يتردد في الإعلام البريطاني مؤخراً ما يوصف بـ"محاولات صامتة" داخل الحزب الحاكم لاستبدال زعيمه ريشي سوناك قبل الانتخابات البرلمانية المقبلة، وهو ما يفضح خشية متنامية بين صفوف قيادات وأعضاء المحافظين من "خسارة قاسية" في الاستحقاق الانتخابي المقبل، المتوقع في النصف الثاني من العام الجاري 2024، إذ أن الحل الوحيد برأي هؤلاء يكمن في تغيير القائد.
ثمة أسماء يجري تداولها حول "منقذ" للمحافظين، يتصدرها رئيس الحكومة السابق بوريس جونسون. وفيما يقول مراقبون ومحللون إن بمقدوره توحيد الحزب الحاكم، واسترداد ثقة الشارع به، يحذر آخرون من استبدال سوناك قبيل الانتخابات أياً كان البديل. فالبريطانيون لا يميلون تقليدياً إلى الأحزاب المنقسمة، على حد تصورهم.
كان التوجه نحو معالجة تراجع شعبية الحزب الحاكم عبر استبدال زعيمه، قد تصاعد بعد سلسلة هزائم سياسية واقتصادية وتشريعية مني بها المحافظون منذ 2023. وهنا يبرز السؤال حول حقيقة ما يعيشه الحزب الأزرق بعد 14 عاماً في الحكم، هل هي أزمة قيادات فعلاً، أم معضلة سياسات وبرامج فاشلة، ووعود انتخابية لم تحقق إلى الآن؟
خسارة فادحة
منذ العام الماضي وحتى قبله، وجميع استطلاعات الرأي التي ترصد نبض البريطانيين إزاء الانتخابات العامة المقبلة، تتوقع فوز حزب العمال المعارض. لكن آخرها وأكبرها من حيث عينة البحث، يقول إن حزب المحافظين الحاكم منذ 2010، لن يحصد أكثر من 80 مقعداً في البرلمان القادم، مقارنة بنحو 350 مقعداً في مجلس العموم اليوم.
الاستطلاع الذي أجرته شركة "ميجا بول"، ونشرت نتائجه قبل أيام، شمل 18 ألف شخص موزعين على كافة مدن بريطانيا. وتوقع "خسارة فادحة" للمحافظين تحت راية الزعيم الحالي ورئيس الحكومة ريشي سوناك، مقابل فوز "العمال" بأكبر أكثرية برلمانية ينالها الحزب منذ تأسيسه قبل 120 عاماً، حيث يمكن أن تزيد عن 450 نائباً.
صحيفة "ذا ميرور" تتبعت استطلاعات الرأي التي تنبأت بفوز العمال في الانتخابات المقبلة. وقد أظهر تحليلها أن الحزب الأحمر يتقدم على الأزرق بعشرين نقطة على الأقل. وما يعزز هذه الفرضية، خسارة المحافظين لغالبية الانتخابات البرلمانية الفرعية التي جرت بعد 2019. ويصل عددها الإجمالي إلى 22 اقتراع وفق أرقام مجلس العموم.
آخر الخسارات وقعت في منطقتي كينجسوود وويلينجبوره منتصف فبراير الجاري. حيث اختار سكان المنطقتين نائباً عمالياً يمثلهم في مجلس العموم. وقد أظهرت النتائج أن الحزب الحاكم خسر أكثر من 21% من أنصاره في كينجسوود مقارنة بـ2019. كما فقد المحافظون ما يزيد على 16% من ناخبيهم في ويلينجبوره وفق المقارنة ذاتها.
إخفاقات متعددة
برأي عضو حزب المحافظين سامنثا سونز، بدأت شعبية الحزب الحاكم تتراجع مع "فضائح الحفلات" نهاية عهد رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون. ولكن الأمر تفاقم بسبب أخطاء خلفه ليز ترس، ثم فشل ريشي سوناك في تنفيذ وعوده الخمسة المتعلقة بالقضايا التي تشغل بال البريطانيين اليوم، وهي الاقتصاد والصحة وضبط الهجرة.
تمخضت "فضائح الحفلات" عن تحقيق رسمي أظهر عدم التزام جونسون بتعليمات الإغلاق خلال جائحة فيروس كورونا، ولكنها لم تضع أداء حكومته موضع النقد. أما ترس فقد ارتكبت أخطاءً جلبت ضرراً كبيراً للاقتصاد الوطني، وقادتها للاستقالة بعد 40 يوماً فقط من توليها السلطة. ثم جاء سوناك وأطلق مطلع العام الماضي 5 وعود كعناوين رئيسية لحقبته، وهي: خفض معدل التضخم إلى النصف، وتقليص الديون السيادية، ودعم الاقتصاد، ووقف الهجرة غير الشرعية، وتقليص طوابير الانتظار للحصول على خدمات الصحة الوطنية.
وتشير سونز في حديث مع "الشرق"، إلى أن رئيس الحكومة نجح فقط بخفض معدل التضخم. صحيح أن ثمة أسباب خارجية عديدة صعبت عليه المضي قدماً في بقية وعوده، ولكن ثقة الشارع بـ"المحافظين" اهتزت، ولا يبدو أن سوناك قادر على احتواء ذلك، على حد تعبيرها. "ليس فقط استناداً على استطلاعات الرأي، وإنما من خلال التواصل المباشر لنواب الحزب الحاكم مع الأعضاء والناخبين البريطانيين عموماً في مناطق تمثيلهم".
وتُبين سونز، أن نواب الحزب الحاكم وقادته منقسمون، بين راغب في تغيير زعامة المحافظين قبيل الانتخابات العامة من أجل قلب الطاولة على "العمال"، وبين حالم بتقليص خسارة الحزب الأزرق في الاستحقاق المقبل من خلال تسجيل بعض الإنجازات الصغيرة الجذابة لفئات من البريطانيين، فتمنعهم من التصويت للخصوم.
دعوات صامتة
وتلفت صحيفة "الجارديان" إلى أن محاولة تغيير زعامة الحزب الأزرق تتم في "صمت" حتى الآن. فرئيس "لجنة 1922" جراهام برايدي، تلقى مؤخراً طلبات شفهية من نواب محافظين في مجلس العموم، تحث سوناك على الاستقالة، وفتح الطريق أمام شخص آخر لقيادة الحزب الحاكم في الانتخابات المقبلة التي لم يعلن عن موعدها بعد.
وتضم "لجنة 1922" النواب المحافظين الذين لا يشغلون مناصب رسمية، ويُسمى أعضاؤها بنواب المقاعد الخلفية، أو "أصحاب البدلات الرمادية"، ويمكن لهم تحديد مستقبل زعيم الحزب. فنظام اللجنة الداخلي يتيح طرح الثقة بالحكومة على تصويت برلماني، إذا ما تقدم 15% من الأعضاء بطلبات "خطية" لحجب الثقة عن رئيس الوزراء.
قائمة المرشحين لاستبدال سوناك تشمل أسماء عدة، من بينها رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون، ووزير الخارجية الحالي ورئيس الوزراء بين 2006 و 2010 ديفيد كاميرون، إضافة إلى بيني موردنت التي تشغل منصب رئيسة المحافظين في البرلمان، وكيمي بادينوش وزيرة التجارة والتنمية، وجيمس كليفرلي وزير الداخلية.
ونقلت الصحيفة عن متحدث باسم المنزل رقم 10 (مقر الحكومة) أن "جميع أعضاء حزب المحافظين مُرحب بهم في المعركة لإلحاق الهزيمة بالمعارضة، فالحزب موحد ومتناغم في خططه نحو الانتخابات المقبلة". وبتعبير آخر، المعركة ضد ستارمر ستكون بزعامة سوناك، ولن يقبل الأخير بذلك السيناريو الذي يحاول عدد من النواب المحافظين الدفع باتجاهه اليوم.
عودة جونسون
وفق استطلاع حديث للرأي، يتصدر جونسون قائمة البدلاء المحتملين لرئيس الحكومة. فهو قادر على استعادة أكثر من نصف الناقمين على الحزب الحاكم من المحافظين أنفسهم. حيث قال 52% من أعضاء الحزب الأزرق الذين يدرسون منح أصواتهم للمعارضة، إنهم سوف ينتخبون مرشحي حزبهم ثانية إذا عاد جونسون إلى الزعامة.
الاستطلاع تم لصالح الليدي جوديث ماك ألبين، التي تعتبر من أكبر وأقدم داعمي الحزب الأزرق في إنجلترا. ووفق الأرقام المعلنة، يفضل 28% من أعضاء "المحافظين" التصويت لجونسون عندما يواجه زعيم حزب العمال كير ستارمر في الانتخابات المقبلة. مقابل 25% يريدون المواجهة المرتقبة بين سوناك وستارمر.
وبشكل عام وجد الاستطلاع أن نصف من صوتوا للمحافظين عام 2019، وفقدوا "بوصلتهم" الانتخابية اليوم سيعودون مجدداً لدعم الحزب الأزرق إذا ما كان تحت قيادة جونسون في استحقاق 2024. وهذا يعني بلغة الأرقام، أن الفجوة بين "العمال" و"المحافظين" لن تكون كبيرة، والمنافسة على الصدارة ستصبح غير قابلة للتوقع بسهولة.
تقرأ الليدي ألبين، نتائج الاستطلاع على نحو متفائل كثيراً، وتقول لصحيفة "التليجراف" إن عودة جونسون إلى زعامة المحافظين سوف تؤدي إلى خسارة "العمال" للانتخابات المقبلة. منوهة إلى أن 70% من أعضاء الحزب الحاكم يقرون بأن قرار تنحية جونسون عن السلطة قبل عامين، كان خاطئاً ولابد من عودته قبل انتخابات 2024.
أثر عكسي
على عكس الليدي ألبين، تتوقع الصحفية ياسمين براون، أن تكون لعودة جونسون إلى زعامة المحافظين رد فعل عكسي في الشارع البريطاني. فالناس لم ولن تنسى برأيها، كيف تجاهل رئيس الوزراء السابق تعليمات الإغلاق الحكومي لمواجهة كورونا، بينما كانوا عاجزين عن زيارة عائلاتهم، أو إلقاء نظرة الوداع عليهم عند موتهم بالوباء.
وتشير براون في مقالة نشرتها صحيفة inews إلى أن العمل مع بوريس جونسون في الحكومة، بشهادة زملاء له، كان تجربة سيئة لا يودون تكرارها. وما يقوله هؤلاء يردده كثير من البريطانيين، الذين يعتقدون أن العودة ثانية للعيش في ظل حكومة يقودها رئيس الوزراء السابق لن يحمل البلاد لأي مكان أفضل، ولن يعالج مشكلاتهم.
من جهته يقول الباحث في الشأن البريطاني جوناثان ليز، إن البريطانيين تجاوزوا جونسون في التفكير بخياراتهم في الانتخابات المقبلة. منوهاً في حديث مع "الشرق"، إلى أن الأمر لم يعد يتعلق بالأشخاص بقدر ما يرتبط بالأحزاب. و"ما سوف يفعله حزب المحافظين حتى موعد الاستحقاق المقبل، هو ما سيحدد مصيره ومستقبله السياسي".
ويشدد ليز، على أن البريطانيين سيحاكمون المحافظين على 14 عاماً في السلطة، وليس على أخطاء جونسون وترس وسوناك. لذلك فإن قائد الحزب الحاكم أياً كان يجب أن يسأل نفسه سؤالاً واحداً، عند انطلاق الاقتراع في الاستحقاق المقبل: هل أوفى المحافظون بوعودهم في الاقتصاد والهجرة والصحة ومستوى المعيشة، أم أخفقوا؟