في شهر مايو الماضي، أقرت هيئة محلفين من 7 رجال و5 نساء بأن الرئيس الأميركي السابق والمرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية المقبلة دونالد ترمب، "مُذنب" في 34 تهمة تتعلق بتزوير وثائق حسابية لإخفاء دفع مبلغ 130 ألف دولار لممثلة الأفلام الإباحية السابقة ستورمي دانييلز في قضية "شراء الصمت".
ومن غير المرجح أن ينتهي الأمر بترمب في السجن بسبب هذه الاتهامات، أو بسبب قضية أخرى قبل نوفمبر 2024، موعد إجراء الانتخابات الرئاسية. إلا أنه إذا حدث ذلك، فلن يكون أول مرشح يترشح للبيت الأبيض من "خلف القضبان".
ففي انتخابات عام 1920، حصل يوجين فيكتور دبس، المرشح الرئاسي للحزب الاشتراكي، على نحو مليون صوت، دون أن يشارك في الحملة الانتخابية.
وكان دبس آنذاك خلف القضبان في السجن الفيدرالي في مدينة أتلانتا، بولاية جورجيا، يقضي عقوبة بالسجن لمدة 10 سنوات بتهمة التحريض على "الفتنة"، بعد أن كان دبس قد خالف وتحدى قانوناً اعتبره "غير عادل"، وهو قانون التحريض على الفتنة لعام 1918، حسبما نقلت وكالة "أسوشيتد برس".
وكان القانون إجراءً مناهضاً لحرية التعبير صدر بناءً على طلب الرئيس الأميركي حينها وودرو ويلسون (1856-1924). كان ينص على أنه من غير القانوني أن "ينطق مواطن أميركي أو يطبع أو يكتب أو ينشر عمداً أي كلام غير مخلص أو بذيء أو مسيء لحكومة الولايات المتحدة" أو يثبط الامتثال للتجنيد الإجباري أو التجنيد الطوعي في الجيش.
وقبل أن يدخل السجن بتهمة التحريض على الفتنة، كان يوجين دبس معروفاً بمناهضته لقرارات الحكومة وقوانينها.
وولد دبس في عام 1855 في تير هوت بولاية إنديانا، وعمل كاتباً وبقالاً قبل أن ينضم إلى "أخوية رجال إطفاء القاطرات" في عام 1875، وهي جمعية للعاملين كرجال إطفاء للقطارات البخارية، وهناك كانت بداياته مع العمل النقابي.
رمز الاشتراكية الأميركية
على مدى الثلاثين عاماً، كان دبس رمزاً للاشتراكية في الولايات المتحدة، كما ترشح للرئاسة 4 مرات، في أعوام 1900، و1904، و1908، و1912، قبل أن يحصل على حوالي مليون صوت في الدورة الأخيرة والخامسة له عام 1920.
وقال أمام حشد من الناس، في ماديسون سكوير جاردن بنيويورك خلال حملة عام 1912، إن "الأحزاب الجمهورية والديمقراطية والتقدمية، ليست سوى فروع لنفس الشجرة الرأسمالية.. جميعهم يمثلون عبودية الأجر".
واختار دبس، في عام 1916، السعي للحصول على مقعد في الكونجرس وشارك في لائحة الحزب التي ترأسها الصحافي الاشتراكي آلان بينسون، لكن كلاهما خسر.
وفي أبريل 1917، عندما شاركت الولايات المتحدة في الحرب العالمية الأولى، أصبح دبس معارضاً شرساً للتورط الأميركي في ما وصفه بـ"عبادة الموت" يحرك خيوطها صناع الأسلحة. وفي 21 مايو 1918، وخوفاً من الحركة المناهضة للحرب التي كانت صغيرة ولكنها نشطة، وقع الرئيس ويلسون على قانون التحريض على الفتنة.
وفي 16 يونيو 1918، خلال خطاب ألقاه في كانتون بولاية أوهايو، أعلن أن الشباب الأميركي "مؤهل لما هو أفضل من أن يكونوا وقوداً للمدافع".
وقال: "لقد علموكم ودربوكم على الاعتقاد بأن من واجبكم الوطني أن تذهبوا إلى الحرب، وأن تذبحوا بأمرهم، ولكن في كل تاريخ العالم، لم يكن لكم أيها الشعب صوت في إعلان الحرب، ومن الغريب أن أي دولة في أي عصر لم تعلن حرباً من قبل الشعب"، حسبما نقلت صحف أميركية عنه في تقارير تتناول حياته.
وأضاف أن "الطبقة العاملة التي تسفك دماءها بحرية وتزود الجثث، لم يكن لها صوت في إعلان الحرب أو صنع السلام. وأن الطبقة الحاكمة هي التي تفعل كلا الأمرين دائماً.. فهي وحدها التي تعلن الحرب وتصنع السلام".
وأعلن المدعي الفيدرالي إدوين ويرتز، الذي أرسل مراقباً لتسجيل الخطاب، أنه سيوجه الاتهام إلى دبس. وقال ويرتز: "لا يجوز لأي رجل، حتى لو كان مرشحاً لحزبه 4 مرات لأعلى منصب في البلاد، أن ينتهك القانون الأساسي لهذه البلاد".
وبعد فترة وجيزة، تم القبض عليه وإدانته بانتهاك قانون التحريض على الفتنة. وفي أثناء النطق بالحكم، أخبر القاضي أنه لن يتراجع عن كلمة واحدة من خطابه، حتى لو كان ذلك يعني أنه سيقضي بقية حياته خلف القضبان. وأعلن: "لا أطلب الرحمة، ولا أتوسل للحصول على الحصانة".
وبعد فترة وجيزة قضاها في سجن ويست فرجينيا الفيدرالي، تم إرساله لإكمال عقوبته في سجن أتلانتا الفيدرالي.
وعزز السجن من مكانة دبس بين أتباعه، ففي 13 مايو 1920، في مؤتمره الوطني في نيويورك، رشح الحزب الاشتراكي بالإجماع "المدان رقم 2253" كمرشح للرئاسة. وفي وقت لاحق، حصل ديبس على رقم جديد خلال تواجده في السجن، لذلك أصبحت شعارات الحملة تقول "للرئيس، المدان رقم 9653".
وعندما تم إعلان اسم دبس ضمن الترشيح، اجتاحت موجة من المشاعر مندوبي الحزب، الذين هتفوا لمدة 30 دقيقة قبل أن يندفعوا بحماس لترديد النشيد الشيوعي "الأممي"، حسب ما تشير ورقة بحثية لجامعة "برادنيز" في ولاية ماساتشوستس.
حملة "الزنزانة الأمامية"
وكان معارضو دبس يتمتعون بأفضلية من حيث التمويل، إلى جانب قدرتهم على القيام بجولات انتخابية، وكانت المنافسة تتمثل في عضو مجلس الشيوخ الجمهوري من ولاية أوهايو فيوارن هاردينج، وحاكم الولاية ذاتها الديمقراطي جيمس كوكس.
ومع ذلك، لم يمنع السجن رسالته من الوصول للناخبين. وفي استجابة "ساخرة" لأسلوب حملة هاردينج "الشرفة الأمامية"، حيث التقى المرشح الجمهوري الناخبين من الشرفة الأمامية لمنزله في ماريون بولاية أوهايو، أعلن الحزب الاشتراكي أن مرشحه سيدير حملة "الزنزانة الأمامية" من سجنه في أتلانتا.
وكان من الشائع آنذاك أن تُطلق الحملات الانتخابية عبر شاشات السينما، خاصة أن الراديو لم يكن له تأثيراً سياسياً على أصوات الناخبين.
ووصفت العناوين الفرعية للشاشة المشهد الأكثر غرابة في التاريخ السياسي لأميركا، دبس، الذي يقضي عقوبة بالسجن لمدة 10 سنوات بتهمة "الأنشطة التحريضية"، يقبل ترشيح الاشتراكيين له لرئاسة الولايات المتحدة.
وبعد أن تلقى "تحية من الناخبات الاشتراكيات" حسبما ذكرت مجلة "موفينج بيكتشر ويكلي"، ظهر ديبس مرتدياً الجينز، وهو يقدم "وداعاً عاطفياً أخيراً" قبل أن يعود "إلى زنزانة السجن لمدة 9 سنوات أخرى".
في دور السينما في مختلف أنحاء البلاد، تابع الجمهور هذه اللقطات المسجلة، وعكست افتتاحية لصحيفة "نيويورك تايمز" حالة من الفزع والدهشة من أن "مجرماً" قد يتمكن من حشد الأصوات ليصبح رئيساً للبلاد.
وقالت الصحيفة في افتتاحية بتاريخ 12 يونيو 1920: "تحت تأثير عقلية العصابات، يتم التصفيق للمجرم بصوت عالٍ مثل العديد من المرشحين للرئاسة الذين فازوا بمكانتهم المشرفة من خلال خدمة الشعب الأميركي".
تحول الرأي العام
في 2 نوفمبر 1920، أظهرت نتائج الانتخابات، فوز هاردينج على خصمه الديمقراطي بأغلبية قياسية، إذ حصل على 404 أصوات مقابل 127 لكوكس، بنسبة 60.4% من الأصوات مقابل 34.1%.
وكان دبس في المركز الثالث بفارق كبير، لكنه مع ذلك حصل على أصوات 3.4% من الناخبين، أي 913 ألفاً و693 صوتاً. وكان أفضل أداء لدبس يعود إلى الانتخابات الرئاسية عام 1912، حيث حصل على 6% من الأصوات.
حتى مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، وإلغاء قانون التحريض على الفتنة من قبل الكونجرس الأميركي في 13 ديسمبر 1920، رفض الرئيس ويلسون، خلال الأشهر الأخيرة من ولايته، منح دبس عفواً.
لكن الرأي العام تحول بشكل حاسم لصالح المرشح المحكوم عليه. وفي النهاية خفف الرئيس هاردينج، الذي تولى منصبه في مارس 1921، عقوبته، التي دخلت حيز التنفيذ في ديسمبر عام 1921، إلى جانب 23 سجين رأي آخرين من سجناء الحرب العالمية الأولى أدينوا بموجب قانون التحريض على الفتنة.
وقال هاردينج عند تخفيف الحكم إلى المدة التي قضاها دبس بالفعل "إنه رجل عجوز، ليس قوياً جسدياً"، وأضاف أنه "رجل يتمتع بسحر وشخصية مثيرة للإعجاب، وهي المؤهلات التي تجعله رجلاً خطيراً مصمماً لتضليل غير العقلاء، وإعطاء العذر لأولئك الذين لديهم نوايا إجرامية".
وعندما خرج دبس من السجن، هتف زملاؤه السجناء. ورفع قبعته في إحدى يديه، وعصاه في الأخرى، ولوح لهم بيده. في الخارج، كانت الكاميرات تنتظره لاستقباله.
في طريقه إلى منزله في تير هوت بولاية إنديانا، توقف دبس النحيل والمتعب في البيت الأبيض للقاء هاردينج. ولا يوجد سجل أو معلومات حول ما تحدث عنه الرجلان.
توفي ديبس في مصحة في ضواحي ولاية شيكاغو الأميركية، أثناء علاجه من حالة في القلب، في عام 1926.
وفي عام 1977، أصدر الرئيس جيمي كارتر عفواً عن العديد من مقاومي حرب فيتنام الذين فروا إلى كندا. لكن يوجين في. دبس، الذي سُجن بسبب معارضته للتجنيد الإجباري، لم يحصل على أي عفو قط.