لبنان.. تخبّط مالي وقضائي على خلفيّة تعاميم المصرف المركزي

time reading iconدقائق القراءة - 8
مبنى مصرف لبنان المركزي في بيروت، 27 نوفمبر 2019 - AFP
مبنى مصرف لبنان المركزي في بيروت، 27 نوفمبر 2019 - AFP
بيروت-الشرق

تتفاقم الأزمة المالية في لبنان بشكل متصاعد، إذ أعلن المصرف المركزي اللبناني، الجمعة، استمرار فرض القيود على سحب الأموال من الحسابات المصرفية بالدولار، لكنه اتّخذ بالاجماع قراراً يلزم المصارف بتسديد 400 دولار شهرياً لكل مودع، اعتباراً من مطلع يوليو المقبل، إضافة إلى ما يوازيها بالليرة اللبنانية للحسابات التي كانت قائمة بتاريخ أكتوبر 2019.

تجدر الإشارة إلى أن البنوك اللبنانية حالت دون وصول المودعين إلى حساباتهم، وحجبت تحويل الأموال إلى الخارج، فيما أصدر المصرف المركزي العام الماضي تعميماً يحمل الرقم "151"،  يسمح للمودعين بسحب كمية محددة من الدولارات تدفع بالعملة المحلية بسعر صرف 3900 ليرة للدولار، علماً أن السعر المذكور، لا يزيد على قرابة ثلث قيمة الدولار في السوق السوداء، التي سجلت ما يصل إلى 13 ألف ليرة للدولار الواحد، أخيراً،  لكنها كانت الطريقة الوحيدة أمام لبنانيين كثيرين للوصول إلى بعض مدخراتهم.

القرار المصرفي المذكور، أثار في حينها جدلاً قانونياً، إذ أصر عدد من المحامين على ضرورة حصول أصحاب الحسابات المصرفية بالدولار على أموالهم بالعملة الأميركية. وفي السياق، قدم محامون طعوناً ضد التعميم أمام مجلس شورى الدولة، وهو أعلى سلطة قضائية في لبنان.

المجلس القضائي المذكور، أصدر الثلاثاء الفائت قراراً مفاجئاً، قضى بوقف العمل بالتعميم رقم 151، وألزم المصارف وقف التّسديد للمودعين باللّيرة اللبنانية لفائدة الحسابات المفتوحة بالدّولار على أساس 3900 ليرة للدولار.  

تراجع سريع

بناء على ما تقدم، أصدر البنك المركزي اللبناني، الأربعاء، بياناً مقتضباً، أكد فيه بأنه سيوقف السحب عند سعر 3900 ليرة الثابت، لكنه سرعان ما تراجع عن هذا القرار في اليوم التالي، عقب اندلاع احتجاجات في مناطق عدة، ليعود حاكم البنك رياض سلامة لطمأنة المودعين بأنه "لم يفلس"، وأن "ودائع اللبنانيين آمنة وسيستردونها".

وبعد اجتماع مالي-قضائي شهده القصر الرئاسي اللبناني الخميس بحضور رئيس الجمهورية ميشال عون، وسلامة، ورئيس مجلس شورى الدولة فادي إلياس، تقرّر إعادة العمل بالتعميم رقم 151.

وأكد المجتمعون أنّ السحب بسعر 3900 للدولار الواحد "لا يزال ساري المفعول"، فيما أعلن حاكم مصرف لبنان أنّ "أموال المودعين لم تتبخّر، وأنّه بصدد إصدار تعميم يعيد للنّاس ودائعها".  

جاء هذا الإعلان، في أعقاب اجتماع استثنائي للمجلس المركزي لمصرف لبنان، الذي اتّخذ بالاجماع قراراً يلزم المصارف بتسديد 400 دولار شهرياً اعتباراً من مطلع  يوليو المقبل، إضافة إلى ما يوازيها بالليرة اللبنانية للحسابات التي كانت قائمة بتاريخ أكتوبر 2019.

دعوة لـ"التريث"

جمعية مصارف لبنان، أرسلت الخميس، خطاباً لحاكم المصرف، دعته فيه لخفض معدل الاحتياطي الإلزامي، الذي يلزمها به المصرف كنسبة من ودائع العملاء. وطالبت الجمعية سلامة بــ"التريث في إصدار أي قرار يلزم المصارف بالسحوبات النقدية بالعملة الأجنبية".

وعزت الجمعية طلبها إلى عدم قدرتها على توفير أي مبالغ نقدية بالعملة الأجنبية مهما تدنت قيمتها، نظراً لأن سيولة المصارف بالعملة الأجنبية لدى المراسلين الأجانب ما زالت سلبية بما يفوق المليار دولار، بحسب بيانات نهاية مارس الماضي.

ولاحقاً، عادت جمعية المصارف وأصدرت بياناً آخر أبدت فيه استعدادها الكامل لبحث مندرجات التعميم المزمع إصداره من قبل مصرف لبنان بإيجابية تامة لما فيه المصلحة العامة. 

خطان متوازيان

تعليقاً على هذه التطوّرات المالية قال الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف سمير حمود لـ"الشرق"، إنّ مصرف لبنان يعمل على أكثر من خطّ؛ فهو يدعم استيراد البنزين والقمح والأدوية، وكان قد منح سلّة دعم للمواد الغذائية ولكنّه خفّضها قليلاً حالياً.

وأضاف حمود أن مصرف لبنان فتح خطّين متوازيين، الأول يسمح ببيع الدّولار حسب سعر صرف 12000 ليرة لبنانية كي يتمّ تحويلها إلى المصارف المراسلة، والهدف من ذلك هو السّماح للتّاجر أن يشتري من مصرفه عند سعر 12000 ويواصل عمليات الاستيراد الخاصّة به.

أمّا الخطّ الثاني فهو السماح للمودع بسحب 400 دولار شهرياً، بالإضافة إلى ما يوازيها بالليرة اللبنانية.

واعتبر حمود أنّ التباين بين مصرف لبنان وجمعية المصارف يمكن حلّه، واستبعد أن يصل الأمر إلى صدام بينهما، إذ قد يتّفق الطرفان على صيغة تناسب كلّ مصرف على حدة، لأنّ المصارف "لا يمكنها أن توفير 400 دولار شهرياً لكلّ المودعين، ولكن أيضاً لا يمكنها احتجاز أموالهم"، على حد قوله.

"حكومة إنقاذ"

الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف، أشار إلى أنّ قرار مصرف لبنان الجديد، يكلّفه تقريباً بحدود 3 مليارات دولار في السّنة، يتحمّل مصرف لبنان منها ملياري دولار، فيما تتحمّل البنوك مليار دولار، وبذلك يضمن عدم حصول ثورة اجتماعية ويحمي نفسه من الغضب الشعبي، كما يساعد التجار على شراء بضائعهم عبر منصّة المصارف. 

ورأى حمّود أنّ "كلّ هذه الخطوات ليست أكثر من صبّ الزيت على النار بدلاً من إخمادها بالكامل"، مشيراً إلى أن التعميم الذي صدر الجمعة، لا يندرج ضمن الحلّ النّقدي على طريق استعادة الناس لحقوقها وإعادة القطاع المصرفي لهيكلته ونشاطه". 

وقال إن "لدى لبنان القدرة على الحياة والنهوض، ولكن لا يمكنه أن يصمد من دون إدارة صحيحة وجيّدة، لذا نحن بحاجة إلى حكومة إنقاذ لا يديرها أحد ولا يمن عليها أي طرف سياسي أو غير سياسي، لتتمكّن من العمل بشفافية ومن دون محسوبيات، وأن تعمل فقط لما فيه مصلحة البلد". 

جدل قانوني

نقيب المحامين في شمال لبنان محمّد المراد، علّق على الجدل الذي دار بين مجلس شورى الدولة ومصرف لبنان أخيراً، معتبراً أنّ قرار مجلس الشورى بوقف تنفيذ تعميم مصرف لبنان رقم 151، لا شائبة فيه من الناحية القانونية البحتة.

وقال المراد لـ"الشرق"، إن "ما يستدعي الكثير من التساؤل والاستغراب، هو ما رأيناه وسمعناه في القصر الجمهوري بعد الاجتماع المالي القضائي الذي حضره رئيس مجلس شورى الدولة وحاكم مصرف لبنان"، لافتاً إلى أن "من الواضح أنّ هناك اتّفاقاً حصل وهو بمثابة رجوع عن قرار اتّخذته الغرفة المختصة في مجلس الشورى".  

وأشار المراد إلى أنّه "في حال تأكد وجود هذا الاتفاق، لا يمكنني كنقيب للمحامين أن أقبل بمثل هذا الحدث الذي يرتدّ سلباً وبشكل مؤذٍ على هيبة القضاء واستقلاليته، وبالتالي ما حصل يعني (سلام على القضاء)". وإذ أكد أن "مثل هذا الاتفاق يشكّل سابقة"، قال: "أنا لا أعتبر أن قرار وقف التنفيذ هو قرار صحيح، ولكنني أحترم القضاء وقراراته".

وأضاف: "كان من الممكن اعتماد أصول قانونية أخرى تسمح لمجلس الشورى بالعودة عن قراره، أي عبر تقديم مصرف لبنان طلباً إلى المجلس، وفقاً لمعطيات جديدة ومستندات جديدة، تبرّر الرجوع عن القرار، من دون هذا المشهد الذي رأيناه في القصر الجمهوري".