تحركات روسية ليست بالجديدة، لكنها تتخذ الآن طابعاً رسمياً، بعد توقيع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرسوماً يسمح بتخصيص أموال للبحث وتسجيل الممتلكات الروسية في الخارج، بما في ذلك الموجودة في الأراضي السابقة لـ"الإمبراطورية الروسية، والاتحاد السوفيتي".
وبموجب هذا المرسوم، سيتم توفير أموال من قِبَل مؤسسة إدارة الممتلكات في الخارج، وهي جزء من إدارة الرئاسة الروسية، ومن المفترض أن تغطي جميع التكاليف لتنفيذ الإجراءات اللازمة.
ووفقاً لقرار سابق، يجب أن تشارك إدارة الرئاسة الروسية، ووزارة خارجية البلاد في البحث والتسجيل، فضلاً عن الحماية القانونية للعقارات الأجنبية في روسيا، ضمن حدود اختصاصهما.
"كنوز في الخارج"
وبحسب مؤرخين روسيين، فإن المرسوم الرئاسي قد يشمل "نصف ساحل نيس الفرنسية، ومبانٍ في القدس وإيطاليا، وممتلكات في الولايات المتحدة وفرنسا، ومناطق أخرى، تشمل مبانٍ ومصانع وأراضٍ"، إلى جانب حسابات ودائع كبيرة لرعايا "الإمبراطورية الروسية" في بنوك داخل سويسرا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والنمسا والمجر، التي تبيَّن أن مصير معظمها "مشكوك فيه للغاية".
الأكاديمي والباحث في العلاقات الدولية في فرنسا طارق وهبي، لفت إلى أن الحرب الأوكرانية عقَّدت التحركات الروسية بخصوص ممتلكاتها في فرنسا، حيث كانت هناك مراسلات دبلوماسية سارية، خاصة أن موسكو أعدَّت منذ سنوات سجلاً كاملاً بأملاك "الإمبراطورية الروسية" السابقة.
وأضاف وهبي، في حديث مع "الشرق" أنه "خلال ولاية الرئيس الفرنسي السابق فرانسو هولاند، أعدَّت روسيا مستنداً كاملاً بأملاك إمبراطوريتها السابقة، حتى قيل إن هناك ديوناً على باريس من إمبراطورية روسيا، أو العكس، وهناك مراسلات دبلوماسية بشأن ذلك".
وتابع: "لكن المشكلة الأكبر تكمن في أنه بعد حرب أوكرانيا، التزمت فرنسا مع دول أخرى بإيقاف وتجميد الأملاك والودائع الروسية خارج أراضيها، لذا لا تستطيع روسيا أن تتدخل فيها أو حتى أن تبيعها، خاصة في ظل استمرار الصراع بين موسكو وكييف".
ويرى وهبي في قرار بوتين، "تحركاً مقصوداً في وقت لا يرغب فيه نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون الانخراط في أي مواجهة معه".
وأضاف: "أعتقد أن ماكرون لا يرغب في أي مبارزة كلامية أو دبلوماسية مع بوتين بهذا الخصوص، ولذلك ستمر هذه الأزمة دون أي طنين. وحتى اللحظة لا توجد تصريحات على أعلى مستوى".
فيما أكد مسؤولون روس، أن الحديث في المرسوم الجديد مرتبط بالعقارات التي لم تمنحها أو تبيعها روسيا لطرف آخر، وعلى وجه الخصوص تلك التي انتهى بها الأمر أن تكون خارج أنظمة التسجيل لدى الجانب الروسي.
الخبير الاقتصادي والسياسي أندريه بونيتش، ذكر لـ"الشرق"، أن مسألة استرجاع وحماية الممتلكات الروسية في الخارج ليست بالجديدة، إذ عمل عليها بوتين في أواخر التسعينيات عندما كان يعمل حينها في إدارة الرئاسة الروسية.
وأضاف بونيتش: "حينها استولت دول غربية على العديد من الممتلكات الروسية، وخاصة في فترة تأسيس الاتحاد السوفيتي، إذ كان هناك الكثير من الجدل لعشرات السنين بشأن هذه المسألة".
"بيع ألاسكا"
ولم يذكر المرسوم الروسي، "ولاية ألاسكا الأميركية"، على وجه التحديد، على الرغم من أنه لفت انتباه المدونين العسكريين، الذين جادلوا بأن بوتين كان يستخدمه لإعلان أن "بيع موسكو لهذه الولاية إلى الولايات المتحدة عام 1867 غير قانوني".
وتعددت الروايات بشأن بيع الممتلكات الروسية في ألاسكا، إذ يرى البعض أن "روسيا لم تبع ألاسكا، ولكنها أجَّرتها للولايات المتحدة لمدة 99 عاماً، وأن زعيم الاتحاد السوفيتي السابق ليونيد بريجنيف لم يستردها"، فيما يعارض بعض المؤرخين هذه الرواية.
فيما يقول البعض الآخر إن "عائدات بيع ألاسكا، والتي كانت مثمنة بسبائك ذهبية غرقت في خليج فنلندا، رغم أن وثائق الخزانة الروسية في تلك الفترة تشير إلى استلام القيمة كاملاً".
وبعد أيام من المرسوم الروسي، قال نائب المتحدث باسم الخارجية الأميركية، فيدانت باتيل، خلال مؤتمر صحافي: "أعتقد أنني أستطيع التحدث باسمنا جميعاً في الحكومة الأميركية لأقول إنه (أي بوتين) بالتأكيد لن يستعيدها (أي ألاسكا)"، ما أثار ضحك الحاضرين.
وفي هذا الصدد، اعتبر الأكاديمي والمحاضر في معهد الشرق الأوسط في واشنطن حسن منيمنة في حديث لـ"الشرق"، أنه "لا يجب تحميل الموضوع أكثر مما يستحقه". مشيراً إلى أن "الإدارة الأميركية في الوقت الحالي ليست في واقع سياسي يسمح لها بالانشغال بأمور جديدة".
وأضاف منيمنة أن "الأموال الروسية عُرضة للتجميد وللمصادرة، وممتلكاتها غير القليلة في الولايات المتحدة، من شأنها أن تُصادَر".
وتابع: "لا أعتقد أن الولايات المتحدة اليوم في واقع سياسي يسمح لإدارتها بأن تنشغل بأمور جديدة. روسيا ليست اليوم الشغل الشاغل، ولا يوجد لدى الرئيس الأميركي جو بايدن مصلحة بالانشغال بمسألة ألاسكا، فلا جدوى من هذا الأمر اليوم".
من جهته، علَّق الرئيس الروسي السابق ونائب رئيس مجلس الأمن الروسي ديميتري ميدفيديف مازحاً على رد الخارجية الأميركية: "وفقاً لممثل وزارة الخارجية، فإن روسيا لن تستعيد ألاسكا، التي بيعت للولايات المتحدة في القرن التاسع عشر. هذا كل شيء إذن. لقد كنا ننتظر إعادتها في أي يوم. الآن أصبحت الحرب لا مفر منها"، وأرفق تدوينته على منصة "إكس" برمز تعبيري ضاحك.
وكان بوتين قد حسم أمر ألاسكا، ولو خلال الوقت الراهن، رافضاً فكرة إعادتها إلى روسيا على غرار شبه جزيرة القرم. بينما أكد مسؤولون روس آخرون مراراً أن "موضوع بيع ألاسكا مغلق".
تحركات غربية وضغط أوكراني
وعلى جانب آخر، تتواصل تحركات الدول الغربية للتصرف في الأصول الروسية المجمدة لديها، مع مواصلة الجانب الأوكراني الضغط على الحلفاء من أجل وضع أموال موسكو في حوزة كييف.
ومؤخراً، أعلنت الرئاسة البلجيكية لمجلس الاتحاد الأوروبي أن ممثلي التكتل وافقوا على اقتراح المفوضية الأوروبية باستخدام عائدات الأصول الروسية المجمدة "لإعادة إعمار أوكرانيا".
وأكدت موسكو على لسان متحدث الكرملين دميتري بيسكوف، أن "الاستيلاء على الأصول الروسية المجمدة يشكل خطراً محدقاً بالنظام المالي العالمي"، محذرة من المساس بأصول روسيا "ستكون لها عواقب وخيمة".
وتحدثت الخارجية الروسية مراراً عن "عدم شرعية الإجراءات القسرية الانفرادية التي اتخذتها الدول الغربية فيما يتعلق بالممتلكات الروسية في الخارج".
وأشارت إلى أن "الاستيلاء على ممتلكاتنا غير قانوني، وينتهك المبادئ والقواعد الأساسية للقانون الدولي، بما في ذلك المساواة في السيادة بين الدول"، لافتة إلى أنها ستتخذ تدابير بما في ذلك إجراءات مماثلة في حال تنفيذ التهديدات الغربية بهذا الخصوص.
واستبعد بونيتش أن تذهب عائدات الممتلكات والأصول الروسية لأوكرانيا إذا صادرتها الدول الغربية، ومع ذلك فإنه يرى أن بإمكان الغرب الاستحواذ على احتياطات الذهب الروسي لديه، ثم يوجّه جزءاً منها لصالح كييف.
وأضاف بونيتش أن "الغرب سيواصل تجميد الأصول الروسية تحت ذريعة إرسالها لأوكرانيا، رغم أن كييف لن تراها على الإطلاق".
واعتبر أن "الغرب لديه خبرة كبيرة بخصوص الاستحواذ على أموال الآخرين، ومنذ البداية كان يجب على موسكو التصرف بشكل صارم بخصوص ما تملكه في الخارج، لكنها أخذت موقفاً طيباً، إذ سمحت للشركات الأجنبية التي غادرت أسواقها ببيع حصصها وممتلكاتها، ولم تمض في طريق الاستيلاء أو الاستحواذ عليها".
واختتم بونيتش تصريحاته بالقول: "لو اختارت روسيا منذ البداية لغة صارمة، لاختلف الأمر. ويجب ألا ننسى أنه ما زال هناك عدد كبير من الأصول الأجنبية داخل روسيا التي تعادل تقريباً، أو تتجاوز ما لديها من أصول في الخارج".