مع دخول الحرب في غزة شهرها الثالث وتزايد الإدانة الدولية للحملة العسكرية الإسرائيلية على القطاع، والتي قتلت ما يزيد على 18 ألف فلسطيني، وجه الرئيس الأميركي جو بايدن أقسى انتقاد لحكومة بنيامين نتنياهو اليمينية، بعد أشهر من الدعم غير المحدود، إذ حذر من أن إسرائيل بدأت تفقد الدعم الدولي بسبب "القصف العشوائي".
وفي تجمع انتخابي لحملته في واشنطن، الثلاثاء، قال بايدن إن على نتنياهو "تغيير حكومته" المتشددة، ووصف حكومة نتنياهو بأنها الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل، مضيفاً: "إنهم لا يريدون أي شيء يقترب، ولو من بعيد من حل الدولتين".
كما ضغط وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان خلال الزيارات الأخيرة لإسرائيل على حكومة نتنياهو بإنهاء العملية العسكرية أو على الأقل العمليات الأكثر شدة خلال أسابيع، محذرين من أن الوقت ينفد أمام إسرائيل.
وقال خبراء ومحللون تحدثوا لـ "الشرق"، إن تصريحات بايدن تعكس "عزلة متزايدة"، تعانيها الولايات المتحدة نتيجة دعمها لإسرائيل، وهو ما يكلفها ثمناً باهظاً، كما ربط الخبراء بين تصريحات الرئيس الأميركي واقتراب السباق الرئاسي شديد التنافسية في 2024.
وتواجه الولايات المتحدة عزلة دولية متزايدة في موقفها من الحرب، ففي مقابل موقف واشنطن، الرافض لوقف إطلاق النار في غزة، أصدرت حكومات أستراليا وكندا ونيوزيلندا الحليفة للولايات المتحدة بياناً مشتركاً، الثلاثاء، دعت فيه إلى وقف الأعمال العدائية في غزة، والسماح باستدامة وصول المساعدات الإنسانية بشكل آمن ودون عوائق إلى جميع المدنيين الفلسطينيين، كما دعا البيان إلى دعم الجهود الدولية العاجلة لتحقيق وقف مستدام لإطلاق النار.
كما تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية ساحقة قراراً، غير ملزم، يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية في غزة، وصوتت 153 دولة لصالح القرار مقابل معارضة 10 دول للقرار من بينها الولايات المتحدة وإسرائيل.
استياء الديمقراطيين
وجاءت انتقادات بايدن العلنية لنتنياهو، بعد أكثر من شهرين من القصف الإسرائيلي لقطاع غزة، الذي قتل أكثر من 18 ألف فلسطيني، وأصاب نحو 50 ألفاً، 70% منهم من الأطفال والنساء.
ويواجه الرئيس الأميركي انتقادات متزايدة بشأن موقفه من الهجوم الإسرائيلي العنيف والمتواصل على قطاع غزة، سواء من قبل الرأي العام العالمي، أو من داخل حزبه الديمقراطي.
وكشف استطلاع رأي حديث أن معظم الأميركيين لا يوافقون على تعامل بايدن مع الحرب بين إسرائيل وحماس، وأظهر الاستطلاع الذي أجرته شبكة CBS News أن حوالي 61% من الأميركيين البالغين الذين شملهم الاستطلاع يرفضون نهج بايدن إزاء الحرب، ورأى 38% من الديمقراطيين أن بايدن أظهر "الكثير من الدعم لإسرائيل"، في ارتفاع لنسبة الاستياء الديمقراطي من بايدن، إذ وقفت تلك النسبة عند 28% الشهر الماضي.
ضغوط على بايدن
وعزا خبراء ومحللون تغير نبرة بايدن، مؤخراً، إلى عدد من العوامل أهمها الضغوط الهائلة التي يتعرض إليها على الصعيدين المحلي والدولي، إذ يرى نائب مساعد وزير الدفاع السابق لشؤون الشرق الأوسط، والضابط السابق في وكالة الاستخبارات المركزية ميك مولوري، أن مطالبة بايدن لإسرائيل بالتوقف عن قصف غزة بشكل عشوائي "له أهمية كبيرة، ولا يأتي من فراغ".
وأضاف مولري لـ"الشرق" أن "مجتمع الاستخبارات الأميركي يتابع عن كثب العمليات القتالية في غزة، وربما يكون هذا هو السبب وراء تصريح الرئيس بايدن بشأن القصف العشوائي، وإذا كان الجيش الإسرائيلي يستخدم في الواقع الضربات الجوية والمدفعية بشكل عشوائي، فإن ذلك يمكن أن يشكل انتهاكاً مباشراً للقوانين الدولية التي تحكم النزاع المسلح. التمييز في الاستهداف مطلوب، وحتى في حالة وجود التمييز، لا يزال يتعين أخذ معايير التناسب بعين الاعتبار".
ولفت مولري إلى أن بين 40 و45% من الذخائر جو-أرض البالغ عددها 29 ألفاً والتي استخدمها الجيش الإسرائيلي في غزة كانت ذخائر غير موجهة. والذخائر غير الموجهة كما يوحي اسمها، والتي تعرف أيضاً بـ"القنابل الغبية"، هي أقل دقة، وبالتالي توقع المزيد من الضحايا إذا لم تستخدَم بطريقة تتفق مع القانون الدولي، الذي يتطلب استخدامها للضرورة العسكرية، والتمييز بين الأهداف، والتخفيف بشكل متناسب من الضحايا المدنيين.
وشرح خبير الأمن القومي والعلاقات الدولية وأستاذ العلوم السياسية في "جامعة نيوهامبشير" ليونيل إنجرام، مفهوم التناسب الذي لفت إليه مولري، قائلاً إن "هناك قاعدة تشير إلى إمكانية سقوط ضحايا مدنيين في الحروب، لكن من الضروري التأكد من أن ذلك لا يحدث بطريقة كان من الممكن تجنبها".
وأضاف إنجرام لـ "الشرق" أن الخسائر في الأرواح "ليست مرتفعة في أوكرانيا كما هي مرتفعة في غزة"، عازياً ذلك إلى أن الأسلحة التي يستخدمها الروس صغيرة مقارنة بآلاف الهجمات الجوية التي تشنها إسرائيل بطريقة غير متناسبة.
وأضاف: "المسألة ببساطة تتعلق بالعقلانية في كيفية استخدام القوة العسكرية، ولا أعتقد أن الإسرائيليين كانوا عقلانيين فيما يتعلق باستخدامهم القوة الجوية. على سبيل المثال، سيقولون، حسناً، نعتقد أن هذا المستشفى به حماس، لكن إذا كنت ستدمر المستشفى، أو تهاجم مبنى حيث يوجد مدنيون وأطباء وجرحى وإصابات، فقط لأنك تعتقد أن حماس هناك. هو أمر خاطئ".
دوافع نبرة بايدن الجديدة
في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر على إسرائيل، أعلن بايدن دعمه المطلق لإسرائيل في الرد على الهجوم، وهو الرد الذي أسفر عن سقوط 18 ألفاً وإصابة عشرات الآلاف من الفلسطينيين، ونزوح نحو مليوني شخص، وفي هذا الإطار، يعتقد أستاذ العلوم السياسية في جامعة سان فرانسيسكو، ستيفن زونس، أن الضوء الأخضر الذي أعطاه بايدن لنتنياهو "عرضه لضغوط هائلة على الصعيدين المحلي والدولي في ضوء العدد الكبير من الضحايا المدنيين، ما أجبره على تغيير خطابه مؤخراً".
وفي تصريحاته لـ"الشرق" عدد زونس دوافع تغيير بايدن لنبرة خطابه، لافتاً إلى أن استمرار الدعم العلني لإسرائيل في ظل الكارثة الإنسانية الحاصلة في قطاع غزة "يضر بمصداقية الولايات المتحدة على المستوى الدولي"، وبالتالي يزيد من صعوبة الحصول على الدعم لأولويات السياسة الخارجية الأميركية مثل الدفاع عن أوكرانيا.
الدافع الآخر الذي ذكره زونس هو فرص إعادة انتخاب بايدن التي قد تتعرض للخطر، إذ أن الناخبين الأميركيين من أصل عربي، والمسلمين، والناخبين الشباب، واليساريين وغالبية الدوائر الانتخابية الأساسية للحزب الديمقراطي، "مستاءة للغاية" من دعمه لإسرائيل، وهو ما قد يقودهم إلى التصويت للحركات السياسية الصغيرة أو عدم التصويت على الإطلاق.
أستاذ الحقوق بالجامعة الغربية في أونتاريو بكندا، مايكل لينك، رأى أن بايدن انتقد نتنياهو، لدوافع تتعلق بالمرحلة السياسية الداخلية، خاصة مع إدراكه أن العرب الأميركيين والمسلمين مستاؤون جداً من دفاعه عن إسرائيل.
وفي حديثه مع "الشرق" قال لينك، الذي عمل منذ 2016 حتى 2022 مقرراً خاصا للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، إن الولايات المتحدة أصبحت معزولة عالمياً بشكل متزايد نتيجة تأييد بايدن المستمر للعمليات العسكرية في غزة. في الوقت الذي لا تأبه فيه إسرائيل للرأي العام الدولي، لأنها تملك الدرع الدبلوماسي الأميركي، وأعرب لينك عن اعتقاده بأن الولايات المتحدة تحاول استعادة المصداقية لدى الرأي العام الدولي، مضيفاً: "ولا أعتقد أن ذلك يعمل جيداً".
عزلة دبلوماسية
في 8 ديسمبر الماضي، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض "فيتو" ضد مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي لطلب وقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية في الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة.
وذكر لينك أنه منذ عام 1973، وعلى مدى الأعوام الـ 50 الماضية، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض في مجلس الأمن 85 مرة، أكثر من نصفها (45) كانت لإحباط قرار ينتقد إسرائيل.
وأضاف: "الولايات المتحدة هي العضو الدائم الوحيد في مجلس الأمن الذي استخدم حق النقض لوقف قرار ينتقد إسرائيل، ولم تستخدم أي دولة أخرى حق النقض لوقف قرار حاسم لإسرائيل".
ورأى لينك أن القرار الأميركي وضع الولايات المتحدة في عزلة دبلوماسية، لافتاً إلى ضرورة الانتباه إلى ما يفعله الرئيس الأميركي دائماً، وليس ما يقوله، فبعد أقل من 24 ساعة على استخدام حق الفيتو، وقبل 3 أيام من انتقاد بايدن لنتنياهو، وافقت وزارة الخارجية على مساعدات عسكرية بقيمة 106 ملايين دولار، وتحديداً لتصدير قذائف الدبابات التي تستخدمها إسرائيل لقصف غزة، متخطية الكونجرس الأميركي.
وأضاف لينك أن المحادثات التي جرت بين واشنطن وإسرائيل من خلال مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، الذي وصل تل أبيب الخميس، كانت تهدف بالأساس إلى ضرورة وقف القتال بحلول نهاية ديسمبر الجاري، مع التأكيد على عدم إمكانية مواصلة الولايات المتحدة تقديم نفس "الحماية الدبلوماسية الحديدية"، التي قدمتها على مدار الشهرين الماضيين،
مشيراً إلى أن ذلك "لم ينجح ذلك. ولم تضغط أميركا فعلياً".
"تغير لا يقابله تحرك على الأرض"
واتفق زونس مع لينك في أن تغير الخطاب الأميركي، لم تقابله تغييرات فعلية في تنفيذ السياسة، إذ قال زونس إن الإدارة الأميركية "لا تزال تعارض وقف إطلاق النار، وما زالت تعارض وضع شروط على المساعدات العسكرية لإسرائيل، كما كان الحال مع المخاوف السابقة التي أُعْرِب عنها بشأن توسيع المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية في الضفة الغربية، أو جهود نتنياهو للسيطرة على القضاء الإسرائيلي، فقد كانت مجرد كلمات، دون أفعال، والحكومة الإسرائيلية تعرف ذلك".
ولفت أستاذ العلوم السياسية ودراسات الاتصال في جامعة ميشيجن مايكل تراوجوت، إلى أن إدارة بايدن ظلت تراقب السلوك الإسرائيلي أثناء توغلها في غزة، والخسائر في أرواح المدنيين، والرد العالمي.
وأضاف تراجوت لـ "الشرق" إنه "على الرغم من قلق واشنطن من الخسائر الكبيرة في الأرواح، فإن إدارة بايدن لا ترى أن وقف إطلاق النار الفوري يصب في مصلحة إسرائيل، وربما كان ذلك هو الدافع للتصريحات، لكن دون فعل".
وكشف استطلاع رأي حديث أن غالبية الناخبين الأميركيين يؤيدون وقفاً دائماً للنار ووقف تصاعد العنف في غزة، ويفضل معظمهم أن تعطي الولايات المتحدة الأولوية للدبلوماسية والمساعدات الإنسانية للحد من العنف في المنطقة.
وأظهر الاستطلاع الذي أجرته شركة "داتا فور بروجرس" لاستطلاعات الرأي، أن 61% من الناخبين المحتملين، بما في ذلك 76% من الديمقراطيين، و57% من المستقلين، و49% من الجمهوريين يريدون أن تدعو الولايات المتحدة إلى وقف دائم لإطلاق النار في غزة.
وأشار زونس، إلى أن غالبية الأميركيين يؤيدون إجراءات واقعية أكثر قوة للضغط على إسرائيل، بينما يقدم بايدن تصريحات "لن تغير وحدها من تصرفات إسرائيل"، مضيفاً: "لن يغير السياسة الإسرائيلية، إلا الضغط الملموس مثل فرض شروط على المساعدات العسكرية، أو السماح للأمم المتحدة بتطبيق العقوبات وغيرها من التدابير، أو الاعتراف بدولة فلسطين، وغالبية الأميركيين سيؤيدون مثل هذه الإجراءات، ولكن لا يوجد ما يشير إلى أن بايدن على استعداد للقيام بأي من هذه الإجراءات".
لا تأثير على نتنياهو
من جانبه، قال أستاذ العلوم السياسية في "جامعة نيوهامبشير" ليونيل إنجرام، أن بايدن والولايات المتحدة لم يكن لهما أي تأثير على نتنياهو وحكومته، مشيراً إلى أنهم لن يستمعوا إلى الولايات المتحدة، طالما أنهم يعتقدون أن الشعب الإسرائيلي يقف إلى جانبهم، وأن لديهم القدرة العسكرية للقيام بذلك.
ولا يعتقد إنجرام أن هناك أي شيء يمكن للولايات المتحدة القيام به لإجبار إسرائيل على تغيير سياستها، "حتى لو قلصنا الإمدادات العسكرية، لا أعتقد أنه كاف لإحداث تغيير في موقف هذه الحكومة"، واصفاً نتنياهو بأنه "محتال" و "رئيس وزراء سيء"، مضيفاً: "إذا أراد أن يكون حليفاً لنا، فعليه أن يستمع إلينا أيضاً. لكنه لا يستمع أبداً".
انخفاض شعبية بايدن بين العرب والمسلمين الأميركيين
وأطلق قادة الجالية المسلمة في الولايات المتحدة مطلع الشهر الجاري، حملة ضد إعادة انتخاب جو بايدن العام المقبل، رداً على تعامله مع الحرب في غزة.
وتعهد أعضاء التحالف الإسلامي في الولايات المتأرجحة الحاسمة، ميشيجان ومينيسوتا وأريزونا وويسكونسن وفلوريدا وجورجيا ونيفادا وبنسلفانيا، بتنسيق جهودهم لـ"ضمان عدم فوز بايدن بولاية ثانية".
وكشف استطلاع رأي، صدر الشهر الماضي، انخفاضاً حاداً في دعم بايدن بين الناخبين الأميركيين العرب منذ بداية الحرب، كما أظهر الاستطلاع الذي أجراه المعهد العربي الأميركي، أن دعم الأميركيين العرب لبايدن انخفض 42 نقطة مئوية، من 59% في عام 2020 إلى 17%.
وقال لينك إن بايدن يفقد الدعم بين الأميركيين العرب والمسلمين والشباب، وبخاصة في الولايات المتأرجحة مثل بنسلفانيا وأوهايو وميشيجان، وهو يدرك أن عليه أن يعمل بجد لحمل هؤلاء الناس على التصويت له في نوفمبر المقبل، لكن مع التصريحات فقط دون فعل ملموس من الصعب أن نرى تغييراً في دعمه بين تلك الفئات".
واتفق زونس مع لينك في أنه ما لم تغير إسرائيل سلوكها فعلياً نتيجة لانتقادات الولايات المتحدة، وهو أمر مستبعد جداً دون أي ضغوط حقيقية، فإن دعم بايدن المستمر لإسرائيل فيما يتعلق بنقل الأسلحة واستخدام حق النقض في الأمم المتحدة سيستمر في إيذائه بين تلك الدوائر الانتخابية.
وقال زونس إنه من الصعب إخفاء "المذبحة المستمرة"، لافتاً إلى أن أكثر من 68% من الأميركيين يؤيدون وقف إطلاق النار والأغلبية تعارض تقديم المساعدات العسكرية غير المشروطة لإسرائيل.
وذكر زونس أنه لم يكن هناك سوى مرات قليلة في تاريخ الولايات المتحدة كان فيها الرأي العام والسياسة الخارجية للحكومة الأميركية متباينين إلى هذا الحد، كما حدث خلال حرب العراق، وحرب فيتنام، والتدخل الأميركي في أميركا الوسطى خلال الثمانينيات.
وأضاف زونس: "بما أن الحزب الجمهوري أكثر تطرفاً من بايدن في دعمه لإسرائيل وكراهيته للفلسطينيين، فمن غير المرجح أن تدعم هذه الفئات الانتخابية الجمهوريين. ومع ذلك، فإن حماسهم المتضائل لبايدن قد يعني عدداً أقل من الأصوات، ومساهمات مالية أقل، وعدداً أقل من المتطوعين في الحملة طالما لم يتغير شيء على أرض الواقع".