تعيش العاصمة العراقية بغداد أزمة تلوث حادة، منذ أسبوعين، جراء انتشار سحب من الدخان في أجواء المدينة، مخلّفةً العديد من المشكلات الصحية، وفق بيانات حكومية، ما أثار المخاوف بشأن الآثار السلبية لاستمرار التلوث البيئي.
وطرحت هذه الأزمة تساؤلات بشأن مدى قدرة الجهات الحكومية على وضع الحلول والمعالجات.
مع حلول المساء وحتى ساعات الصباح الأولى من كل يوم، تمتلئ سماء بغداد بسحابة من الدخان ورائحة تشبه الكبريت، ما زاد من صعوبة التنفس، خاصة للسكان الذين يعانون من أمراض الجهاز التنفسي.
وأكدت لجنة حقوق الإنسان في البرلمان العراقي دخول قرابة 200 شخص إلى المستشفيات، مبديةً قلقها البالغ من تأثير السحب الكبريتية في سماء العاصمة.
وطالبت اللجنة بوضع حلول عاجلة، منها قيام وزارة البيئة بالتنسيق مع الخبراء بدراسة مقترح نقل المصانع غير المطابقة للمواصفات خارج المدن، مع بحث أسباب التلوث وتقليله، ومتابعة المصافي النفطية داخل بغداد وتأثيرها على البيئة.
وفي وقت سابق الأحد، تحدّث الوكيل الفني لوزارة البيئة العراقية جاسم الفلاحي، خلال مؤتمر صحافي، عن أسباب الانبعاثات الغازية الضارة والروائح الكريهة التي يستنشقها سكان بغداد خاصة في أوقات متأخرة من الليل، لافتاً إلى أن محطات توليد الطاقة الكهربائية التي تستخدم الوقود الثقيل (النفط الأسود) ومعامل الأسفلت والطابوق، إضافة إلى إضرام النيران في مطامر النفايات غير الصحية، وما تتعرض له من حرق عشوائي في أطراف العاصمة، هي السبب الرئيس لارتفاع مؤشرات التلوث.
كما أشار الفلاحي إلى وجود ظواهر جوية هذه الفترة، تتمثّل في تغيّر درجات الحرارة، واتجاهات الرياح، وازدياد معدلات الرطوبة، ما يرفع تراكيز الغازات الضارة، على غرار ثاني أكسيد الكبريت، وغازات الميثان، وغيرها، والتي تُفضي إلى العديد من التداعيات الصحية.
وقالت مديرة الدائرة الفنية في وزارة البيئة العراقية الدكتورة نجلة محسن الوائلي لـ"الشرق"، إن زيادة نسبة ثاني أكسيد الكبريت تعود إلى سببين، الأول طبيعي، ويتعلق بتأثير تغير المناخ على العراق، والثاني وجود عدد كبيرة من الملوثات تحيط بالعاصمة بغداد، سواء صناعية أو محطات توليد الكهرباء أو محطات جمع النفايات.
وأضافت الوائلي أن النظام الطبيعي البيئي في أكتوبر هو تغير الأجواء، إذ يغادر فصل الصيف، وتدخل البلاد الشتاء، ويرافق ذلك انقلاباً في درجات الحرارة، إلى جانب التغير الكبير في درجات الحرارة جراء التغيرات المناخية، ما يحول دون انتقال الغازات إلى مستويات عالية في الجو، الأمر الذي يجعلها قريبة من سطح الأرض، وبالتالي، سيكون معظم سكان بغداد تحت تأثير انتشار ثاني أكسيد الكبريت.
سياسات خاطئة
وفيما يتعلق بالإجراءات الرسمية لمواجهة هذه الظاهرة، أوضحت مديرة الدائرة الفنية في وزارة البيئة العراقية، أن المعالجات تُشكل اهتماماً كبيراً من الحكومة، إذ أوعز رئيس الوزراء محمد شياع السوداني بتشكيل لجنة عالية المستوى برئاسة مستشار وزارة البيئة وأعضاء من الوزارات المعنية لإعداد تقرير تفصيلي عن الموضوع، على أن يُقدم التقرير عدداً من التوصيات لتقليل وتنظيم انبعاث هذه الغازات الخطيرة.
وفي وقت سابق السبت الماضي، وجّه السوداني، بتشكيل لجنة متخصصة لدراسة حالة التلوث، وتكرار انبعاث رائحة الكبريت المنتشرة في بغداد والمحافظات المجاورة، وبيان أسبابها ومعالجتها، مشدداً على ضرورة وضع حلول جذرية للمشكلة، ودراسة الأمر من جميع جوانبه، بحيث تُقدم اللجنة تقريرها الخاص بالموضوع خلال يومين.
وكان رئيس الوزراء العراقي ناقش، خلال الجلسة الأسبوعية للحكومة، التلوث الذي تعاني منه العاصمة بغداد، مشيراً إلى تقديم اللجنة المكلفة تقريرها بهذا الشأن، واستعرض جملة المعالجات التي اتخذتها الحكومة في إطار الحفاظ على البيئة.
وقال إن التلوث يضاعف من تحديات تغير المناخ، معتبراً أنه "نتاج سياسات خاطئة في التعامل مع المشاريع التي تسهم بالتلوث، وأن أجهزة الدولة تعمل على تقليل التلوث بالتشديد على التعليمات والأنظمة التي تحمي البيئة".
وأضاف: "بدأنا تقليل حرق الغاز، وسنمضي في تصفيره بحلول عام 2028، إلى جانب وقف انبعاث الغازات الدفيئة. كما شكلنا لجنة بخصوص تدوير النفايات وتوليد الكهرباء، وبدأنا العمل من خلال أمانة بغداد وهيئة الاستثمار، وبالتواصل مع شركات أجنبية".
واعتبر السوداني، أن معامل الطوب "تُعد بؤرة لانبعاثات التلوث"، مشدداً على ضرورة أن يتم التحول إلى استخدام الغاز أو نقل المعامل إلى خارج بغداد، وأكد أن "مشروع مترو بغداد هو جزء من الحلول، ويعد نقلة نوعية في مسألة معالجة التلوث".
إجراءات حكومية لتقليل التلوث
الحكومة العراقية أصدرت تعليمات لوزارة البيئة بضرورة إيقاف النشاطات الملوثة، وجميع الفعاليات المولدة لأشكال التلوث، بما فيها تغيير الوقود المستخدم في الأنشطة، أو استخدام مضافات خاصة أو فلاتر تساهم في الحد من الانبعاثات السامة، ووضع برنامج وطني لمراقبة نوعية الهواء والانبعاثات من مختلف المصادر، وتحديد المتطلبات اللازمة لتحسين نوعية الهواء، وتقديم تقرير شهري لمجلس الوزراء عن الإجراءات.
كما أوصت الحكومة وزارة الداخلية العراقية بتفعيل دور ومهام شرطة البيئة، وإيقاف فعاليات حرق النفايات في مواقع الطمر وخارجها، وإخماد الحرائق الحالية بالتنسيق مع وزارة البيئة، وإجراء حملات أمنية دورية في مراقبة جميع أشكال التلوث، إلى جانب تولي وزارة الزراعة والمحافظات وأمانة بغداد الإجراءات اللازمة للاهتمام بتشجير المناطق المحيطة بالعاصمة والمحافظات، والعمل على زراعتها وإنشاء حزام أخضر لتقليل تلوث الهواء، وكذلك منع تجريف المناطق الخضراء والبساتين.
وشملت الإجراءات الحكومية أيضاً توجيه وزارة النفط العراقية بوضع خطة لدعم وإلزام المعامل والمصانع المستخدمة للوقود الثقيل في نشاطها، وتحويلها لاستخدام الغاز السائل خلال فترة زمنية لا تتجاوز (6) أشهر، وإيقاف حرق الحفر النفطية في حقل شرق بغداد النفطي، وإضافة الوحدات اللازمة لتحسين الوقود المنتج في مصفى الدورة ومعالجة الغازات المنبعثة من المصفى، وكذلك معالجة التصاريف السائلة منه وتحويله إلى مصفى صديق للبيئة.
بدوره، أمر وزير الداخلية العراقي عبد الأمير الشمري، بناء على توصيات حكومية، بإغلاق معامل الطابوق غير المجازة، ومنع حرق النفايات في مواقع الطمر وخارجها.
مخاطر صحية تُهدد السكان
الخبير في الهيئة العامة للأنواء الجوية والرصد الزلزالي في العراق صادق عطية، أشار إلى تسجيل "ارتفاع كبير وخطير" في مستويات التلوث بالعراق، وقال في منشور عبر حسابه بفيسبوك، إن "خارطة مستويات التلوث AQI في العراق، ومنها العاصمة بغداد تشير إلى قيم عالية تتجاوز 150-225 مليجرام/متر مكعب".
وأضاف أن هذه القيم تتجاوز بحوالي 18-24 مرة عن الحد الصحي المسموح تواجده في الأجواء حسب منظمة الصحة العالمية WHO، موضحاً أن السبب هو زيادة الأنشطة الضارة للبيئة، أهمها معامل تكرير النفط، والمصانع، وعوادم السيارات، وحرق النفايات التي تنتشر عشوائياً.
وتشير تقارير أممية إلى أن الغبار في العراق يحتوي على 37 نوعاً من المعادن الخطيرة على الصحة العامة، و 147 نوعاً مختلفاً من البكتيريا والفطريات التي تساعد على انتشار الأمراض.
بدوره، قال الخبير البيئي أيمن قدوري لـ"الشرق"، إن بغداد شهدت في الأيام الأخيرة انتشار غاز ثنائي أكسيد الكبريت "SO2"، وهو ناتج عرضي لحرق الوقود رديء النوعية المستعمل دائماً في محطات توليد الطاقة الكهربائية، العراقية أشهرها محطة كهرباء الدورة جنوبي العاصمة.
كما ينتج من معامل الطوب والأسمنت، ومعامل المواد الإنشائية الأخرى، إضافة إلى كونه ناتج عن حرق النفايات الصلبة في الأماكن المكشوفة غير الخاضعة لسيطرة الحكومة، وأبرزها في منطقة النهروان جنوب شرقي بغداد، مما زاد من رداءة نوعية الهواء في المدينة المكتظة بالسكان، وهو أحد الأسباب الرئيسية بارتفاع نسبة التلوث، بحسب قدوري.
وأوضح الخبير البيئي العراقي، أن مؤشر جودة الهواء خاصة في بغداد التي تأتي في المرتبة الثالثة بين عواصم العالم الأكثر تلوثاً للهواء وفق وكالة "ناسا"، يُظهر تجاوز المواد المتطايرة "PM2.5" حاجز الـ 150 ميكروجرام/متر مكعب، ما ينذر بمخاطر صحية كبيرة تهدد حياة السكان.
وأضاف أن كل تلك الأسباب ليست جديدة على العاصمة، غير أن الوقت الحالي يُظهر انتشار الغاز بشكل واضح بفعل عامل مساعد، هو تغيّر درجات الحرارة، إذ يُصنف العراق، وفقاً للأمم المتحدة، خامس دول العالم تضرراً بظاهرة الاحتباس الحراري، وهي عبارة عن تشكل طبقة من الهواء البارد أثقل من الهواء الحار، حيث تحبس الغازات في الطبقات السفلى من الجو، ما يجعل السكان عرضة لتلك الغازات في هذه المرحلة أكثر من باقي أيام السنة.
وأشار الخبير البيئي العراقي إلى أنه يتوجب على الجهات الحكومية تفعيل قانون حماية وتحسين البيئة المشرع عام 2009، والذي يهدف إلى الحد من التغيرات البيئية، وأبرز ما يتضمنه القانون توفير شروط السلامة لمواقع الطمر والمعامل وكيفية إنشائها وفق معايير خاصة، إلا أن هذا القانون معطل منذ نحو 15 عاماً، وتحاول الحكومة خلال السنوات الأخيرة، ولا سيما بعد مؤتمر المناخ في دبي "كوب 28" العام الماضي، تفعيل هذا القانون ودعم مشاريع وزارة البيئة لتحسين الواقع البيئي الحالي.
وفي تقرير نشرته 13 سبتمبر الماضي، قالت منظمة الصحة العالمية إن التلوث الهوائي يعتبر واحد من أكبر المخاطر البيئية، ومسؤول عن 6.7 مليون وفاة مبكرة سنوياً، تتركز معظمها في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط، مشيرةً إلى أن التلوث يحدث بسبب وجود جسيمات دقيقة تتسبب بأمراض القلب، والأمراض التنفسية، وبعض الأمراض السرطانية للجهاز التنفسي.
وأوصت المنظمة بالعمل المشترك لقطاعات الصناعة والطاقة والنقل وإدارة المخلفات الصناعية من أجل تقليل خطر الملوثات وتأثيرها على صحة الإنسان.
وحول الأضرار الصحية الناجمة عن مخاطر تلوث الهواء على الصحة العامة، قال عضو نقابة الأطباء العراقيين الدكتور علي رياض، إن التعرض على المدى الطويل لتلوث الهواء الناتج عن الغبار والدخان والغازات الضارة وعوادم المركبات يسبب مشكلات صحية للقلب والرئتين، كالالتهابات، وأمراض السرطان، ونوبات الربو، والانسداد الرئوي المزمن، فضلًا عن تأثيرات على الجهاز العصبي وباقي أعضاء الجسم الأخرى.
وأوضح رياض أن الأشخاص الأكثر عرضة لمخاطر تلوث الهواء هم الذين يُعانون من الأمراض التنفسية بشكل عام، والأمراض القلبية والأوعية الدموية، والعاملين في المهن التي تُعرّضهم للهواء الملوث باستمرار، إلى جانب البالغين ممن تتجاوز أعمارهم الـ65 عاماً، وكذلك الرضع وصغار السن.