تستخدم حركة "حماس" منذ أكثر من عقد، شبكة أنفاق معقدة تحت قطاع غزة، للاختباء والتنقل، وإخفاء المحتجزين، فيما ألمحت إسرائيل إلى "تكتيك جديد" لهزيمة حيل الحركة الفلسطينية، وهو "إغراق الأنفاق" بمياه البحر، بينما يرى خبراء ومحللّون أن هذا "التكتيك" ينذر بأخطار كارثية على القطاع، إن لم يكن مجرد "حرب نفسية".
وذكرت تقارير إعلامية أن أنفاق "حماس" مدعمة بالخرسانة المسلحة، ومزودة بخطوط الكهرباء والاتصالات، كما أنها مرتفعة بما يكفي ليقف بداخلها رجل متوسط الطول، وتمتد لمئات الكيلومترات في باطن القطاع، ويصل عددها إلى 1300 نفق، بينما يبلغ عمق بعضها 70 متراً تحت الأرض.
وتواجه إسرائيل تحدياً كبيراً في محاولة تدمير هذه الأنفاق، التي تطلق عليها "مترو حماس"، والتي تزيد من تعقيد القتال في مناطق مأهولة بالسكان.
وقال رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، هرتسي هاليفي، إن "إغراق الأنفاق بالمياه فكرة جيدة"، موضحاً أن "جزء من الهدف هو تدمير هذه البنية التحتية".
وذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، أن إسرائيل انتهت في منتصف نوفمبر الماضي، من تجميع مضخات لمياه البحر على مسافة ميل تقريباً (نحو 1.6 كلم) شمال مخيم "الشاطئ" للاجئين، مشيرة إلى أنه "يمكن لكل مضخة من بين 5 جمعتها تل أبيب على الأقل سحب المياه ونقل آلاف الأمتار المكعبة كل ساعة إلى الأنفاق الممتدة لنحو 300 ميل (نحو 483 كلم)، ومن ثم إغراقها خلال أسابيع".
ووفق تقرير الصحيفة الأميركية، فقد تباينت ردود الأفعال الأميركية حيال هذه الخطة، إذ أعرب بعض المسؤولين الأميركيين في جلسات خاصة عن قلقهم بشأنها، فيما قال آخرون إن الولايات المتحدة تدعم تعطيل الأنفاق وإنه ليس هناك بالضرورة أي معارضة أميركية للخطة، بالتزامن مع الانتقادات والاستنكارات الفلسطينية، إلى جانب تحذيرات من جانب خبراء ومحللين في مجال البيئة.
انهيار البنية التحتية
وتواجه خطة "الإغراق" انتقادات واستنكارات من الجانب الفلسطيني، الذي يرى فيها انتهاكاً للقانون الدولي والحقوق الإنسانية. كما تثير أيضاً مخاوف بشأن الآثار المُحتملة على الوضع الإنساني والبيئي في غزة، الذي يعاني بالفعل من أزمة إنسانية وبيئية خانقة.
وحذّر وزير الأشغال العامة والإسكان الفلسطيني محمد زيارة، الثلاثاء الماضي، من المخاطر المترتبة على مخطط الجيش الإسرائيلي بغمر الأنفاق، عبر ضخ مياه البحر فيها، مؤكداً أن إسرائيل تضيف بهذا المخطط "أداة قتل جديدة" في حربها على القطاع.
وأوضح زيارة، في بيان، أن الطبيعة الرملية لتربة القطاع تجعلها عرضة لمخاطر عدة حال ضخ مياه البحر في الأنفاق، إذ ستؤدي إلى انهيار البنية التحتية في المناطق المستهدفة، وخاصة انهيار المباني السكنية نتيجة لانهيار الأنفاق والتربة المحيطة بها.
وأكد الوزير الفلسطيني، أن "هذا المخطط سيسفر عن تدهور خطير في الأوضاع الإنسانية، حيث يتوقع زيادة الخسائر في الأرواح نتيجة انهيار المباني السكنية في المناطق المأهولة".
كما حذّر زيارة من مخاطر تتعلق بتلوث المياه الجوفية نتيجة لاختلاطها بمياه البحر والمياه العادمة، بسبب انهيار خطوط الصرف الصحي المتوقع، مما يزيد مخاطر تلوث المياه وتأثيرها على الصحة العامة، وتفاقم الأزمة الإنسانية المتزايدة في القطاع.
الضخ الجائر
خبير المياه والبيئة الفلسطيني سائد الخياط، ذكر لـ"الشرق"، أن الآبار الجوفية والحوض الجوفي الساحلي، تعاني من تسرب المياه المالحة، لأن آبار غزة تعتبر ضحلة، وكثرة الضخ منها تخلق نوعاً من التفاوت في الضغط المائي ما بين المياه العذبة والمياه المالحة، وهو العامل الرئيسي في مشكلة "التسريب".
وأشار الخياط إلى أن "غزة تعاني منذ سنوات من الضخ الجائر، حتى تكفي الاحتياجات السكانية، ما أدى إلى تسرب المياه المالحة من البحر، ورفع نسبة الأملاح التي يشعر بها كل من يشرب من المياه الجوفية في غزة".
انعدام الأمن الغذائي
وأضاف خبير المياه والبيئة الفلسطيني، في تصريحات لـ"الشرق"، أن عملية تشبع التربة بمياه البحر ستسمح للمياه المالحة بالتسرب أفقياً، والذي سيسبب بترسب الأملاح في التربة بشكل يجعلها متآكلة ومتهالكة وغير صالحة للزراعة.
ولفت الخياط، إلى أن "القطاع سيعاني لسنوات من انعدام الأمن الغذائي والمالي بشكل يؤثر سلباً على الاقتصاد داخله، فلا يمكن التصدير منه أي منتجات زراعية (إلى إسرائيل)، ولكن على العكس سيتحول القطاع إلى مستورد، إضافة إلى ضرورة ضخ كميات مياه عذبة أو دفع ملايين الدولارات من أجل إعادة معالجة المياه الموجودة في الآبار أو إيجاد حلول أخرى بتحلية مياه البحر من أجل توفير مياه الشرب للمواطنين أو للزراعة".
وبيّن خبير المياه والبيئة أن زيادة الأملاح التربة ستؤدي إلى تفككها، لأنها رملية، وتصلح لأنواع معينة من الزراعات، ولكن في حال الإغراق لن يتمكن المزارعون في القطاع حتى زراعة أنواع المحاصيل التي من الممكن أن تتحمل الأملاح، مثل الفلفل وبعض أنواع البندورة (الطماطم) وغيرها، وسيجعلها غير صالحة لاستخدامها أيضاً.
حلول على المدى البعيد
وأوضح الخياط، أن "هناك حلولاً على المدى البعيد باستخدام عمليات الإنقاذ للمياه الجوفية من خلال عملية الغسل، ولكنها ستكون مُكلفة، وعلى الأغلب ستتم هذه العملية باستخدام مياه معالجة من الدرجة الثانية أو الثالثة فما فوق، من أجل التخلص من بعض عناصر الأملاح في التربة، ومن ثم يتم تغير تركيبة التبادل الأيوني والكاتيوني لحبيبات التربة بحيث يتم استرجاع بعض العناصر والصفات التي من الممكن أن تدعم العمليات الزراعية".
وأشار الخبير البيئي أيضاً إلى أنه يمكن إنشاء محطات تحلية للمياه العادمة، ولكن كلفتها ستكون عالية جداً، لافتاً إلى أن "هناك مشروعات عدة تقوم بها سلطة المياه الفلسطينية، وهي حالياً قيد التنفيذ".
وتابع الخياط: "هذه العملية ستعمق مشكلة الأملاح المياه ومشكلة الحصول على مياه عذبة من عملية التناضح العكسي التي من الممكن أن تتم بفلترة هذه المياه المالحة وتحويلها إلى مياه عذبة، والتي ستحتاج إلى طاقة عالية، وهذه الطاقة من الممكن أن تكلف المناطق الفلسطينية مبالغ مالية طائلة".
وذكر أن "السيناريوهات ما زالت غير واضحة، ومن الممكن استخدام بعض كميات الغاز الموجودة ضمن المياه الإقليمية لمنطقة غزة لعمليات التحلية".
تأثيرات بيئية
أستاذ الجغرافيا السياسية في جامعة النجاح الوطنية في نابلس، أحمد رأفت، أكد لـ"الشرق"، أن خطة إسرائيل لإغراق الأنفاق ستؤدي إلى زيادة أملاح التربة بشكل كبير وقد يؤدي ذلك لحدوث انهيارات أرضية في المنطقة، بسبب طبيعة الأرض الساحلية الرملية، والتي ستؤثر على عمليات البناء مستقبلاً، إضافة إلى تأثير على أشكال الأرض السطحية، فستصبح بعض المناطق منهارة وأخرى مرتفعة، وبالتالي هذا يؤثر على عمليات الإنشاءات المستقبلية وبالذات شق الطرق.
وأوضح رأفت أن عملية ضخ كميات كبيرة من المياه سيؤدي إلى تسربها بين طبقات الصخور، وبالتالي سيؤدي إلى إذابة الأملاح الصخرية، وخلق فجوات بين الطبقات، وهو ما سيؤدي إلى حدوث انهيارات تؤثر على العمليات الإنشائية وشق الطرق.
وتابع: "أملاح التربة ستؤثر على الزراعة، وتصبح التربة غير صالحة بتاتاً، وإمكانية غسلها أو تنقيتها مستحيلة، لأن عملية غسل التربة في منطقة سهلية صعبة جداً، وقد تأخذ عشرات السنين.. وبالتالي دمار شامل للقطاع الزراعي وشبكات الطرق" في القطاع.
زلزال بأياد بشري
بدوره، قال الخبير العسكري، اللواء محمد المصري، لـ"الشرق"، إن "خطة إسرائيل باستخدام المياه في عملية إغراق أنفاق غزة، إذا حصلت، فستكون عبارة عن زلزال بأيدي بشرية".
وتابع: "رغم أن ذلك غير منطقي وغير فاعل إجمالاً، إلا أنه قد يكون فاعلاً إذا تم استخدامه ضد نفق معين بعيد عن المناطق الأخرى، لكن نحن نتحدث عن أنفاق بمدينة داخل مدينة، وقد تكون تحت مدينتين، وهو ما قد يعرض قطاع غزة بأكمله إلى النزول تحت الأرض".
"خطوة جهنمية"
ووصف المصري هذه الخطوة بـ"الجهنمية" و"الخيال العلمي" أو حتى "الفانتازيا السياسية"، لتخويف الفلسطينيين، أو من أجل إعطاء فرصة للولايات المتحدة لتقول إن "إسرائيل كانت تريد أن تفعل ذلك، وإدراة جو بايدن ضغطت عليها وتراجعت".
وأضاف: "الأنفاق قد تكون تحت بعض البلدات (الإسرائيلية) في محيط غزة.. هذا شيء غير واقعي، ولا أعتقد أنه سيحدث، ولكن في إطار الحرب النفسية قد يتم الحديث عنه كثيراً، وقد يستخدمون ذلك في بعض الأنفاق في أطراف حدود عام 1967".
وأوضح المصري، أن الأنفاق الموجودة تشغل على ما يبدو الصحف الغربية والاستخبارات البريطانية، والفرنسية، والأميركية، والألمانية، وإسرائيل، لكن هذه الأنفاق جزء من عملية دفاعية وهجومية، لكن أعماقهما وتموضعها ومكانها باعتقاد أنه حتى كل الطائرات ومسيرات الدول الغربية التي تشارك في الهجوم على فلسطين لم تكتشفها بعد.
أنفاق مغلفة
بدوره، اعتبر مدير مركز تخطيط المدن جلال الدبيك، في تصريحات لـ"الشرق"، أن "تأثير إغراق الأنفاق بالمياه على المباني محدود، وهذا يعتمد على مدى قرب النفق من سطح الأرض، وعدم وجود غلاف "باطوني" (أسمنتي) يؤثر على المبنى. أما إذا كان عميقاً تحت 30 أو 25 متراً ومغلف بالباطون فلا يؤثر على المبنى، إلا إذا كان موجوداً تحت مبنى، ولا يغلفه جسم باطون، وهذا يعد أمراً مستحيلاً، لأنه في هذه الحالة سيهبط باعتباره من الرمل".
وتساءل الدبيك لو كان يؤثر على المباني فكيف يحفرون لأنفاق قطارات المترو بالعالم، هذه الأنفاق لا تؤثر، لأنهم يعملون تحت ما يسمى "ضغط سيجما صفر" (ضغط الفراغ التام أو الضغط الجوي الذي يكون في غياب أي غاز أو جسم).
وأضاف: "عندما تصل المياه إلى باطن الأرض، فإنها تغير خصائص التربة، وهذا يعتمد إلى أي مدى يصل عمق النفق، ونوع التربة المحيطة به، إذا كانت التربة طينية أو رملية مباشرة، ستؤثر بشكل كبير بيئياً من حيث المياه الجوفية وتلوث المياه".
خيارات إسرائيل
وبينما لم يوضح الجيش الإسرائيلي خططه لتدمير أنفاق غزة بشكل كامل، استعرضت "فاينانشيال تايمز" سبل تدمير الأنفاق قائلة، بعد تحديد الموقع، سواء بأجهزة الرادار أو الاستشعار الصوتي، ثمة تكتيك يُعرف باسم "الشعر الأرجواني"، يتضمن إلقاء قنبلة دخان في مدخل النفق وإغلاقه لمعرفة ما إذا كان الدخان سيظهر في مكان آخر.
وقال يهودا كفير، وهو مهندس مدني إسرائيلي، إن ثمة طريقة أخرى، هي استخدام المتفجرات السائلة التي تملأ مساحة النفق ثم تنفجر. وأضاف أن الاحتمال الآخر هو الأسلحة الحرارية، التي تمتص الأكسجين لتوليد انفجار عالي الحرارة، لكن هذه الطريقة مثيرة للجدل بسبب التأثير الأوسع للانفجارات، خاصة في المناطق المأهولة بالسكان.
ويشكل ضخ مياه البحر من البحر الأبيض المتوسط تحت ضغط مرتفع خياراً آخر، حيث أفادت تقارير بأن إسرائيل بدأت بالفعل في استخدامه.
والاحتمال الأخير، الذي من شأنه أن يشكل خطراً أقل على المحتجزين الإسرائيليين من الفيضانات أو الانفجارات، هو أن يقوم الجيش الإسرائيلي بحفر أنفاق تعترض شبكة حماس، وتقتحم نقاط سيطرتها.
واعتبرت الصحيفة أن هذه الأساليب الشبيهة بـ"الخيال العلمي" تسلط الضوء على الصعوبات والوقت اللازم لتدمير ما وصفته بـ"عالم حماس السري".