ود مدني.. كيف استولت "الدعم السريع" على "قلب السودان"؟

time reading iconدقائق القراءة - 11
سودانيون يتطوعون للقتال إلى جانب الجيش السوداني ضد قوات الدعم السريع في مدينة ود مدني بولاية الجزيرة في السودان. 17 ديسمبر 2023 - AFP
سودانيون يتطوعون للقتال إلى جانب الجيش السوداني ضد قوات الدعم السريع في مدينة ود مدني بولاية الجزيرة في السودان. 17 ديسمبر 2023 - AFP
بورتسودان-خالد عويس

اختفت وحدات من الجيش السوداني بشكل مفاجئ في الـ19 من ديسمبر الجاري، من مدينة ود مدني، عاصمة ولاية الجزيرة وسط السودان، لتظهر مركبات تابعة لقوات الدعم السريع بعد ساعات قليلة عند جسر "حنتوب" الذي يربط شرق المدينة بغربها، وتعلن سيطرتها على مواقع استراتيجية.

وسرعان ما انتشرت الشائعات كالنار في الهشيم بشأن ما آلت إليه الأمور في المدينة ذات الأهمية الاستراتيجية، مما أحدث صدمة للشارع السوداني وقيادة الجيش التي أعلنت الشروع في التحقيق مع قادة القوات المنسحبة من "قلب السودان الزراعي"، والتي تبعد بما يزيد قليلاً عن 190 كيلومتراً عن العاصمة الخرطوم.

ولم يبدد قرار الجيش السوداني حالة الإحباط التي سادت قسماً كبيراً من الشارع السوداني، بل تسبب في شيوع حالة من الذعر في صفوف المدنيين بالولايات القريبة، بما في ذلك سنّار جنوباً، والنيل الأبيض غرباً، والقضارف شرقاً، خشية أن تواصل قوات "الدعم السريع" تقدمها نحو مناطقهم.

ماذا جرى؟

وتمنح السيطرة على ود مدني، حيث يمتد مشروع الجزيرة الزراعي العملاق (ويُعتبر من أكبر المشاريع المروية في العالم بمساحة تُقدر بنحو 2.2 مليون فدان) إمكانية الوصول إلى ولايات مختلفة في الشرق والغرب والجنوب، والتحكم في سلاسل الإمدادات، بالإضافة إلى موقعها القريب من العاصمة.

ومنذ اندلاع الحرب في منتصف أبريل، نزح مئات الآلاف من الخرطوم إلى ود مدني، لتصبح بعد ذلك مقراً مؤقتاً لعدد كبير من المنظمات المحلية والدولية العاملة في المجال الإنساني.

كما أضحت ود مدني ذات أهمية تجارية كبيرة بعد اشتعال المعارك في الخرطوم، حيث نقل مئات التجار أعمالهم إليها، وصارت مركزاً للواردات وتوزيع البضائع إلى بقية ولايات السودان.

"رمانة ميزان السودان"

وقال الخبير العسكري أمين إسماعيل في تصريحات لـ"الشرق" إن ود مدني تُمثل "رمانة ميزان السودان" لوقوعها في الوسط تماماً وربطها 4 ولايات في جنوب وشرق البلاد مع العاصمة، مضيفاً أن ما جرى يُشكل "خطأ عسكرياً"، خاصة فيما يتعلق بالتعامل مع جسر "حنتوب" على ضفة النيل الأزرق.

وأوضح إسماعيل أن "الجسر فُتح فيما يبدو لتمرير بعض الوحدات التابعة للجيش، لكن قوات الدعم السريع استغلت هذه الثغرة، مشيراً إلى استمرار المعارك داخل المدينة وفي أطرافها.

ولفت إلى أن "قيادة الجيش اتخذت إجراءات إدارية عملياتية لتلافي هذا الموقف، مؤكداً وجود ثغرة، وانسحاب دون توجيهات وخطة واضحة، وبالتالي شكّل لجنة تحقيق بشأن ما إذا كان هذا الخطأ متعمداً أم لا؟".

وتقدمت قوات "الدعم السريع" من شمال شرق ولاية الجزيرة بشكل سريع صوب ود مدني، ولم تجد مقاومة تُذكر في البلدات التي عبرتها إلى أن بلغت "أبو حراز"، حيث واجهت مقاومة عنيفة من وحدات الجيش هناك، وذلك قبل أن تتمكن من الوصول إلى جسر "حنتوب"، ولا يفصل بينها وبين المدينة سوى جسر على النيل الأزرق، كما بقيت هذه القوات حبيسة في الضفة الشرقية للنهر طوال يومين، بسبب دفاعات الجيش، ولجوئه إلى وضع حاويات أعلى الجسر عرقلت تقدم "الدعم السريع".

وقالت منظمات دولية إن نحو 150 ألف طفل فروا مع ذويهم من ود مدني، فيما أعلن برنامج الأغذية العالمي تعليق تقديم المساعدات مؤقتاً لنحو 800 ألف شخص.

وتحدثت "الشرق" مع سكان محليين ما زالوا في ود مدني، وقالوا إنهم انتقلوا من بيوتهم في أحياء وسط المدينة إلى أطرافها، معربين عن خشيتهم من مآلات الوضع الحالي في ظل غلق الأسواق، وشح السلع، وانقطاع شبكات الاتصالات ساعات طويلة.

وتحدثت تقارير واردة من ود مدني وضواحيها عن عمليات نهب للسيارات والمحال التجارية في بعض المناطق، لكن قادة في "الدعم السريع" حاولوا طمأنة السكان بولاية الجزيرة بتأكيدهم على إحكام السيطرة على "هذه التفلتات".

"أهمية منقطعة النظير"

من جهته، قال رئيس تحرير صحيفة "السوداني" عطاف محمد مختار لـ"الشرق" إن قوات "الدعم السريع" وحلفاؤها حققوا مكسباً سياسياً كبيراً، لأن السيطرة على ولاية الجزيرة تعني "فك الحصار الذي كان مفروضاً على هذه القوات".

وأضاف مختار أن "الدعم السريع بهذه العملية الخاطفة في ولاية الجزيرة أضحى شبه دولة بسيطرته على العاصمة السودانية، وكذلك ولاية الجزيرة، وهذه كلفة كبيرة جداً"، لافتاً إلى أنه "حين يذهب الطرفان إلى التفاوض، فالقوي هو من يفرض شروطه".

وأكد مصدر رفيع لـ"الشرق" أن رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان وافق على لقاء قائد "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو "حميدتي" بشرط وقف إطلاق النار، والخروج من المناطق السكنية وفقاً لـ"اتفاق جدة"، وذلك في أعقاب كلمة للبرهان قال فيها إن "الجيش ربما ينخرط قريباً في مفاوضات مع قوات الدعم السريع".

وأوضح المصدر أن وزير الخارجية السوداني المكلف علي الصادق سلَّم، الاثنين، رسالة مكتوبة من البرهان إلى رئاسة الهيئة الحكومية للتنمية في إفريقيا "إيقاد" من خلال سفير جيبوتي في المغرب على هامش المنتدى العربي الروسي، تفيد بموافقته على لقاء "حميدتي" بعد تحقيق شروطه.

وفي حين يشدد الجيش السوداني على خروج قوات "الدعم السريع" من الأعيان المدنية في الخرطوم وبقية المدن التي تسيطر عليها، وسحبه نقاط التفتيش العسكرية التي نصبها في الشوارع، تشترط هذه القوات أن يلتقي قائدها بالبرهان بوصف الأخير قائداً للجيش فقط، وليس رئيساً لمجلس السيادة السوداني.

وعلمت "الشرق" أن موعد ومكان اللقاء لم يحددا بعد، فيما تبذل "إيقاد" جهوداً لعقده في أقرب فرصة في جيبوتي على الأرجح.

وقد يضع لقاء الرجلين حداً للحرب الدائرة منذ أكثر من 8 أشهر، في حال تجاوزا العقبات التي لم يتمكن الوفدان المفاوضان في "منبر جدة" من القفز عليها، أما فشل اللقاء فقد يؤشر لإمكانية الاتجاه لحسم عسكري يبدو عسيراً. وقد تنفتح شهية "الدعم السريع" لقضم أجزاء أخرى من البلاد، فيما سيرمي الجيش بثقله من أجل تحقيق انتصارات تكفل له وضعاً ميدانياً مريحاً يمكنه تالياً من توجيه قواته إلى الخرطوم.

وسيطرت قوات "الدعم السريع" منذ اندلاع الحرب على أجزاء واسعة من الخرطوم وولايات جنوب وشرق وغرب ووسط دارفور، وبعض أجزاء ولايات شمال وغرب كردفان والنيل الأبيض، وتوجد قواتها على تخوم ولايتي نهر النيل والشمالية وسنّار جنوباً، وهو ما يعتبره مراقبون انفتاحاً واسعاً قد يكبّدها خسائر كبيرة لطول خطوط الإمداد، وافتقارها للغطاء الجوي، فضلاً عن اكتسابها عداء من مجتمعات محلية مختلفة، بسبب الانتهاكات التي تقع.

كما أن سعيها المحتمل للتوجه شرقاً قد يصطدم بعقبات، خاصة في ولاية البحر الأحمر المحصنة، حيث التضاريس الوعرة المتمثلة في الجبال، ما يسهّل مهمة الجيش في اقتناص أي قوة تهاجمه هناك، علاوة على خطوطه الدفاعية المتقدمة في ولايتي كسلا والقضارف، ما قد يُسبب إنهاكاً بالغاً لـ"الدعم السريع".

وفي المقابل، يتحصن الجيش في مواقعه الاستراتيجية في الخرطوم، ويقصف "الدعم السريع" بالمدفعية والطيران والمسيّرات، وينفّذ عمليات نوعية، وفقاً لبياناته الرسمية، كما يحتفظ بالسيطرة الكاملة على الولايات الشرقية والشمالية، إضافة إلى سنّار والنيل الأزرق، وأجزاء واسعة من النيل الأبيض وشمال كردفان وغربها وجنوبها.

دعوات للتعبئة العامة

وقال المحلل السياسي عثمان فضل الله لـ"الشرق" إن "ما بعد ود مدني لن يكون كسابقه، بوصفها معركة فاصلة"، وهي المعركة رقم 170 بين الطرفين.

وأضاف فضل الله: "في كل هذه المعارك لم يكن أداء الجيش جيداً، إلا في 3 معارك فقط، اثنتان منها في سلاح المدرعات، جنوب الخرطوم، والثالثة في الأبيض شمال كردفان".

وأشار إلى أن "الدعم السريع" حققت تقدماً في معظم المعارك التي خاضتها ضد الجيش، وبسيطرتها على ود مدني أضحت تتحكم في معظم الطرق الواصلة بين شمال البلاد وشرقها ووسطها وجنوبها وغربها، ما يؤثر بشكل حاسم على الإمداد الغذائي والدوائي، وكذلك على إمداد الحاميات العسكرية الواقعة جنوب ود مدني، مثل سنّار والدمازين جنوب شرقي ولاية الجزيرة، وكوستي في جنوب غرب الولاية على النيل الأبيض.

ولفت إلى أن "الدعم السريع تمكّن من عزل كامل غرب البلاد ووسطها عن الحكومة في بورتسودان".

وضاعفت سيطرة قوات "الدعم السريع" على ود مدني مخاوف سكان الولايات القريبة، فيما دعا قادة محليون وزعماء عشائر وسياسيون إلى التعبئة العامة والمقاومة الشعبية لمواجهتها.

وكان الآلاف التحقوا منذ الأسابيع الأولى للحرب بمعسكرات تدريب للقتال إلى جانب الجيش، وعلمت "الشرق" أن رئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا في شرق السودان محمد الأمين ترك شرع في تعبئة سكان ولايات الشرق، فيما انتظم آلاف المواطنين في عمليات مشابهة، لا سيما في ولايتي نهر النيل والشمالية، شمال البلاد.

من جانبه، وجّه الأمين العام لـ"الحركة الإسلامية" علي كرتي خطاباً إلى قادة الجيش مطالباً إياهم بتسليح المتطوعين المدنيين.

وكرتي هو مسؤول رفيع سابق في نظام الرئيس المعزول عمر البشير، وفرضت عليه الولايات المتحدة عقوبات بعد الحرب، متهمة إياه بالضلوع فيها.

لكن مراقبين يرون أن ظهور "كرتي" على المسرح السياسي، بعد توغل "الدعم السريع" في ولاية الجزيرة، ربما يُمثل خصماً لجهود الجيش في التعبئة، لأنه يعزز الاعتقاد بأن أنصار "تيار الإسلام السياسي" يضغطون من أجل استمرار الحرب.

وفي المقابل يتهم "تيار الإسلام السياسي" خصومهم من القوى السياسية بالاصطفاف مع "الدعم السريع"، قائلين إنهم (أنصار الإسلام السياسي) يقاتلون مع الجيش في خندق واحد منذ عقود.

تصنيفات

قصص قد تهمك