"إنه نصر تاريخي"، هكذا وصف بيورن هوكه، رئيس حزب البديل من أجل ألمانيا، في ولاية تورينجيا ومرشحه الأول لانتخابات سبتمبر 2024 محصلة انتخابات إقليمية، حقق فيها الحزب أعلى نتيجة في تاريخه الفتي، بل وأصبح معها يشكل الكتلة البرلمانية الأكبر في أحد برلمانات الولايات الألمانية الشرقية.
هذه هي المرة الأولى التي يفوز فيها اليمين المتطرف بهذا الشكل الصارخ في تاريخ الانتخابات الألمانية على المستويات الإقليمية والاتحادية في سابقة تاريخية سيكون لها أثرها حتى ولو لم يحكم هذا الحزب الذي يخضع لرقابة جهاز حماية الدستور (الاستخبارات الداخلية)، بسبب تصريحات أعضائه وعدد من قادته المعادية للتنوع وللمهاجرين والإسلام. يضاف إلى ذلك موقف سلبي من الوحدة الأوروبية.
ولم تكن النتيجة التي حققها الحزب الذي حلّ ثانياً في انتخابات ولاية سكسونيا (سادس أكبر ولاية من حيث عدد السكان) أقل أهمية من حيث تمكينه من ممارسة الضغط على المنظومة السياسية الألمانية ككل، وجعل تواجده على كل المستويات السياسية الألمانية أمراً معتاداً يرقى إلى مسمّى "الحزب الشعبي"، كما يعتقد رئيسه تينو كروبالا، رغم تأفف بقية المنظومة السياسية.
اهتمام عالمي
لم تكن انتخابات الولايات الألمانية وعددها 16، تشهد في السابق اهتماماً عالمياً، لكن العالم بأسره كان يردد اسم سكسونيا، وأكثر منها تلك الولاية الأصغر والأقل شهرة في تورينجيا، الأحد الماضي، بسبب الخوف من أن تتجه ألمانيا إلى مسار سياسي مقلق لمواطنيها، وخاصة أولئك الذين ينحدرون من أصول مهاجرة، وكذلك لأوروبا ومعها كثير من دول العالم.
يبلغ عدد سكان ولايتي سكسونيا وتورينجيا معاً 6 ملايين مواطن وهو رقم صغير مقارنة بمجموع سكان ألمانيا البالغ 83.8 مليون. ولا تؤثر انتخابات برلمانيّ الولايتين في تركيبة الائتلاف الحاكم ببرلين والقائم حالياً على أغلبية لائتلاف "الاشتراكي الديمقراطي" و"الخضر" و"الليبرالي"، بقيادة المستشار أولاف شولتز، ومن المستبعد جداً أن تتم دعوة المواطن الألماني إلى انتخابات اتحادية مبكرة.
وتأسس "حزب البديل من أجل ألمانيا" في فبراير 2013 بدافع انتقاد السياسة المالية والأوروبية لحكومة أنجيلا ميركل آنذاك والمطالبة بعدم دعم اليونان، التي كانت تعاني من أزمة مالية خانقة بمليارات اليورو الألمانية والأوروبية وباتخاذ سياسة اقتصادية واجتماعية محافظة جداً.
بدأ هذا الحزب بتحقيق نتائج انتخابية لافتة بصورة مبكرة وبالذات بعد تحوله من رافض للعملة الموحدة "اليورو" إلى حزب معاد للأجانب والإسلام، ويرفع شعار رفض الهجرة بشكليها النظامي وغير النظامي، وتزامن هذا التحول في النهج مع تغيّر تركيبة أعضائه باتجاه اليمين المتطرف أيضاً.
نجح الحزب عام 2014 في دخول البرلمان الأوروبي، ومن بعده أصبح ممثلاً في عدد من برلمانات الولايات وأخيراً في 2017 بالبوندستاج (نسبة تمثيله الحالية 10.3%).
وطالما كانت نسبة تمثيله في برلمانات ولايات شرق ألمانيا أعلى منها في ولايات الغرب لأسباب اقتصادية واجتماعية، فمثلاً حصد الحزب في أول انتخابات شارك فيها عام 2014 في تورينجيا 10.6% من الأصوات تبعتها نسبة 23.4% عام 2019 وها هو اليوم يحقق نتيجة 32.8% من الأصوات ليحتل المرتبة الأولى في برلمان الولاية، ويصبح قاب قوسين أو أدنى من تولي شؤون الحكم فيها.
في هذه الانتخابات خسر بودو راملو، مرشح حزب اليسار ورئيس وزراء الولاية حتى الآن نسبة كبيرة من الأصوات (13.1%)، بالرغم من شعبيته الكبيرة كسياسي، وذلك بسبب تمكن "تحالف سارا فاجنكنيشت" المنشق عن حزب اليسار من استقطاب الكثير من الناخبين (15.8%) الذين كانوا يصوتون لليسار سابقاً.
وحلّ الحزب "الديمقراطي المسيحي" ثانياً بنسبة 23.6% بعد البديل في تورينجيا. أما في سكسونيا الأكبر والأكثر أهمية من الناحية الاقتصادية وعاصمتها مدينة دريزدن الشهيرة، فلم يكن "البديل" بعيداً عن الصدارة، وحل ثانياً بنسبة 30.6% خلف "المسيحي الديمقراطي" الذي حافظ على ترتيبه بنسبة 31.9%.
أما أحزاب ائتلاف الإشارة الضوئية الحاكمة في برلين، فبلغ مجموع أصواتها في سكسونيا نحو 14% وتورينجيا نحو 10% فقط في سابقة تاريخية وصفعة قوية لأحزاب الحكومة وللمستشار أولاف شولتز الذي تدنت شعبيته كثيراً في السنوات والشهور الماضية، ولم يعد قادراً على استقطاب الناخبين كما فعل في حملة انتخابات 2021. ومع ذلك سيبقى الائتلاف قائماً مع الرهان على تغير مزاج الناخب في السنة القادمة التي تسبق الانتخابات العامة.
"الجدار الحاجز للنار"
لطالما فسر المحللون السياسيون نجاح حزب البديل المتطرف بقدرته على استقطاب أصوات المحتجين الغاضبين من سياسة الحكومة، في ظل ضعف المعارضة البرلمانية وسط التشكيلة السياسية حتى الآن، والمقصود هنا الحزب "المسيحي الديمقراطي"، حزب المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل.
لكن الكثير من التحليلات تظهر أن نحو نصف من انتخب هذا الحزب صوت له لما هو عليه من معاداة للأجانب والإسلام والهجرة، وليس من قبيل الاحتجاج على الحاكم أياً كان اسمه.
ويبقى أن نسب التصويت العالية لحزب البديل لن تشفع له ليتسلم أي مسؤولية في الولايتين، فالأحزاب الأخرى التي تشكل النخبة الديمقراطية بوسطها ويمينها ويسارها أعلنت مسبقاً مراراً وتكراراً عزوفها عن التعاون مع حزب البديل اليميني المتطرف لتشكيل حكومة مستقبلية، وهو ما يسمى بـ"الجدار الحاجز للنار"، بينها والبديل تخوفاً من أي فرصة أو أي شبهة لتكرار التاريخ الألماني في تمكين اليمين المتطرف.
فهل تبقى هذه الانتخابات ونتائجها التي اعتبرها ممثلو الجالية المسلمة وكذلك ممثلو الجالية اليهودية ومعهم ممثلو الكنائس والكثير من الفعّاليات المدنية دليل خطر على السلم الاجتماعي، كما اعتبرها المهتمون بالاقتصاد إشارة سلبية للخارج ورفضاً لاستقبال ألمانيا لكفاءات ماهرة يحتاجها الاقتصاد بإلحاح، هل تبقى دونما تأثير مباشر أيضاً في السياسات الألمانية المستقبلية؟
ائتلافات حكومية معقدة للغاية
نتائج التصويت نصبت حزب البديل فائزاً أولاً، ولكنها جعلت أيضاً من "تحالف سارا فاغنكنيشت" وهو التحالف الذي تشكل قبل 5 شهور فقط على خلفية انشقاق عن حزب اليسار فائزاً آخر.
"تحالف سارا فاغنكنيشت" الذي حصد نسباً عالية من الأصوات في تورينجيا وسكسونيا في أول انتخابات له على مستوى إقليمي يعلن صراحة رفضه استمرار الدعم بالسلاح لأوكرانيا، ويدعو بدلاً من ذلك إلى مفاوضات سلام سريعة مع روسيا، كما يعادي نصب صواريخ أميركية متوسطة المدى على الأرض الألمانية وهو ما كان المستشار شولتز قد أعلنه قبل أسابيع قليلة، وكل هذه المواقف لها شعبيتها في شرق ألمانيا أكثر مما هي عليه في غربها، وسترفع الضغط على الحكومة في قراراتها بشأن أوكرانيا حتى ولو نفى المتحدث باسم الحكومة شتيفن هيبيشترايت ذلك في الإحاطة الإعلامية غداة الانتخابات.
أما الحزب الذي لم يربح بلغة الأرقام، ولم يخسر أيضاً فهو "المسيحي الديمقراطي" بزعامة فريدريش ميرتس. وفي ظل رفض الجميع تشكيل ائتلاف حاكم مع حزب "البديل" المتطرف، يبدو أن "المسيحي الديمقراطي" سيشكل الحكومة في تورينجيا، ويعيد تشكيلها في سكسونيا، ولكن مع شركاء جدد تفرضهم عليه لغة الأرقام الصعبة مرة أخرى، إذ لا بد له من التعاون مع تحالف "سارا فاغنكنيشت" للحصول على أغلبية 51% في كلتا الولايتين، وهذه مهمة معقدة جداً لتباعد الرؤى السياسية بينهما، لكن رئيس وزراء ولاية سكسونيا مانفريد كريتشمر متفائل بقدرته على تشكيل حكومة رغم التعقيد.
الخطاب السياسي يجنح نحو اليمين
في يوم الانتخابات نفسه، وفي حفل تأبين ضحايا الطعن بسكين على يد لاجئ سوري متهم بخلفية إسلاموية متطرفة في مدينة زولنجن غربي ألمانيا أودت قبل أيام بحياة 3 أشخاص وإصابة 8 آخرين بجروح في احتفال موسيقي، ما ساعد حزب "البديل" في بث دعايته ضد اللاجئين قبيل الانتخابات، طالب الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير بوضع هدف الحد من الهجرة غير النظامية أولوية على جدول أعمال كل السلطات التنفيذية في ألمانيا.
ولم يفوت زعيم "المسيحي الديمقراطي" فريدريش ميرتس، فرصة الانتخابات التي بدت وكأنها تصويت على سياسة الهجرة واللجوء ليطالب حكومة المستشار شولتز بعمل المزيد للحد من الهجرة والتفكير بالتنصل من التزامات ألمانيا في ملف الهجرة واللجوء الأوروبي، إذ اعتبر ميرتس أن العدد الكبير لطالبي اللجوء (نحو 300 ألف طلب متوقعة هذا العام) يمثل تهديداً للأمن القومي والنظام العام.
أما زعيم الحزب الشقيق المسيحي الاجتماعي ماركوس زودر، رئيس وزراء ولاية بافاريا، فطالب هو الآخر بوضع سقف صارم للهجرة التي تتهدد هوية البلد حسب رأيه.
مثل هذه التصريحات تشير سواء عن قصد أو غير قصد إلى تحول كبير في لغة الخطاب بألمانيا، وإلى تبني الأحزاب التي تعتبر نفسها في وسط التشكيلة السياسية في ألمانيا هي الأخرى لغة شعبوية عامة، ما يدفع البعض لاتهامها بمجاراة لغة حزب البديل على أمل استعادة أصوات الناخب الناقم الذي أرهقته متطلبات العولمة وغلاء الأسعار بعد اندلاع حرب أوكرانيا وسياسة التحديث المتسارع التي اتخذتها حكومة برلين وخاصة في التوجه نحو بيئة نظيفة ولكنها مكلفة.
هذا الناخب يخشى أن يخسر مكتسباته الاجتماعية والاقتصادية في المستقبل، وتتنازعه الشعارات الشعبوية العامة حتى ولو لم ترتبط بحلول مقنعة.
مكاسب استراتيجية لحزب المعارضة الأكبر
أيضاً حكومة المستشار شولتز كانت قد أقرت إجراءات لتسريع ترحيل من رفضت طلبات لجوئهم، وانطلقت نحو عقد اتفاقيات مع دول المنبع أو الممر للمهاجرين لإغرائها باستقبال من تقرر ترحيله من طالبي اللجوء.
وبعيداً عن مكاسب حزب البديل في انتخابات نهاية الأسبوع الأخيرة، فإن الحزب المعارض الأكبر في البرلمان وهو المسيحي الديمقراطي يمتلك الآن ورقة استراتيجية أخرى تجعله يرفع الضغط، ويكثف المطالبة بالتشدد أكثر في ملف اللجوء، خاصة أن الأيام القادمة ستشهد اجتماعاً على مستوى القمة بين زعماء أحزاب الائتلاف الحاكم والحزبين المسيحيين الديمقراطي والاجتماعي ورؤساء وزراء الولايات لنقاش ملف الهجرة واللجوء.
وهو لن يتردد في زيادة الضغط قبل أسبوعين من انتخابات ولاية براندنبورج (شرق ألمانيا) وعاصمتها بوتسدام، والتي ينتظر نتائجها الساسة والمراقبون في الداخل والخارج على أحرّ من الجمر.
هنا ستستغل المعارضة زخم نتائج الانتخابات الأخيرة لتسجيل نقاط على حساب أحزاب الحكومة الاتحادية الواهنة حالياً، ولكن التأثير الأكبر لانتخابات الولايات الألمانية الشرقية الصغيرة سيتبلور في الحملة السياسية والدعائية التي ستنطلق مطلع العام المقبل قبل الانتخابات الألمانية العامة والاقتراع على عضوية البوندستاج وهي التي ستجري يوم 28 سبتمبر 2025.
وإن لم يتمكن شولتز وحزبه الاشتراكي الديمقراطي من استعادة ثقة المواطن والوهج الذي رافق شخصيته في انتخابات 2021، وتلك مهمة شاقة وغير مضمونة النتائج، فإن المسيحي الديمقراطي هو من سيكرس مكانته كحل أخير في وجه اليمين المتطرف، وسينصب نفسه أولاً في انتخابات خريف 2025 كما فعل مراراً تحت قيادة المستشارة السابقة أنجيلا ميركل لقرابة 16 عاماً متتالية.
*كاتب صحفي متخصص في الشؤون الألمانية والأوروبية