بعد إعلانه الموعد النهائي للانسحاب من أفغانستان، أنهى الرئيس الأميركي جو بايدن جدلاً طويلاً، حتى داخل الجيش الأميركي، حول ما إذا كان الوقت مناسباً لإنهاء الوجود الأميركي في أفغانستان.
ويبدأ من السبت، ما بين 2500 إلى 3500 جندي أميركي مغادرة أفغانستان، ليكتمل خروجهم بحلول 11 سبتمبر المقبل، لكن جدلاً آخر سيستمر على الأرجح لفترة أطول بشأن "هل كان الأمر يستحق؟".
منذ 2001، قُتل عشرات الآلاف من الأفغان و2442 جندياً أميركياً، ونزح ملايين الأفغان من ديارهم، وأنفقت مليارات الدولارات على الحرب وإعادة الإعمار.
ومع بدء الرحيل الأميركي عن أفغانستان، تلقي وكالة "أسوشيتد برس" نظرة على هذه المهمة طويلة الأمد، وما أنجزته على الأرض.
مكافحة الإرهاب
في الأيام الأولى التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر على الولايات المتحدة، بدت المهمة واضحة ومحددة، وهي "تعقب الجناة ومعاقبتهم".
لذلك قررت الولايات المتحدة أن تنظيم "القاعدة"، وزعيمه أسامة بن لادن، دبّرا هذا الهجوم من أفغانستان تحت حماية حكام طالبان.
وفي ذلك الوقت كانت طالبان حكومة منبوذة، تخضع لعقوبات من الأمم المتحدة، وتُشوه سمعتها في الغرب بسبب ممارستها السلطة من خلال تفسير متشدد للشريعة.
وحتى 11 سبتمبر، كانت الولايات المتحدة تراقب أفغانستان من بعيد، وتطالب طالبان من حين لآخر بتسليم أسامة بن لادن، وفي 1998 أطلقت صاروخين كروز على قاعدة تابعة لتنظيم القاعدة شرق أفغانستان.
في ذلك الوقت كانت أميركا تقود حملة تحمل اسم "عملية الحرية الدائمة"، بهدف القضاء على حركة طالبان، وتدمير تنظيم القاعدة.
ولجأت واشنطن إلى حلفائها الوحيدين في أفغانستان، وهم مجموعة من أمراء الحرب، انتمى معظمهم إلى مقاتلين سابقين دعمتهم الولايات المتحدة في قتالهم ضد الاتحاد السوفييتي في ثمانينيات القرن الماضي.
فقدان طالبان السيطرة
وبعد أحداث 11 سبتمبر، انضم حلف شمال الأطلسي "ناتو" إلى التحالف، وفي غضون أسابيع من الغزو والقصف الجوي، تمكنت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة من إجبار طالبان على الاستسلام وإسقاط حكومتها، فهرب قادتها، وفقد مقاتلوها سيطرتهم على البلاد.
وفي هذه الفترة، عبر تنظيم القاعدة أيضاً الحدود فراراً إلى باكستان، واستغرق البحث عن بن لادن 10 سنوات حتى تمكنت القوات الأميركية من تعقبه في مخبئه بباكستان على مسافة 100 كيلومتر (60 ميلاً) من إسلام أباد، وقضت عليه في مايو 2011.
في هذا العَقْد، وقعت أميركا وحلف شمال الأطلسي في مهمة بالغة التعقيد، ففي البداية قال وزير الدفاع الأميركي آنذاك، دونالد رامسفيلد، إن "الولايات المتحدة ليست في أفغانستان من أجل بنائها"، لكن هذا لم يلبث أن تغير.
وعندما غزت الولايات المتحدة العراق في 2003، تركت وراءها أفغانستان لأمراء الحرب السابقين الذين شغلتهم الثروة والسلطة.
فكرة المحادثات مع طالبان
وأثار أول رئيس أفغاني في حقبة ما بعد طالبان، حامد كرزاي، فكرة المحادثات مع طالبان لتحقيق السلام. وأبدى المسلحون رغبة في التوصل إلى تسوية، لكن المسؤولين الأميركيين أغلقوا الباب أمام أي مفاوضات مع طالبان، لقناعتهم بقدرتهم على تدميرها.
المسلحون عاودوا الظهور عبر تمرد طويل، ووجدت الولايات المتحدة نفسها تضخ أموالاً، وقوة بشرية لمساعدة الحكومة الأفغانية على القتال، ولإعادة بناء البلد الذي مزقته الحرب، ومع تدفق مليارات الدولارات ترعرع الفساد في الحكومة المدعومة أميركياً، وازدادت سوءاً بمرور السنين.
تحطم تنظيم القاعدة
تحطمت قدرة تنظيم القاعدة، ولم يعد بمقدوره توجيه ضرباته إلى الولايات المتحدة والغرب، لكن الجماعة تفرعت في دول عديدة خاضت فيها حروب تمرّد.
وشرح بايدن قراره بسحب آخر 2500 إلى 3500 جندي أميركي من أفغانستان، قائلاً إن "المخاوف الأمنية الأميركية تطورت، لقد مات بن لادن، وتدهورت أوضاع تنظيم القاعدة في العراق وأفغانستان".
واعتبر بايدن أن التهديد تحول إلى "ظاهرة عالمية" لا يجب قتالها عبر آلاف الجنود القابعين على الأرض في إحدى الدول، ولكن بالتكنولوجيا الحديثة.
وأضاف: "الولايات المتحدة يجب أن تتحرر لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين الأكثر تعقيداً"، بما في ذلك التحديات التي تفرضها روسيا والصين.
وبشأن الموقف في أفغانستان، قال بايدن إنه لا يرى "كيف سيؤدي الوجود العسكري الأميركي المستمر إلى حدوث تحول".
وتساءل: "متى ستحين اللحظة المناسبة للرحيل عن أفغانستان؟ بعد عام آخر، بعد عامين، أم بعد 10 أعوام؟"، مضيفاً: "فقط ليس الآن.. هكذا وصلنا إلى ما وصلنا إليه".
ماذا عن أفغانستان الآن؟
الولايات المتحدة و"ناتو" يتركان أفغانستان بلداً يدار نصفه بشكل مباشر أو غير مباشر من قبل طالبان، على الرغم من المليارات التي أنفقت على التدريب وتسليح القوات الأفغانية لمقاتلة أعضاء طالبان.
أما الحكومة المدعومة من قبل الولايات المتحدة، والتي استشرى فيها الفساد، وأمسك أمراء الحرب بزمامها، فلم تعد محل ثقة من قبل كثير من الأفغان.
وتمارس واشنطن وحلفاؤها الدوليون ضغوطاً هائلة على الحكومة وطالبان، للتوصل إلى اتفاق سلام، والأمل أن يعي الطرفان أنه من المستحيل تحقيق أحدهما نصراً عسكرياً على الآخر، وأن السلام هو السبيل الوحيد.
ويتمثل السيناريو الأفضل على الإطلاق في "تشكيل حكومة بمشاركة طالبان تمهد الطريق لوضع نظام دستوري جديد للمستقبل، يتضمن شكلاً ما من أشكال الانتخابات".
أما السيناريو الأسوأ فيتمثل في "فشل محادثات السلام، وغرق أفغانستان في فصل جديد من حربها الأهلية الممتدة منذ عقود".
وفي هذه الحالة، ستكون الحرب أشد ضراوة، ولن تقتصر المواجهة على طالبان وحدها، وإنما سيشارك فيها أيضاً أمراء الحرب الآخرون والفصائل المسلحة التي تتصارع على السلطة.
مكاسب هشة
وبعد 20 عاماً على خروج طالبان من الحكم، حقق الأفغان بعض المكاسب، لكنها تبقى "هشة" وتواجه خطر التلاشي، بمجرد خروج الولايات المتحدة من أرض أفغانستان، سواء بعثرتها حكومة جديدة، أو سحقتها آلة الحرب المستمرة.
وعلى سبيل المثال، الآن تتاح للفتيات فرص التعلم التي حجبها حكم طالبان من قبل، وعلى الرغم من ذلك، يوجد على الأقل 3.6 مليون طفل، أغلبهم من البنات، لا يذهبون إلى المدارس، وفقاً لتقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسف".
والنساء الآن يذهبن إلى العمل ويشاركن في البرلمان، وعلى الرغم من قوة أصواتهن، لا يزال البرلمان الأفغاني غير قادر على تمرير مشروع قانون "العنف ضد النساء" بسبب هيمنة المحافظين الدينيين، ويصر "معهد جورجتاون للمرأة والسلام والأمن" على تصنيف أفغانستان كإحدى أسوأ دول العالم بالنسبة للمرأة.
إنتاج الأفيون
وقبل الحرب في 2001، كانت طالبان قد استأصلت إنتاج الأفيون في أفغانستان، وفقاً لإحصاءات الأمم المتحدة. أما اليوم فتتربع أفغانستان على قمة الدول المنتجة للأفيون، ويزيد إنتاجها على إنتاج هذه الدول جميعاً، على الرغم من إنفاق الولايات المتحدة ملايين الدولارات للقضاء على إنتاج المخدرات.
وتظهر أحدث الأرقام المتاحة أن صناعة الأفيون في 2019 حققت مكاسب تتراوح بين 1.2 مليار دولار و2.1 مليار دولار، متجاوزة بذلك قيمة الصادرات القانونية للبلاد، وفقاً لمراقب الحكومة الأميركية لإعمار أفغانستان، جون سوبكو.
ويذهب أكثر من 14 مليون دولار من هذه المكاسب إلى خزائن حركة طالبان التي تفرض الضرائب على تجارة المخدرات في جميع أنحاء البلاد.
تحت خط الفقر
وعلى الرغم من مليارات الدولارات التي تنفقها الولايات المتحدة في المساعدات الإنسانية وبرامج إعادة الإعمار، يعيش أكثر من نصف السكان البالغ عددهم 36 مليون نسمة تحت خط الفقر، الذي حدده البنك الدولي بـ1.90 دولار يومياً، بالإضافة إلى ملايين أخرى كثيرة لا تتجاوز هذا الحد بكثير، وتبلغ نسبة البطالة في أفغانستان 40%.
وقالت الأمم المتحدة والصليب الأحمر إن "ما يقرب من نصف الأطفال في أفغانستان يواجهون خطر الجوع".
ووفقاً لاستطلاع رأي أجراه معهد "غالوب" في 2018 "لا يمتلك غالبية الأفغان أملاً كبيراً في مستقبلهم".
وقال توريك فرهادي، المحلل السياسي والمستشار الحكومي السابق، إن "أفغانستان تقف على شفا الدولة الفاشلة، ومن المؤكد أنها ستدخل هذه الفئة فور انسحاب القوات الأجنبية في ظل غياب ترتيب سياسي أفضل"، مضيفاً: "هذا هو واقع أفغانستان".