يحمل عام 2024 تحديات سياسية لعدد كبير من دول أميركا اللاتينية والكاريبي، خاصة مع إجراء انتخابات رئاسية في 7 دول، هي بنما والسلفادور وبيرو والمكسيك وأورجواي وفنزويلا والدومينيكان.
وعلى الرغم من الانتخابات التي أجريت بانتظام في دول أميركا اللاتينية على مدى العقدين الماضيين، إلا أن تحدي التحول الديمقراطي لا يزال قائماً، خاصة مع ارتفاع وتيرة وحِدّة الاستقطاب بين أحزاب اليمين واليسار وزيادة التبعية إلى الولايات المتحدة.
ومن المتوقع أن تكون انتخابات أميركا اللاتينية في 2024 مميزة وفقاً لأستاذ العلوم السياسية ورئيس معهد Cultiva رودا ريتشي، الذي يشير إلى أن المكسيك مثلاً تشهد لأول مرة في تاريخها تنافس امرأتين على منصب الرئاسة، في إشارة إلى كلاوديا شينباوم ممثلة حزب اليسار الحاكم "مورينا"، واليمينية سوتشيل جالفيس التي جرى ترشيحها كممثلة لأحزاب المعارضة.
ورجّح ريتشي أن تخلف إحداهما الرئيس المنتهية ولايته أندريس أوبرادور لقيادة ثاني أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية.
وفي حال فوز إحداهما، فإن ذلك يشكّل سابقة في المكسيك حيث تقع سنوياً الآلاف من حوادث قتل النساء، وعنفاً شديداً تمارسه عصابات المخدّرات ضدهن.
وتشكل الانتخابات في الولايات المتحدة تحدياً آخر للمكسيك، فمن المرجح أن تشهد الحملات الانتخابية في كلا البلدين تركيزاً على مشكلة الهجرة وأمن الحدود والجريمة المنظمة التي تعد إحدى أهم أسباب توتر العلاقات بين الجارتين.
وحتى مع استمرار التقارب ودعم التبادل التجاري الذي وصل عام 2022 إلى نحو 855.1 مليار دولار، إلا أن المكسيك لطالما عانت تدخل واشنطن في رسم سياساتها العامة وطريقة إدارة البلاد.
وتوقع ريتشي ألا تقف هذه التدخلات عند حدود المكسيك فقط، بل تتخطاها باتجاه فنزويلا، والتي حذرتها الولايات المتحدة من أنها ستعيد فرض العقوبات إذا لم يسمح الرئيس نيكولاس مادورو بترشيح المُعارِضة اليمينية ماريا كورينا ماتشادو، الممنوعة من تولي أي منصب حكومي لمدة 15 عاماً نتيجة اتهامها في قضايا فساد.
في المقابل يسعى مادورو للفوز بولاية ثالثة، على الرغم من تعرضه لضغوط داخلية وخارجية من أجل عدم الترشح، إلا أنه نجح من خلال إثارة مسألة الأراضي المتنازع عليها مع جويانا، في حشد الصفوف مستغلاً قضية الوحدة الوطنية، ما أربك المعارضة، ودفعها للالتفاف حول زعامته لأول مرة منذ وصوله إلى السلطة.
جدل قانوني ومخالفات دستورية
في بنما، وبعد 5 سنوات من حكم الرئيس الاشتراكي (الحزب الثوري الديمقراطي) لورنتينو كورتيزو، الذي أعلن نيته عدم خوض الانتخابات بسبب حالته الصحية، قرر نائبه خوسيه جابرييل كاريزو، خوض الانتخابات كممثل عن الحزب الحاكم، فيما تسعى المعارضة إلى دعم الرئيس اليميني السابق ريكاردو مارتينيلي، والذي تصدر استطلاعات الرأي الأخيرة.
وعلى الرغم من ضبابية المستقبل السياسي لمارتينيلي بعد أن حٌكمَ عليه مايو الماضي، بالسجن أكثر من 10 سنوات بتهمة الفساد، على خلفية استخدامه سلسلة من الشركات الوهمية لسرقة نحو 44 مليون دولار من عقود البنية التحتية الحكومية خلال فترة رئاسته، إلا أن مارتينيلي مازال طليقاً بسبب الاستئناف الذي قدمه محاموه على الحكم، ويتوقع محللون أن تسبب هذه الإشكالية جدلاً كبيراً أثناء الانتخابات.
الجدل القانوني القائم في بنما، يشبه كثيراً ما يحدث في السلفادور، فبعد إعلان الرئيس اليميني نجيب بوكيلة ترشحه لولاية جديدة في انتخابات 2024، وعلى الرغم من عدم دستورية الخطوة، لأن الدستور لا يسمح بتولي الرئاسة أكثر من فترة، إلا أنه دافع عن حقه في الترشح مستنداً إلى قرار الغرفة الدستورية للمحكمة العليا، والتي سمحت له بالترشح مرة أخرى.
وأظهرت استطلاعات الرأي أن بوكيلة ربما يفوز بنسبة 68.4% من الأصوات، مقابل 4.3% من الأصوات (في الاستطلاعات) لأقرب معارضيه، مانويل فلوريس.
ويحظى الرئيس البالغ من العمر 42 عاماً بتأييد مجموعة كبيرة من الناخبين المخلصين، بسبب نهجه المثير للجدل في مكافحة الجريمة، والذي أثار انتقادات في المجتمع الدولي، ولكن أكسبه الدعم في الداخل.
ولدى بيرو، تاريخ طويل من الإطاحة بالرؤساء وسجنهم. وكان آخرهم اليساري بيدرو كاستيّو الذي أقيل على أساس عدم الأهلية الأخلاقية، وهو مسجون منذ نهاية عام 2022، بعد اتهامه بمحاولة انقلاب عبر حل البرلمان الذي كان يستعد لإقالته.
وتحاول الرئيسة الحالية بالوكالة دينا بولوارتي، تقديم موعد الانتخابات الرئاسية من 2026 إلى 2024، وسط معارضة عدد كبير من الأحزاب اليمينية التي تهيمن على البرلمان، وهذا ما يجعل من موعد الانتخابات القادمة، غير واضح، ويترك البلاد في مواجهة أزمة سياسية مستمرة منذ عقدين.
وفي أورجواي، تشير التوقعات إلى فوز المعارضة، بعد أن اختارت المرشح اليساري ياماندو أورسي لخوض المنافسة في مواجهة الحزب الوطني الحاكم الذي اختار من جهته ألفارو ديلجادو.
وتواجه الحكومة مشكلات عدة وانقسامات داخلية نتيجة خلافات بشأن التعديلات الوزارية، بالإضافة إلى الفضيحة الأمنية التي تسببت في سجن رئيس الأمن الرئاسي أليخاندرو أستيسيانو، 4 سنوات بتهمة قيادة منظمة إجرامية قدمت شهادات ميلاد وجوازات سفر مزورة إلى عدد من المواطنين الروس.
ويسعى رئيس الدومنيكان لويس أبي نادر، إلى الاستمرار في منصب الرئاسة، مستفيداً من تصاعد شعبيته بعد موقفه المتشدد في التعامل مع هايتي ومهاجريها.
وشهدت الفترة الماضية توتراً في العلاقات بين الدولتين وصلت إلى حد نقل الدومينكان آليات عسكرية ثقيلة إلى الجزء الشمالي من الحدود مع هايتي، وإغلاق المعابر الحدودية.
أمن غذائي منعدم رغم التصدير
وبينما كانت جائحة كورونا تضع أوزارها، بدأ الغزو الروسي لأوكرانيا، والدولتان من المنتجين الرئيسيين للسلع الزراعية في العالم، ما تسبب في ارتفاع أسعار النفط والغاز والمنتجات الغذائية، ودفع عدداً من دول العالم للبحث عن مصادر جديدة أكثر استقراراً، فتوجهت الأنظار إلى القارة اللاتينية لما فيها من قدرة على سد الاحتياجات الغذائية في الأسواق العالمية.
وقال أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة UERJ سيرجيو سوتو، إن القارة اللاتينية ربما تتحول في المستقبل القريب إلى سلة غذاء عالمية جديدة، وبات من المهم الحفاظ على الاستقرار السياسي فيها من أجل الحفاظ على سلسلة الإمداد الغذائي، موضحاً أنه في عام 2023 صدرت أكبر الدول اللاتينية (المكسيك والأرجنتين والبرازيل) مجتمعة منتجات غذائية تقارب قيمتها 240 مليار دولار، بزيادة 7% عن 2022.
ولكن بحسب برنامج الأغذية العالمي التابع لهيئة الأمم المتحدة فإن 9.7 مليون شخص في 13 دولة في منطقة أميركا اللاتينية والكاريبي يعانون بالفعل من انعدام الأمن الغذائي الحاد، ما يمثل ارتفاعاً يقدر بـ10% عن عام 2021.
ويرى سوتو أن هذا التناقض الحاصل من انعدام الأمن الغذائي في كثير من دول المنطقة التي تعتبر من أهم مصدري المنتجات الغذائية في العالم، يعود إلى فشل الحكومات في إيجاد حلول، وفرض سياسات من شأنها خفض نسب الفقر والبطالة، ودعم المجتمعات الأكثر احتياجاً.
وأضاف أن المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تعانيها شعوب أميركا اللاتينية تعد أحد أهم الأسباب التي تدفعها إلى التغيير، وهذا ما يفسر عدم الاستقرار السياسي الذي بات واضحاً في الكثير من دول القارة، خاصة في السنوات العشر الماضية.
تاريخ من التقلبات
خلال العقود الماضية، مرت القارة اللاتينية بتقلبات سياسية وأخرى اجتماعية كبيرة تركت أثراً جلياً على شكل أنظمة الحكم الحالية، فبعد مرحلة الاستقلال وخلال رحلة التحول إلى الديمقراطية عاشت مخاضاً صعباً، كلفها عشرات الآلاف من الضحايا الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة أنظمة عسكرية ديكتاتورية ظهرت خلال فترة الحرب الباردة، ولاقت تأييداً ودعماً من الولايات المتحدة التي كانت تسعى إلى وقف المد السوفييتي في المنطقة خاصة في ظل انتشار الأفكار اليسارية وتصاعد عدد مؤيديها في القارة اللاتينية.
ومع انتهاء الحرب الباردة تراجع دور العسكر، وبدأت معظم الدول التحول إلى النموذج الليبرالي في محاولة لإعادة هيكلة البنية الداخلية وفق شروط ومبادئ النظام العالمي الجديد.
لكن مرة أخرى واجه هذا التغيير عدداً من العقبات حالت دون تحقيق الهدف المرجو، فاستمرار التدهور الاقتصادي وانخفاض الدخل القومي وعجز الموازنة وزيادة نسب الفقر والبطالة، بالإضافة إلى انتشار الجريمة، كل هذه الأسباب دفعت شعوب المنطقة إلى الارتماء مجدداً في أحضان اليساريين الذين أعلنوا بدء مرحلة جديدة أطلقوا عليها اسم الموجة الوردية الأولى.
ومع العقد الأول من القرن الواحد والعشرين وصل عدد كبير من زعماء اليسار إلى سدة الحكم، وساهموا في نمو اقتصادات بلدانهم محققين نجاحات على المدى القصير، مستفيدين من زيادة الطلب على النفط والمنتجات الغذائية، ما ضاعف من صادرت البلاد إلى كافة دولة العالم، وبدأت دول كثيرة في القارة اللاتينية تسجيل ارتفاعات في الناتج المحلي، فزادت معظم الدول من إنفاقها على مشروعات البنى التحتية، ما ساهم في صعود اقتصادات دول مثل البرازيل والأرجنتين والمكسيك وتحولها من دول فقيرة إلى دول نامية.
لكن بعد فترة الازدهار ظهرت فضائح فساد في كثير من دول المنطقة، أشهرها "لافا جاتو" (مغسلة السيارات بالبرتغالية) في البرازيل، والتي وجهت على إثرها اتهامات إلى عدد من مسؤولي الحكومات في أميريكا الجنوبية، بالإضافة إلى عمليات عزل لقادة دول مثل فرناندو لوجو في باراجواي عام 2012، وديلما روسيف في البرازيل عام 2016، ورئيس بيرو بيدرو كاستيو في 2022.
وأكبر المستفيدين من هذه الأزمات كانت الأحزاب اليمينية التي كسبت تأييد الشارع مجدداً من خلال خطابها الشعبوي الذي يحمل أفكاراً ولغة خطاب لا تخلو من التطرف والعنصرية، ونجحت في حشد الناخبين الذي ساهموا في نقل الحكم من اليسار إلى أقصى اليمين في كل من البرازيل وكولومبيا وتشيلي وباراجواي وبيرو وأخيراً الأرجنتين، وسميت هذه المرحلة "الموجة الزرقاء".