في أغسطس 2007، نزلت غواصتان روسيتان 14 ألف قدم، إلى قاع المحيط المتجمّد الشمالي، وغرس مستكشفون علماً روسياً، مصنوعاً من التيتانيوم، في القطب الشمالي. أثار ذلك استهجاناً في الغرب، إذ قال وزير الخارجية الكندي آنذاك، بيتر ماكاي: "هذا ليس القرن الخامس عشر. لا يمكنك التجوّل في العالم ورفع أعلام، والقول: نطالب بهذه المنطقة".
وقبل ساعات من لقاء وزيرَي الخارجية، الأميركي أنتوني بلينكن والروسي سيرغي لافروف، في ريكيافيك على هامش اجتماع لـ "مجلس القطب الشمالي"، رفع الجانبان سقف مطالبهما، في منطقة ذات أهمية استراتيجية، نتيجة موقعها، واحتوائها ثروات هائلة، تُقدّر بتريليونات الدولارات، يمكن استغلالها بعد ذوبان متسارع للثلج.
وكانت روسيا السبّاقة إلى إحياء اهتمامها بالمنطقة، بعد تسلّم الرئيس فلاديمير بوتين الحكم، في عام 2000، تبعتها الصين، التي باتت تعتبر نفسها دولة "شبه قطبية"، فيما تجهد الولايات المتحدة للّحاق بهما، وتعويض ما فات.
"الحدود النهائية" للعالم
أفاد "معهد القطب الشمالي" بأن وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو وصف القطب، خلال اجتماع وزاري لـ "مجلس القطب الشمالي" في فنلندا عام 2019، بأنه "ساحة للقوة والتنافس في العالم".
وأضاف المعهد أن الصين أعلنت نفسها "دولة شبه قطبية". أما روسيا فتعزّز وجودها العسكري والتجاري في القطب الشمالي، من خلال تطوير قواعد عسكرية وبحرية جديدة، وتجديد قواعدها القديمة، وتوسيع أسطولها، الذي يشمل كاسحات جليد وغواصات تعمل بالطاقة النووية. وتحدث المعهد عن "بدء سباق للاستيلاء على الموارد، في (الحدود النهائية) للعالم".
تدرك واشنطن وموسكو عمق الرهانات في المنطقة، وأهميتها بالنسبة إلى الجانبين. ولذلك شدد بلينكن، الثلاثاء، على وجوب "تجنّب عسكرة" القطب الشمالي، وأن "يبقى منطقة تعاون سلمي".
وانتقد روسيا، بسبب "مطالباتها البحرية غير القانونية، ولا سيّما في ما يتعلّق بقواعد عبور السفن الأجنبية على طريق المنطقة الشمالية" على السواحل الروسية في القطب الشمالي، كما أفادت وكالة "فرانس برس".
جاء ذلك بعد يوم على قول لافروف: "هذه أرضنا ومياهنا. نحن مسؤولون عن ضمان سلامة ساحلنا في المنطقة القطبية الشمالية". واعتبر أن النرويج "تحاول تبرير حاجة حلف شمال الأطلسي للمجيء إلى المنطقة القطبية الشمالية"، بعدما أرسلت الولايات المتحدة في فبراير قاذفات استراتيجية للتدرّب في النرويج في إطار الجهود الغربية لتعزيز الوجود العسكري في المنطقة.
مسرح مواجهة بين الجبّارين
ويضمّ "مجلس القطب الشمالي"، الذي أُسّس بموجب "إعلان أوتاوا" في عام 1996، دولاً حول الدائرة القطبية الشمالية، أو بالقرب منها، وهي روسيا والولايات المتحدة وآيسلندا وكندا والنرويج والدنمارك والسويد وفنلندا، إضافة إلى 13 دولة مراقبة، بينها الصين.
وأفاد موقع "وورلد أوشن ريفيو" بأن "القطب الشمالي كان خلال الحرب الباردة، مسرحاً أساسياً للمواجهة العسكرية بين القوتين العظميين آنذاك، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي".
وأضاف: "احتفظ الجانبان بقواعد عسكرية ضخمة، ومنصات إطلاق صواريخ، في شمال الدائرة القطبية. أُغلقت كل هذه المواقع تقريباً، في إطار سياسة الانفراج في تسعينات القرن العشرين، لكن تغيّر المناخ وجدلاً حالياً بشأن الطرق البحرية وحقوق المرور، يمكن أن يؤدي إلى تجديد الحشد العسكري في المناطق الشمالية، من البلدان المجاورة للقطب الشمالي".
وفي السياق ذاته، أعلن الناطق باسم وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، جون كيربي، أن بلاده "تراقب عن كثب" النشاطات العسكرية الروسية وعمليات تشييد البنى التحتية في القطب الشمالي.
وأضاف: "ندرك بوضوح أن المنطقة هي أرض أساسية وحيويّة للدفاع عن وطننا، وممرّ استراتيجي محتمل بين المحيطين، الهندي والهادئ، وأوروبا والوطن (الولايات المتحدة)، ممّا يجعلها عرضة لتنافس موسّع".
وتابع: "نحن ملتزمون بحماية مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة في القطب الشمالي، من خلال الحفاظ على نظام قائم على القواعد في المنطقة، لا سيّما من خلال شبكتنا من الحلفاء والشركاء في القطب الشمالي، الذين يشاركوننا مصالحنا المتبادلة العميقة".
"استراتيجية للقطب الشمالي"
وأعلن الجيش الأميركي، في مارس الماضي، استراتيجيته لـ "استعادة الهيمنة في القطب الشمالي"، محّدداً أهدافاً وخططاً في هذا الصدد، بما في ذلك إنشاء مقرّ تشغيلي متعدّد المجالات، مع ألوية قتالية مدرّبة ومجهّزة؛ وتحسين الاستعداد في العتاد، لتنفيذ عمليات موسّعة في منطقة القطب الشمالي؛ وتحسين التدريب الفردي والجماعي؛ وتحسين نوعية الحياة للجنود والمدنيين والعائلات، المقيمين في المنطقة.
وكانت وزارة الدفاع الأميركية أعلنت، في عام 2019، "استراتيجية للقطب الشمالي"، وأبلغت الكونغرس أن لديها 3 أهداف في المنطقة، تشمل الدفاع عن الولايات المتحدة، وضمان بقاء المناطق المشتركة حرة ومفتوحة، والتنافس عند الحاجة للحفاظ على توازن قوى إقليمي ملائم. وأضافت الاستراتيجية: "قد يُجري منافسون استراتيجيون نشاطات خبيثة أو قسرية في القطب الشمالي، من أجل تحقيق أهدافهم لهذه المناطق".
وللمرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة، تنفذ البحرية الأميركية رحلات منتظمة إلى "الحديقة الخلفية" لروسيا، في الدائرة القطبية الشمالية، في بحر بارنتس، مع سفن حربية بريطانية.
"تحدٍ عسكري روسي"
لكن شبكة "سي إن إن" أفادت بأن روسيا "تحشد قوة عسكرية تُعتبر سابقة"، في القطب الشمالي، وتختبر أحدث أسلحتها، وهو طوربيد "بوسيدون إم 392"، الذي اعتبر كريستوفر فورد، المساعد السابق لوزير الخارجية الأميركي لشؤون الأمن الدولي ومنع الانتشار، في نوفمبر الماضي، أنه مصمّم لـ "إغراق المدن الساحلية الأميركية، من خلال موجات مدّ عملاقة (تسونامي) مشعّة".
وأشارت الشبكة إلى تحرّكات عسكرية، أميركية ولـ"حلف شمال الأطلسي"، في المنطقة لمواكبة الحشود الروسية، إذ حلّقت قاذفات قنابل أميركية، متمركزة في النرويج، فوق بحر بارنتس، كما عبرت غواصة أميركية في المنطقة.
ونقلت "سي إن إن" عن مسؤول بارز في وزارة الخارجية الأميركية قوله: "واضح أن هناك تحدياً عسكرياً من الروس في القطب الشمالي، ولهذا الأمر تداعيات على الولايات المتحدة وحلفائها".
وذكرت الشبكة أن مسؤولين أميركيين أعربوا عن قلق، إزاء محاولة موسكو التأثير في "طريق البحر الشمالي"، وهو ممرّ ملاحي بين النرويج وألاسكا، على الساحل الشمالي لروسيا، عبر شمال الأطلسي، ويُحتمل أن يقلّص إلى النصف، الوقت الذي تستغرقه حاويات الشحن الآن للوصول إلى أوروبا من آسيا، عبر قناة السويس. واعتبر ناطق باسم البنتاغون أن "القوانين الروسية التي تحكم العبور في طريق البحر الشمالي، تتجاوز سلطة روسيا بموجب القانون الدولي".
"تفوّق" روسي
في المقابل، تضمّنت وثيقة أصدرها الكرملين، في عام 2020، الأهداف الجوهرية لروسيا، في منطقة تشكّل 20% من صادراتها و10% من إجمالي ناتجها المحلي، وفق "سي إن إن".
وأضافت أن الوثيقة تركّز على ضمان وحدة أراضي روسيا، والسلام الإقليمي، وتطوير قاعدة موارد و"طريق البحر الشمالي"، باعتباره "ممرّ نقل وطني تنافسي عالمياً".
ونقلت الشبكة عن بوتين قوله، في نوفمبر الماضي: "لدينا أسطول فريد من كاسحات الجليد، يحتلّ مكانة رائدة في تطوير مناطق القطب الشمالي ودرسها. علينا إعادة التأكيد على هذا التفوّق باستمرار، كل يوم".
وأشارت شبكة "سي إن بي سي" إلى أن الساحل الروسي يشكّل 53% من ساحل المحيط المتجمّد الشمالي، في منطقة يقطنها حوالى مليونَي فرد، أي نحو نصف الأشخاص المقيمين في القطب الشمالي.
وذكرت أن تقديرات تفيد بأن المنطقة تحوي احتياطيات غير مستغلّة من الغاز والنفط، وموارد معدنية، قد تبلغ قيمتها 35 تريليون دولار، تحرص روسيا والدول المطلّة على القطب الشمالي، على الاستفادة منها.
ثروة بترولية
أما "مجلس العلاقات الخارجية"، فذكر أن أحدث تقييم للموارد بشأن القطب الشمالي، أعدّته "هيئة المسح الجيولوجي الأميركية"، في عام 2008، أفاد بأن نحو ربع الموارد البترولية غير المكتشفة في العالم، والقابلة للاستخراج، تقع في المنطقة، وتشكّل 13% من النفط، و30% من الموارد الطبيعية، و20% من الغاز الطبيعي المسال.
واعتبرت الهيئة أن "الجرف القاري في القطب الشمالي، قد يشكّل أضخم منطقة جغرافية محتملة غير مستكشفة للبترول المتبقي على الأرض".
في السياق ذاته، أفادت "إدارة معلومات الطاقة الأميركية" بأن 22%من الموارد البترولية العالمية غير المكتشفة، تقع في القطب الشمالي، 78% منها غاز طبيعي و22% نفط.
أما مجلس النواب (دوما) الروسي فقدّر أن 95% من مخزون الغاز الطبيعي الروسي، و60% من مخزون النفط، موجودة في القطب الشمالي، كما أفاد "مجلس العلاقات الخارجية".
"هوس" روسي
وتحدثت صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية عن "هوس" روسيا بالقطب الشمالي، مشيرة إلى أن خمس أراضيها تقع داخل الدائرة القطبية الشمالية، وسعت للبحث عن مزيد من الأراضي، مطالبة بمنحها 1.2 مليون كيلومتر مربع أخرى من المحيط المتجمّد الشمالي.
وأشارت الصحيفة إلى أن موسكو أنفقت، منذ عام 2013، مليارات الدولارات على تشييد، أو تطوير، 7 قواعد عسكرية على "طريق البحر الشمالي"، ونشرت أنظمة رادار ودفاع صاروخي متطوّرة، قادرة على استهداف مقاتلات وصواريخ وسفن، في مواقع يمكن أن تنخفض فيها درجات الحرارة إلى 50 درجة مئوية تحت الصفر.
وذكّرت الصحيفة بأن الاتحاد السوفياتي خصّص موارد ضخمة على المنطقة، خلال الحرب الباردة، إذ كان "الأسطول الشمالي" هو الأكبر في البحرية السوفياتية، كما أن القواعد الجوية في القطب الشمالي أتاحت للقاذفات المجهّزة بأسلحة نووية، التزوّد بالوقود.
ولفت "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية" إلى ترويج الزعيم السوفياتي الراحل جوزف ستالين لـ"القطب الشمالي الأحمر"، معتبراً أن بوتين يسعى إلى "استغلال سردية القطب الشمالي عن غزو الإنسان للطبيعة، بوصفها ميزة للقومية الروسية الحديثة".
ورأى المركز في القطب الشمالي "أحد أعمدة استعادة روسيا مكانة القوة العظمى"، مضيفاً أن وجودها العسكري في المنطقة يسعى إلى تحقيق 3 أهداف: تعزيز الدفاع عن الوطن، وتأمين المستقبل الاقتصادي لروسيا، وإنشاء نقطة انطلاق لإبراز السلطة، لا سيّما في شمال المحيط الأطلسي.
"طريق الحرير القطبي"
أما الصين، فتُعتبر "لاعباً أقلّ وضوحاً في القطب الشمالي، إذ تبعد أقرب أراضيها 8 آلاف كيلومتر بحراً من مضيق بيرينغ، كما أفاد موقع "ذي ديبلومات". واستدرك أن بكين سعت في السنوات الأخيرة، إلى أداء دور أكبر في شؤون القطب الشمالي، وباتت واحدة من 13 دولة مراقبة في "مجلس القطب الشمالي"، في عام 2013.
وفي عام 2018، أصدرت الصين كتاباً أبيض، بعنوان "سياسة القطب الشمالي الصينية"، حدّد أولوياتها في المنطقة، كما اعتبرت نفسها "دولة شبه قطبية". وذكر الموقع أن الصين ترى في القطب الشمالي، واحدة من مناطق تحاول من خلالها بناء نفوذها وتحسين صورتها، بوصفها قوة عالمية.
وفي العام ذاته، أدخلت بكين "طريق الحرير القطبي"، وهو أحد مكوّنات مبادرة "الحزام والطريق"، بوصفه إطاراً للتعاون مع أطراف أخرى، لتطوير مشترك لطرق الشحن في القطب الشمالي.
ولفت "ذي ديبلومات" إلى أن موسكو "نظرت بريبة" إلى الطموحات الاقتصادية لبكين في المنطقة، ومنعت، في عام 2012، سفناً صينية من العمل في "طريق البحر الشمالي"، ممّا دفع بكين إلى تجميد نشاطاتها البحثية في القطب الشمالي. واستدرك الموقع أن حسابات روسيا تبدّلت بشكل كبير، بين عامَي 2013 و2014، بعدما باتت الصين مراقباً في "مجلس القطب الشمالي".