"عدد متزايد من الحكومات والجهات السياسية لا تقوم بدورها كضامنة لأفضل بيئة ممكنة للصحافة ولحق الجمهور في الحصول على أخبار ومعلومات موثوقة ومستقلة ومتنوعة"، كانت هذه واحدة من خلاصات تقرير منظمة "مراسلون بلا حدود" السنوي لعام 2024، والذي أظهر تراجعاً مقلقاً في دعم واحترام استقلالية وسائل الإعلام وارتفاع منسوب الضغوط التي تمارسها الدولة أو غيرها من الجهات السياسية الفاعلة.
وتتزايد الضغوط السياسية على حرية الصحافة في جميع أنحاء العالم في ظل انتشار بؤر التوتر وتزايد موجات الحروب، في حين تلعب بعض الدول دوراً نشطاً في نشر المعلومات المضللة، حسبما حذرت منظمة مراسلون بلا حدود في تصنيفها لعام 2024.
ولقي 141 صحافياً على الأقل مصرعهم جراء الغارات الإسرائيلية على غزة والمستمرة منذ 7 أشهر، لتصبح واحدة من أكثر الحروب دموية على الإطلاق بالنسبة للصحافيين.
وسقط هؤلاء الصحافيون، في مناطق متفرقة في غزة حسب ما أفادت منظمة مراسلون بلا حدود، سواءً شمال القطاع أو جنوبه، بما في ذلك خان يونس، وهو ما يوضح أنه لا يوجد أي مكان آمن للصحافيين في غزة ككل.
22 على الأقل من مجموع الصحافيين الذين لقوا حتفهم في غزة، سقطوا أثناء قيامهم بمهامهم أو بسببها، وكان العديد منهم يقومون بتغطية الأحداث بشكل مباشر في الميدان، وكان من الواضح أنهم صحافيون، وفق "مراسلون بلا حدود"، فيما سقط آخرون في غارات استهدفت منازلهم على وجه التحديد. وقد أحالت مراسلون بلا حدود مرتين الجرائم التي ترتكبها إسرائيل ضد الصحافيين إلى المحكمة الجنائية الدولية.
وقال الأمين العام لمنظمة مراسلون بلا حدود كريستوف ديلوار إن "الصحافيين الذين سقطوا في غزة ليسوا أرقاماً، بل هم أصوات أسكتتها إسرائيل، وشهود على الكارثة التي تتكشف في فلسطين، وأرواح انطفأت. إذا كانت الأرقام تشير إلى أي شيء، فإنها تدل على أنه منذ السابع من أكتوبر، لم يعد هناك مكان آمن في غزة، ولم يسلم أي صحافي في غزة، ولم تتوقف المذبحة. ونكرر نداءنا العاجل لحماية الصحافيين في غزة".
عمل محفوف بالمخاطر
وتشير الكاتبة في صحيفة "ديلي تليجراف" البريطانية آن إليزابيث موتيت في حديثها مع "الشرق" إلى أن الصحافيين في قطاع غزة يقومون بعمل محفوف بالمخاطر وفي بيئة شديدة التعقيد، مثل أولئك الذين قضوا في سوريا ولبنان والسلفادور (وأذكر البلدان التي فقدت فيها أصدقاء مثل ديفيد بلوندي في السلفادور أو ماري كولفين في سوريا).
وقالت إن "النزاعات المسلحة أثارت دوماً، فضول الصحافيين، وشكلت حرب فيتنام اللحظة المثالية في التاريخ التي منحت فيها القوات الأميركية للصحافيين الحرية الكاملة لنقل ما يجري، ومنذ ذلك الحين، تراجعت حرية الصحافة بشكل ملفت".
وأوضحت أن المؤسسات الصحافية لم تعد تمتلك ميزانيات لحماية صحافييها والسماح لهم بالعمل بشكل جيد خصوصاً في مناطق التوتر، فإعداد التقارير يتطلب موارد مالية كبيرة لتأمين النقل والفنادق والخطوط الأرضية والهواتف الفضائية والتأمين، وهو ما يدفعها في الغالب إلى الاعتماد على صحافيين مستقلين.
وأكدت أنه في "الدول الديمقراطية، حتى تلك التي يمكن انتقادها بسهولة على وجه التحديد لأن الصحافيين ما زالوا قادرين على التعبير عن آرائهم هناك، لا يزال لديها نظام قانوني يحمي حرية الصحافة، لكن النصوص القانونية وحدها غير كافية"، مشيرة إلى أن المجر وسنغافورة لديها تشريعات مهمة لكنها "متأخرة في حرية الصحافة".
وتابعت: "كما أن إيران وروسيا تتوفران على العديد من القوانين، وهذا لا يمنع الإيرانيين أو الروس من وضع الصحافيين الذين يتهمونهم زوراً بالتجسس في السجن لسنوات"، وفق قولها.
وقال المؤرخ الفرنسي ومدير معهد باريس للصحافة جيوم جوبان، إن حرية الصحافة في الغرب تتعرض للانتهاك من قبل السلطات، عندما يتم اتهام السياسيين الذين يطالبون باحترام حقوق الإنسان للفلسطينيين بالإرهاب.
وفي حديث مع "الشرق" اعتبر جوبان أن "إحصائيات حرية الصحافة تظهر أن الموقف الفرنسي بعيد كل البعد عن الأمثل، وعما قد يعتقده المرء. وتتعرض حرية الصحافة في فرنسا أحياناً للاضطهاد والاحتجاز من قبل سلطات إنفاذ القانون".
"حرية الصحافة في الغرب تتعرض للاستلاب والاضطهاد من قبل السلطة وأرباب الشركات"
المؤرخ الفرنسي ومدير معهد باريس للصحافة جيوم جوبان
وشدد جوبان على أن حرية الصحافة في الغرب معرضة للخطر من قبل أرباب الصحافة الذين يميلون إلى اتجاهات مخالفة للواقع، خاصة في موضوع فلسطين.
الذكاء الاصطناعي.. أداة قمع؟
وترى منظمة Freedom House أن التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي يؤدي إلى تفاقم أزمة حقوق الإنسان على الإنترنت. وبينما يمكن أن تقدم تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي إضافات مفيدة للعلوم والتعليم والمجتمع ككل، فإن اعتمادها أدى أيضاً إلى زيادة حجم وسرعة وكفاءة عمليات "القمع الرقمي".
ومكنت الأنظمة الآلية التي توفرها هذه التكنولوجيا، الحكومات من إجراء أشكال أكثر دقة من الرقابة على الإنترنت. كما يستخدم مروجو المعلومات المضللة الصور والتسجيلات الصوتية والنصوص التي ينتجها الذكاء الاصطناعي، مما يسهل عملية تشويه الحقائق بحيث يصعب تمييزها عن غيرها.
وتقوم أنظمة المراقبة المتطورة بمسح وسائل التواصل الاجتماعي بسرعة بحثًا عن علامات المعارضة، كما يمكن استغلال قواعد البيانات الضخمة وربطها بتكنولوجيا مسح الوجه لتحديد وتتبع المتظاهرين المناهضين للأنظمة.
تراجع حرية الإنترنت
وتراجعت حرية الإنترنت العالمية للعام الثالث عشر على التوالي في عام 2023. ومن بين 70 دولة يغطيها تقرير الحرية على الإنترنت، تدهورت ظروف حقوق الإنسان على الإنترنت في 29 دولة، في حين سجلت 20 دولة فقط تقدماً.
وبينما استحوذت روبوتات الدردشة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي على قدر كبير من الاهتمام، ناضل الناس في مختلف أنحاء العالم ضد موجة من القمع الرقمي حسب المنظمة.
وقالت إليزابيث موتيت إن "الأنظمة الشمولية" لازالت بعيدة عن حرية الصحافة، مضيفة أن "الكتابة عن الفساد في الصين وروسيا وزيمبابوي مثلاً ممنوع ويمثل خطاً أحمر".
وأضافت أنه مع اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا، قررت الحكومات الأوروبية طرد الصحافيين الروس ومنع تغطياتهم، ووصفت موتيت القرار، بأنه "استراتيجي سيادي"، لأن هذه الأجهزة "الصحافية" الروسية كانت جزءاً من نظام دعائي، وأشارت إلى أن "أبزر مثال على ذلك ما تنشره كل مساء مارجريتا سيمونيان، مديرة قناة RT، التي تخدم حكومة بلادها لإضعاف الدول الغربية الداعمة لأوكرانيا"، وفق قولها.
وأدى الغزو الروسي لأوكرانيا والعقوبات الثقيلة التي فرضتها القوى الغربية إلى قطيعة بين الاقتصاد الروسي والاقتصادات الأوروبية، وهو ما أدى إلى نشوء قدر كبير من عدم اليقين. وبعيداً عن الرقابة، فقد شهد سوق الإعلان تقلبات كبيرة، أثرت بشكل خاص على الصحافة الإقليمية.
وقالت موتيت إن "هناك سلسلة من وسائل الإعلام التي تنتج محتويات بشكل جيد للغاية، وتوظف صحافيين محترفين ممتازين، وما إلى ذلك. وهي في الغالب أسلحة في الحرب الهجينة".