجمات اليمين المتطرف
وانتهت تظاهرات السبت الماضي باعتقال 100 شخص غالبيتهم ينتمون إلى جماعات اليمين المتطرف التي جاءت للصدام مع المتظاهرين المؤيدين لفلسطين. وكثير من ساسة البلاد يلقون باللوم في هذا على وزيرة الداخلية، لأنها أشعلت حماسة هؤلاء عبر مقالها الذي نشرته قبل يوم واحد من التظاهرات.
رئيس الحزب القومي الاسكتلندي، حمزة يوسف، كان واضحاً وصريحاً في ربط هجمات اليمين المتطرف على مؤيدي فلسطين بمقالة برافرمان. وكذلك كان عمدة لندن، صادق خان. وحتى وزير الخزانة المحافظ، جيرمي هنت، رفض تأييد وزيرة الداخلية، وقال إنه "لا يمكن أن يلجأ إلى اللغة التي استخدمتها في نقد قوات الشرطة".
ووزير الخزانة واحد من بين نواب ومسؤولين كُثُر للحزب الحاكم، انتقدوا مقال برافرمان في "تايمز"، واعتقدوا أن رئيس الحكومة سيقيلها فوراً بسببها، خاصة وأن وزيرة الداخلية تجاهلت كل التعديلات التي اقترحها "10 داونينج ستريت" على المقال. و"كأنها لا تخشى غضب سوناك، ولا تكترث لقوانين الإعلام في الحكومة".
زعيم حزب العمال كير ستارمر نشر مقالاً في صحيفة "تلجراف"، قال فيه إن وزيرة الداخلية هي المسؤولة عن تحرك جماعات اليمين ضد المتظاهرين السلميين الداعين لوقف الحرب، منوّهاً إلى أن برافرمان "أشعلت خطاب الكراهية في الشارع، فأساءت إلى الوظيفة التي تشغلها، ولأفضل القيم في المجتمع البريطاني".
إقالة برافرمان المعلّقة
النائب مارتن فيكرز، أحد أعضاء اللجنة التنظيمية لحزب المحافظين، أو "لجنة 1922" كما تسمى، قال في لصحيفة "جارديان"، إن برافرمان ذهبت بعيداً جداً في مقالها، ويصعب على الحزب أن يقبل خصومة بين وزيرة الداخلية وقوات الشرطة. و"النواب سوف يسعدون بعدم القلق من أي تصريحات مقبلة لها".
أحد وزراء الحكومة قال لهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، إن إقالة برافرمان "خيار لا مفر منه"، ولكن التوقيت هو ما يدرسه رئيس الوزراء.
وأوضح الوزير الذي فضّل عدم ذكر اسمه، أن سوناك قد ينتظر صدور قرار المحكمة العليا بشأن خطة ترحيل المهاجرين إلى رواندا، الأربعاء المقبل، ويجعل من القرار سبباً لإقالة الوزيرة.
قيادي آخر في الحزب الحاكم قال لصحيفة "إندبندنت"، من دون ذكر اسمه أيضاً، إن سوناك لن ينتظر حتى الأربعاء لإقالة برافرمان، لأن ذلك يحمل ضرراً كبيراً له. واعتبر أن الإبقاء على وزيرة الداخلية "يعطي إشارة واضحة على ضعف رئيس الوزراء، ويدفع بوزراء ونواب آخرين إلى التمرد عليه في المستقبل".
من وجهة نظر الباحث في الشأن البريطاني، جوناثان ليز، فإن سوناك لم يتعجل إزاحة برافرمان من الحكومة، لأنه يخشى نقمة النواب اليمينيين المؤيدين لها في البرلمان.
ولكن عطلة نهاية الأسبوع ستكون كافية بالنسبة له من أجل الاستعانة بحلفائه في مجلس العموم، والتدبير لاحتواء أي خلاف ربما ينشأ بين نواب الحزب بعد إقالة وزيرة الداخلية.
ويلفت ليز، لـ"الشرق" إلى أن إقالة برافرمان قد تؤثر في تأييد تيارات اليمين لحزب المحافظين في الانتخابات المقبلة، ولكن الحزب الحاكم تضرر كثيراً نتيجة تصريحاتها "غير المدروسة" منذ توليها حقيبة الداخلية في عهد سوناك. وهذا الضرر بات يفوق جاذبيتها لدى تيارات اليمين في ملفات مثل مكافحة الهجرة.
التمرد داخل "العمال"
وإقالة برافرمان، إن تمت، يمكن تصنيفها كأولى ارتدادات حرب غزة على حزب المحافظين، ولكن لا يُتوقع لها أن تغيّر موقف الحكومة إزاء الحرب، ولا يبدو أنها قد تقسم الحزب بين معارض ومؤيد لإسرائيل، فلا توجد حتى الآن أي إشارات تشي بتمرد داخلي على رفض حكومة سوناك وقف الحرب في غزة بشكل دائم.
الانقسام الواضح بشأن هذه المسألة يتجسد في حزب العمال، ونقلت هيئة الإذاعة البريطانية عن قيادي في الحزب، لم تسمِّه، أن عشرات من نواب الحزب قد يستقيلون إذا مُنعوا من التصويت لصالح مشروع القرار المقدم من الحزب القومي الاسكتلندي من أجل وقف الحرب على قطاع غزة بشكل كامل.
وتوضح الهيئة أن وزراء عديدين، في حكومة الظل، ينتمون إلى التيار الرافض لتأييد إسرائيل في الحرب، ويضغطون على ستارمر من أجل الدعوة لوقف القتال في قطاع غزة. أما عضو حزب العمال، إيفان جاش، فيقول إن النواب المسلمين "هم الأقرب إلى الاستقالة، لأن دوائرهم الانتخابية تواصل الضغط عليهم دعماً لفلسطين".
ولفت جاش، لـ"الشرق"، إلى أن نحو 15 وزيراً في حكومة الظل، يعيشون تحت ضغوط كبيرة من دوائرهم الانتخابية ذات الأكثرية المسلمة، وبعض هؤلاء الوزراء يقولون إن "منصبهم في حكومة ستارمر يعوق قدرتهم على التصعيد السياسي دعماً لفلسطين"، وبالتالي فإن استقالتهم "خيار لا مفر منه إن استمرت الحرب".
وبالفعل، شهد الأسبوع الماضي استقالة أول وزير في حكومة الظل احتجاجاً على استمرار ستارمر في دعم إسرائيل، ووقع الوزير المستقيل، عمران حسين، إلى جانب عشرات النواب "العمال"، على بيان يدعم المقترح المقدم للبرلمان من قبل الحزب القومي الاسكتلندي، ويدعو إلى وقف الحرب المستمرة على غزة منذ ٧ أكتوبر الماضي.
وكشف استطلاع حديث للرأي، أجرته صحيفة "أوبزيرفر"، أن تأييد ستارمر للحرب على غزة أدى إلى تراجع شعبيته، وأثر في تصنيفه كأفضل زعيم سياسي يمكنه قيادة البلاد اليوم.
ولكن الحرب لم تُفقد حزب العمال أفضليته لدى البريطانيين في الانتخابات العامة المقبلة حتى الآن، فما زال يتفوق على المحافظين بـ 17 نقطة على الأقل.