لأول مرة في تاريخ المكسيك الممتد على مدى 200 عام، ستصبح امرأة رئيسة للبلاد، بعدما تمكنت كلوديا شينباوم، الفيزيائية وعالمة المناخ الحاصلة على درجة الدكتوراه في هندسة الطاقة، من كسب الرّهان لتحل محلّ "أستاذها" الرئيس المنتهية ولايته أندريس مانويل لوبيز أوبرادور.
وحصلت شينباوم، البالغة من العمر 61 عاماً، على ما لا يقل عن 58% من الأصوات في انتخابات تاريخية الأحد، شهدت تنافس امرأتين على أعلى منصب في البلاد، وهي منافسة نوعية في بلد معروف منذ فترة طويلة بالذكورية والعنف المتفشي ضد المرأة.
وأدارت عمدة مكسيكو سيتي السابقة، حملة منضبطة مستفيدة من شعبية سلفها. وستكون أيضاً أول رئيسة يهودية في دولة بها أكبر عدد من السكان الكاثوليك في العالم. على الرغم من أنها ليست ملتزمة دينياً، إلا أن شينباوم تُعرف بأنها يهودية ثقافياً، وتحدثت عن تراثها في الماضي.
وقالت شينباوم في خطاب ألقته الاثنين: "واجبنا هو، وسيظل دائماً، رعاية كل مكسيكي دون تمييز".
وأضافت: "للمرة الأولى منذ 200 عام من عمر الجمهورية، سأصبح أول رئيسة للمكسيك. وكما قلت في مناسبات أخرى، فأنا لا أصل وحدي. وصلنا جميعاً، مع بطلاتنا اللاتي منحتنا وطننا، مع أجدادنا وأمهاتنا وبناتنا وحفيداتنا".
وتعهدت شينباوم، بمواصلة الاتجاه الذي حدده "مرشدها" السياسي الرئيس المنتهية ولايته أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، لكن العالمة ذات المزاج البارد تقدم تناقضاً حاداً في الأسلوب، وانفصالاً عن الثقافة السياسية التي يهيمن عليها الذكور في المكسيك"، وفق "فرانس برس".
من "الباليه" إلى السياسة
ولدت شينباوم في مكسيكو سيتي عام 1962 لعائلة يهودية علمانية هاجرت من ليتوانيا وبلغاريا في أوائل الأربعينيات هرباً من الهولوكوست، وكان والدها مهندساً كيميائياً، ووالدتها عالمة أحياء.
"راقصة الباليه السابقة"، تصف نفسها بأنها "مهووسة" و"منضبطة"، وأثناء دراستها للحصول على شهادتها الجامعية بالجامعة الوطنية المستقلة في المكسيك UNAM، انغمست شينباوم في السياسة الطلابية، واحتجت على "خصخصة" التعليم العام.
كما درست هندسة الطاقة في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، حيث أصبحت تتقن اللغة الإنجليزية، وحصلت على درجة الماجستير، قبل أن تعود إلى الجامعة لدراسة الدكتوراه.
وبعد تخرجها من الجامعة، ولجت شينباوم المجال السياسي في عام 2000، عندما تم تعيينها وزيرة للبيئة في مكسيكو سيتي من قبل أوبرادور، الذي كان آنذاك رئيس حكومة المدينة.
وتتذكر شينباوم أن أوبرادور عندما عرض عليها المسؤولية، قال لها في اجتماع بأحد المطاعم: "ما أريده هو الحد من التلوث". "هل تعرفين كيف يتم ذلك؟". فأجابت شينباوم، التي كانت قد كتبت في ذلك الوقت أكثر من 10 تقارير عن استخدام الطاقة وانبعاثات الكربون، بـ"نعم". وأصبحت وزيرة البيئة له.
في الاجتماعات، بدت شينباوم مستعدة لفعل أي شيء تقريباً لإسعاد رئيسها، وفقاً للعديد من الأشخاص الذين عملوا معها، وتحدثوا إلى "نيويورك تايمز".
وقال هيريديا الذي عمل معها في حكومة المدينة خلال عهد أوبرادور: "كانت العبارة التي استخدمتها مراراً وتكراراً هي (قال العمدة) ما يعنيه ذلك نحن لسنا حكومة لتقديم الأفكار، نحن مجموعة من الأشخاص هنا لتنفيذ ما يقرره".
وفي السنوات التي تلت ذلك، عملت شينباوم بين الأوساط الأكاديمية والسياسة، لكنها ظلت دائماً قريبة من أوبرادور. وعندما أسس حزب "مورينا" في عام 2014، طلب منها الترشح على تذكرة الحزب لمنصب عمدة تلالبان، أحد أحياء مكسيكو سيتي.
وفي عام 2015، أصبحت أول امرأة منتخبة رئيسة لمنطقة تلالبان في العاصمة، وظلت في منصبها حتى عام 2017.
وفي العام التالي، تم انتخابها رئيسة لحكومة المدينة مرة أخرى، وهي أول امرأة تشغل هذا المنصب، ولكنها تنحت في يونيو 2023 للشروع في ترتيبات ترشحها لرئاسة الجمهورية.
وخلال فترة عملها، ركزت شينباوم على التنقل الحضري، والاستدامة، والسلامة العامة، والمساواة بين الجنسين، ومواجهة تحديات مثل الوباء. وفي مجال الأمن، تدافع عن تعزيز الحرس الوطني، الذي أنشأه الرئيس المكسيكي لاحتواء العنف والجريمة في البلاد.
على الرغم من أنها تلقت انتقادات بسبب الحوادث التي وقعت في البنية التحتية التي أشرفت عليها خلال فترة ولايتها، بما في ذلك العديد من الوفيات التي وقعت خلال زلزال بقوة 7.1 درجة ضرب تلالبان في عام 2017، إلا أنها واصلت رحلة الصعود، حيث تم انتخابها عمدة لمدينة مكسيكو سيتي في يوليو 2018، وحصلت على 50% من الأصوات في منافسة تضم 7 مرشحين. وكانت شينباوم أول امرأة وأول يهودية تتولى هذا المنصب.
كما هو الحال في مناصبها السابقة، تولت شينباوم قضايا النقل العام والبيئة، وقامت حكومتها بتوسيع عملية جمع مياه الأمطار، وإصلاح إدارة النفايات، وبدأت برنامج إعادة التشجير.
كما أعلنت عن خطط لإصلاح نظام مترو الأنفاق في المدينة الذي ظل في حالة سيئة لفترة طويلة باستثمارات ضخمة في تحديث القطارات ودعم البنية التحتية القائمة. ومع ذلك، أشار منتقدوها إلى استمرار الحوادث المميتة في مترو الأنفاق على الرغم من محاولتها الإصلاحات.
وسرعان ما اكتسبت شينباوم سمعة باعتبارها رئيسة صارمة، وفق "نيويورك تايمز". وقالت سوليداد أراجون، العضو السابق في حكومة شينباوم: "لا يذهب أحد إلى اجتماعاتها ليقول لها، إنني أعمل على هذا".
وأضافت أراجون في وصفها لرئيستها: "إنها تستطيع أن تتذكر أرقاماً محددة تم ذكرها في اجتماع بعد أسابيع من حدوث ذلك"، كما وصفتها بـ"الرائعة" و"المتطلبة"، خاصة فيما يتعلق بنفسها، وأضافت: "لقد حصلت على نتائج".
"سريعة الغضب"
قال 5 مسؤولين عملوا مع شينباوم، ولم يكن مسموحاً لهم بالتحدث علناً لصحيفة "نيويورك تايمز"، إنها كانت سريعة الغضب في بعض الأحيان، وكانت تصرخ على مرؤوسيها أمام مجموعات كبيرة من الموظفين.
ويقول المدافعون عنها إن بعض الناس كان رد فعلهم سيئاً تجاه امرأة مسؤولة. وقالت مارتا لاماس، الناشطة النسوية منذ فترة طويلة والمقربة من شينباوم وفريقها: "أعلم أنه في بعض الأحيان يشعر الناس في حكومتها بالإهانة أو الشعور بالسوء، لأنها صرخت فيهم، ولكن إذا صرخ الرجل، فلن تكون هناك مشكلة، لأن الأمر مختلف ثقافياً".
وأضافت أراجون: "يقول الناس ذلك بطريقة انتقادية: إنها قوية". "ماذا تريد، شخص لطيف مسؤول عن المدينة؟"، على حد تعبيرها.
"الخروج من ظل الرئيس"
في عام 2022، وجهت مذيعة إذاعية سؤالاً حاداً لشينباوم من إحدى المستمعات: "لماذا لا تختارين أن تكوني امرأة تحكم بأفكارها الخاصة؟ لماذا لا تخرجي من حلقة الرئيس؟
وردت شينباوم قائلة: "إذا كنت تفكر بنفس طريقة تفكير شخص آخر، فهذا لا يعني أنك تقلده، أنت فقط توافق على الأفكار.. لا يمكنك إنكار ما تؤمن به".
في 12 يونيو 2023، أعلنت شينباوم أنها ستتنحى عن منصبها كعمدة لمدينة مكسيكو سيتي لتسعى للرئاسة مرشحة عن حزب "مورينا".
وتبنت المرشحة الرئاسية مواقف يسارية تمثل ركيزة الحزب، مثل أن يتمتع جميع المواطنين بالحقوق الأساسية في الرعاية الصحية والتعليم والمأوى والوظائف.
ومع ذلك، فقد رفضت شينباوم جوانب معينة من نهج حزبها في الحكم، لا سيما تلك المتعلقة بتغير المناخ وخلق فرص العمل. وفي حين نجح لوبيز أوبرادور في تحفيز النمو الاقتصادي من خلال دعم صناعة النفط في المكسيك، فإن شينباوم ترفض هذه السياسة، فقد دفعت من أجل الانتقال من الوقود الأحفوري الملوث إلى الطاقة المتجددة المدعومة وطنياً.
وستتاح لشينباوم، عالمة المناخ الفرصة لوضع بصمتها على سياسات المناخ والهجرة في المكسيك بمجرد توليها منصبها في الأول من أكتوبر المقبل.
وبعد أن فازت بالرئاسة، فإن العقبة التالية التي ستواجهها شينباوم ستكون الخروج من ظل سلفها ومعلمها منذ فترة طويلة.
وقالت في إحدى المقابلات إنها وأوبرادور "شخصان مختلفان"، إنه رجل نفط استثمر في مشاريع مشكوك فيها بيئياً، وهي عالمة مناخ. ومع ذلك، فقد جذبت شينباوم الناخبين بشكل رئيسي من خلال الوعد بتعزيز إرثه، ودعم خطوات مثل رهانه الكبير على شركة النفط الوطنية، والتغييرات الدستورية المقترحة التي يصفها النقاد بأنها غير ديمقراطية، وفق "نيويورك تايمز".
كما أن تحالفهم ترك العديد من المكسيكيين يتساءلون: هل تستطيع شينباوم أن تكون زعيمة لنفسها؟ أم أنها ستكون مجرد بيدق له؟، حسبما نقلته الصحيفة الأميركية.
واشتكت شينباوم للصحافيين في وقت سابق من هذا العام قائلة: "هناك فكرة، لأن الكثير من كتاب الأعمدة يقولون ذلك، وهي أنني لا أملك شخصية، إن الرئيس أوبرادور يخبرني بما يجب أن أفعله".
وقال رئيس المعهد الانتخابي الوطني إن شينباوم حصلت على ما بين 58.3% و60.7% من الأصوات، في حين حصلت مرشحة المعارضة زوتشيتل جالفيز على ما بين 26.6% و28.6%، وجورجي ألفاريز ماينز على ما بين 9.9% و10.8% من الأصوات. ومن المتوقع أيضاً أن يحصل حزب "مورينا" على الأغلبية في مجلسي الكونجرس.
ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية بعد أشهر قليلة، قالت شينباوم لصحيفة "نيويورك تايمز"، إنها مستعدة للعمل مع أي مرشح يفوز. وقد رددت علانية تأكيد أوبرادور على معالجة الهجرة من خلال معالجة أسبابها الجذرية.
وفي إشارة إلى التغيير المحتمل، قالت في مناظرة جرت مؤخراً إنها ستسعى إلى إصلاح هيئة الهجرة في البلاد، وهي وكالة غالباً ما تتهم بالفساد، وفق "نيويورك تايمز".