منذ إطلاق الرصاصة الأولى في 15 أبريل 2023 ظلت التساؤلات تتكرر بشأن من بدأ الحرب في السودان، لتتعدد الروايات وتتباين وسط اتهامات متبادلة بين الجيش وقوات الدعم السريع، حتى وصلت لاتهام "طرف ثالث" بإشعالها.
وبعيداً عن سيناريو "الطرف الثالث" كان يوم 13 أبريل 2023 مفصلياً في انحدار الأمور نحو الحرب الشاملة في البلاد، وهو اليوم الذي أعلن فيه الجيش أن تعبئة قوات الدعم السريع تنطوي على خطر حدوث مواجهة، وذلك رداً على انفتاح القوات شبه العسكرية في محور مدينة مروي بولاية نهر النيل شمالي البلاد دون إخطار القيادة العامة. وبعد يومين من هذا الإعلان انفجرت الأوضاع لتندلع الاشتباكات بين الجانبين في الخرطوم ومدن أخرى.
وعقب مرور عام كامل على الحرب التي أدت إلى سقوط آلاف الضحايا بينهم ما يصل إلى 15 ألف شخص في إحدى مدن غرب دارفور، لا زال التساؤل بشأن من أطلق الرصاصة الأولى فيها يشعل الأوساط السياسية في البلاد ومناصري الطرفين الذين ظلوا يتبادلون الاتهامات ببدء الحرب، وينسج كل منهم من الروايات ما يعزز بها موقفه.
الحرب أولها كلام
الحرب لم تبدأ بإطلاق الرصاصة الأولى، بل انطلقت قبل ذلك بكثير بالنسبة لنائب القائد العام للجيش وعضو مجلس السيادة الفريق شمس الدين كباشي، الذي يرى أن من يقول إن الحرب بدأت بإطلاق الرصاصة الأولى "ساذج" فـ"الحرب أولها كلام"، مشيراً إلى أن التصريحات التي سبقت اندلاع الحرب بأسابيع كانت البداية الحقيقية للصراع.
وأضاف كباشي الذي كان يخاطب حشداً من قواته بولاية القضارف شرقي البلاد، أن الجيش يرحب بأي تحقيق شريطة أن يكون شاملاً، ويشمل الأقوال والأفعال التي سبقت اندلاع الحرب من كافة الأطراف.
بيد أن رئيس مجلس السيادة الفريق الأول عبد الفتاح البرهان وقيادة الجيش هي من أشعلت الحرب بالتنسيق مع عناصر النظام السابق (نظام البشير)، وفقاً لقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو "حميدتي"، الذي قال في خطاب عبر منصة "إكس"، الاثنين، بمناسبة مرور عام على اندلاع النزاع، إن "الحرب بدأت بمحاصرة قوة تابعة للقوات المسلحة معسكراتٍ تابعة للدعم السريع بجنوب الخرطوم".
وذكر حميدتي أن "إشعال حرب 15 أبريل، بالدمار والتشريد والانتهاكات التي حدثت، هو فعلٌ إجراميٌ، لا ينبغي أن يمر دون تحقيق أو محاسبة"، داعياً الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي إلى إجراء تحقيق دولي يبين للسودانيين والعالم الطرف الذي أشعل الحرب، ولا زال يتسبب في استمرارها حتى اليوم.
حرب مؤجلة
الخبير في الشؤون العسكرية والسياسية اللواء أمين إسماعيل مجذوب، قال لـ"الشرق"، إن الحرب كانت مؤجلة منذ سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير في 11 أبريل 2019، مشيراً إلى أنه منذ ذلك الوقت كانت هنالك خلافات في تشكيل الحكومة وتقاسم السلطة بين المكون العسكري والمدني، حتى وصل الأمر إلى ما عرف لاحقاً بالاتفاق الإطاري الذي وقعته القوى المدنية مع الجيش والدعم السريع في ديسمبر 2022.
ويرى مجذوب أن بعض القوى المدينة حاولت توظيف قوات الدعم السريع من خلال الاتفاق الإطاري، في ظل حالة الاصطفاف السياسي وقتها، لتشهره كورقة عسكرية في خلافها مع الجيش.
وأضاف: "خلال فترة الاتفاق الإطاري كانت النقاشات محتدمة بشأن الكثير من الملفات، لكن دمج الدعم السريع في الجيش كان أبرزها، وهو السبب المباشر في اندلاع الحرب".
وتابع مجذوب: "أضف إلى ذلك محاولة عناصر النظام السابق، والذين تنفسوا الصعداء عقب انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر، وطموحهم في العودة إلى الواجهة، لذلك أصبح هناك مستفيدون كثر من الحرب، بحيث لا يمكن أن يتم تحديد من الذي أشعل الحرب بسهولة".
وأردف قائلاً: "اندلعت الحرب، وتحملها الجيش، وفشلت أهداف الدعم السريع التي تمرد من أجلها، من ثم تحولت من الديمقراطية ومساندة الحكم المدني إلى حرق الأرض ودمار الشعب، وتمددت الحرب دون أهداف وتحول الدعم السريع إلى نهب الأسواق والبنوك وجرائم لا علاقة لها بالهدف الأول الذي قال إنه خاض الحرب لأجله، وتحولت إلى حرب وجودية للشعب، لذلك قامت المقاومة الشعبية وشاركت الحركات المسلحة، وتحولت إلى حرب سودانية بمعنى أن هناك قوى عسكرية خلفها قوى سياسة، أتوقع أن تتمدد الحرب طالما أن الدعم السريع مازال يتلقى الدعم".
صراع الدولة العميقة
من جانبه، يقول المحلل السياسي الفاضل منصور لـ"الشرق"، إن الحرب لديها سبب واحد، وهو صراع الدولة العميقة ضد الثورة والتغيير في إشارة إلى نظام البشير.
وأضاف منصور: "بعد مجموعة من المتغيرات عقب ثورة ديسمبر 2018 تمكنت أذرع الدولة القديمة بقيادة عناصر إسلامية بالجيش من صُنع أحداث متسلسلة للثورة وأهدافها، وذلك عبر عرقلة ميزان العدالة والاقتصاد إبان الفترة الانتقالية بقيادة عبد الله حمدوك (رئيس الوزراء السابق)، حتى قاموا بانقلاب 25 أكتوبر المشؤوم، والذي قاد إلى إلغاء قرارات الثورة ضد عناصر نظام الإخوان، إذ تم إطلاق سراح جزء منهم وإعادته إلى الخدمة المدنية والعسكرية، وتم تعطيل مواد بالوثيقة الدستورية".
وتابع: "عقب فشل المكون العسكري في تنفيذ ما ورد في بيان انقلاب أكتوبر 2021، استمر الحراك الجماهيري، وأفلح في إحداث التغيير مجدداً بخضوع المؤسسة العسكرية للاتفاق الإطاري الذي تضمن الخروج الكلي للجيش عن السلطة والمؤسسات الاقتصادية، وترك الحكم المدني للقوى السياسية، إذ وقع أطراف التفاوض (الجيش والدعم السريع والقوي السياسية) على ذلك، ولكن سرعان ما ثار التيار الإسلامي العريض حملات إعلامية سادها التهديد بالحرب في حال تم تنفيذ الاتفاق".
بعدها تراجع الجيش عما وقع عليه وقرر الخضوع لتوجيهات جماعة الإخوان، وأصبحت الحرب ضد الدعم السريع هي خيارهم الوحيد للعودة إلى سدة الحكم، وفقاً لمنصور الذي يرى أن انفتاح الدعم السريع في مطلع أبريل 2023 نحو الولاية الشمالية كان "لملاحقة من يسعون إلى إشعال نيران الحرب من عناصر النظام السابق".
انتشار الجيش والدعم السريع
خلال الأشهر الثلاثة الماضية من عام 2024، كثف الجيش من عملياته المضادة للدعم السريع في محاولة لاستعادة مواقع سيطرت عليها "الدعم السريع" لأشهر، ويمكننا أن نلقي نظرة للتعرف على أبرز مواقع انتشار الطرفين للوقوف على حجم سيطرتهما.
يحافظ الجيش على غالبية مقاره العسكرية المهمة بالخرطوم، كالقيادة العامة والمدرعات رغم الحصار المفروض عليها، بينما تنتشر الدّعم السريع في غالبية أحياء شرق مدينة الخرطوم، وفي وسط المدينة والمقرات التي تتواجد بها مثل القصر الجمهوري ومجموعة الوزارات المجاورة للقصر والمطلة على شارع النيل، إلى جانب مباني الدفاع الجوي ومجمع اليرموك الصناعي العسكري، قيادة قوات الاحتياطي المركزي التابعة للشرطة في جنوب وشرق الخرطوم.
أما في مدينة بحري إحدى مدن العاصمة الثلاث، تنتشر الدعم السريع في غالبية الأحياء السكنية والمستشفيات، كما تسيطر على مصفاة تكرير النفط بضاحية الجيلي شمال المدينة، والتي يحاول الجيش إخراجها منها عن طريق قطع الطريق الرابط بينها والخرطوم.
فيما يسيطر الجيش على مقراته وأهمها سلاح الإشارة، وقاعدتي حطاب والكدرو العملياتيتين، وخلال الأيام القليلة الماضية، بدأ الجيش يدفع بتعزيزات عسكرية شمال بحري أفلحت في تقييد حركة الدعم السريع بين شمال وجنوب المدينة وفقاً لخبراء عسكريين.
وبالانتقال إلى مدينة أم درمان، يسيطر الجيش على محلية كرري بشكل كامل منذ بداية الحرب. وكان قد تمكن من السيطرة على أكبر معسكر للدعم السريع في شمال أم درمان منذ الأيام الأولى للحرب.
لكن التطور الأبرز هو تمكن الجيش في فبراير الماضي، من فك الحصار المفروض على مقر سلاح المهندسين جنوب أم درمان إلى جانب استعادته السيطرة على مقر الإذاعة والتلفزيون شرق أم درمان القديمة، الأمر الذي مهد لاستعادة السيطرة على المنطقة كاملة، بينما يتقاسم الطرفان منطقة أمبدة والمناطق الجنوبية منها، حيث تشهد اشتباكات عنيفة منذ حوالي شهر في محاولة الجيش لبسط سيطرته على كامل أم درمان.
ولاية الجزيرة
أما بشأن الوضع في ولاية الجزيرة، تسيطر الدعم السريع على أجزاء منها عقب اجتياحها لعاصمتها ود مدني في ديسمبر الماضي، بينما يتواجد الجيش في محلية المناقل جنوب الولاية، وأطلق عملية عسكرية لاستعادة ولاية الجزيرة في بداية أبريل حيث تشهد عدة محاور فيها قتالاً مستمراً بين الجانبين.
وتمددت الدعم السريع إلى ولاية النيل الأبيض جنوبي العاصمة، والتي تشهد حدودها مع الخرطوم مناوشات مستمرة، ورغم الهجمات على الولاية، إلا أن عاصمتها وعدداً كبيراً من مدنها تعيش حالة استقرار، كما تعيش ولايات الجنوب الشرقي مثل سنار والنيل الأزرق حالة استقرار كبيرة، وأصبحت مناطق تفويج للمقاتلين التابعين للجيش، وتشهد ولايات الشرق كسلا والقضارف أيضاً هدوءاً مماثلاً عدا حوادث منفصلة حتى الآن.
وهاجمت الدعم السريع أكثر من مرة ارتكازات الجيش في حدود ولاية القضارف، لكنها عجزت عن التقدم. الولايات الشمالية كذلك تشهد حالة هدوء واستقرار كبير إلى جانب نهر النيل عدا حادثة لمسيرة استهدفت إفطاراً رمضانياً لمجموعة مسلحة تقاتل إلى جانب الجيش.
إقليم كردفان
أما في إقليم كردفان غربي البلاد، فقد تمكن الجيش أخيراً من الانفتاح في ولاية شمال كردفان منطلقاً من عاصمتها الأبيض، ومدعوماً بمتحركات من النيل الأبيض، والتي تحاول فتح الطريق بينها ومدينة تندلتي بالولاية.
ومع بداية الحرب سيطرت الدعم السريع على مطار الأبيض وفرضت ما يشبه الحصار على المدينة، لتقييد الجيش ومنع انتشاره الذي تم مؤخراً، إلى جانب وقف حركة الطيران المقاتل الذي كان ينطلق من قاعدة الأبيض الجوية في السابق.
وأعلن الجيش اكتمال تأمين عدد من المرافق الاستراتيجية كمطار الأبيض وفتح عدة طرق مع بلدات أخرى بالولاية.
أما ولاية غرب كردفان، فتشهد اشتباكات عنيفة ومستمرة منذ نهاية فبراير الماضي، حيث حشدت الدعم السريع قواتها بشكل كبير وشنت هجوماً على مقر الفرقة 22 بمدينة بابنوسة، وتتواصل الاشتباكات بالأسلحة الثقيلة والمسيرات، حيث تهاجم الدعم ويتصدى الجيش.
أما في جنوب كردفان تقطع الدعم السريع الطريق ما بين مدن الدلنج وكادقلي، وتحاول التوغل وسط إعلان من الجيش بأنه يتصدى لهجمات الطرف الآخر، لكن طرفاً ثالثاً يزيد تعقيدات الوضع، هو الحركة الشعبية شمال، والتي تحاول الخروج من مناطق سيطرتها إلى مواقع جديدة لتنفيذ هجمات من وقت لآخر على مقار الجيش في مدن الولاية المختلفة.
الوضع في دارفور
عقب اشتعال الصراع بالخرطوم تحولت الحرب إلى دارفور بصورة مباشرة، حيث وقعت معارك عنيفة بمحيط الفرقة 16 مشاة التابعة للجيش بمدينة نيالا التي تعتبر أكبر الفرق العسكرية بغرب السودان من حيث العتاد والقوة القتالية، وبعد أشهر من المعارك المحتدمة التي استخدمت فيها الأسلحة الثقيلة والخفيفة، سقطت الفرقة بيد الدعم السريع في أكتوبر الماضي.
وبعد سقوط نيالا توجهت الدعم السريع إلى ولاية وسط دارفور مدينة زالنجي ليعلن السيطرة على الفرقة 19 مشاة بعد معارك امتدت ليومين.
وواصلت الدعم السريع في تقدمها يساندها في ذلك انشغال الجيش بمعركة الخرطوم وانقطاع طريق إمداد الفرق العسكرية في إقليم دارفور، وعقب معارك عنيفة سيطرت على الفرقة 15 مشاة بمدينة الجنينة بولاية غرب دارفور.
ولم يكن صعباً سيطرة الدعم السريع على الفرقة 20 مشاة بمدينة الضعين بولاية شرق دارفور، والشاهد أن عدداً من الفرق العسكرية التابعة للجيش ترهقها بمعارك طويلة، لكنها تنسحب في النهاية لتترك مقراتها، حيث تسيطر الدعم السريع على 4 ولايات من أصل 5 هي ولاية جنوب دارفور وغرب دارفور وشرق ووسط دارفور.
وبعد مناشدات دولية محلية توقفت الدعم السريع عن مهاجمة الفرقة السادسة مشاة بمدينة الفاشر بولاية شمال دارفور عاصمة إقليم دارفور، وتمركزت حول المدينة مع تجدد المناوشات والقصف المدفعي والجوي بينها والجيش.
ومع إعلان حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي أنه سيشارك في القتال إلى جانب الجيش، فرضت الدعم السريع حصاراً واسعاً على مداخل الفاشر بجحة منع دخول عتاد عسكري إلى الجيش حيث يقصف الجيش هذه التمركزات عن طريق سلاح الجو لأوقات كثيرة إلى جانب مناطق أخرى من الإقليم، إلا ان الخلافات بين الحركات الموقعة على اتفاق السلام فيما بينها وانحياز أطراف منها للجيش وإعلانه قتال الدعم السريع، ينبئ بمعركة مرتقبة ستكون هي الأكبر والأعلى خسارة حال اندلاعها، وفق محللين عسكريين.