
أثار الرئيس الأميركي دونالد ترمب، في 2 أبريل، مفاجأة مدوية بفرض رسوم جمركية على واردات معظم دول العالم، بما فيها أميركا اللاتينية، طالت منتجات رئيسية مثل الصلب والألمنيوم والحبوب واللحوم، بدعوى حماية "الصناعة الوطنية الأميركية".
وشملت الرسوم دولاً منها البرازيل وتشيلي والأرجنتين بنسبة 10%، والمكسيك وكولومبيا بنسبة 25%، بينما وصلت النسبة إلى 38% بالنسبة لدولة جيانا.
وعلى الرغم من تعليق هذه الإجراءات مؤقتاً لمدة 90 يوماً، مع استثناء المكسيك، الحليف الرئيسي للولايات المتحدة ضمن اتفاقية "USMCA"، إلا أنها أثارت قلقاً واسعاً في العواصم اللاتينية، وسط مخاوف من إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية والتجارية للقارة.
ضغوط أميركية.. وهامش مناورة صيني
في البرازيل، أحد أكبر الاقتصادات اللاتينية المتأثرة بالقرارات، تُشكّل الصادرات إلى الولايات المتحدة نحو 12% من إجمالي الصادرات الوطنية، وفق بيانات وزارة التنمية والصناعة والتجارة الخارجية البرازيلية.
وتوقع معهد البحوث الاقتصادية التطبيقية (IPEA) في البرازيل أن تؤدي الرسوم الجديدة إلى تراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.02% هذا العام، وخسارة أكثر من 100 ألف وظيفة على المدى الطويل.
وقال أستاذ العلاقات الدولية في جامعة "Unifin" البرازيلية برونو بيكليني: "هذه ليست مجرد رسوم جمركية، بل إشارة سياسية، ترمب يستخدم الملف التجاري ورقة ضغط مزدوجة على الصين وحلفائه في آن معاً".
وأضاف: "هذا يخلق فراغاً تتجه بكين لملئه بسرعة، ولهذا تتحرك بذكاء استراتيجي، عبر تكثيف استثماراتها في البنية التحتية والطاقة والتكنولوجيا، مع تقديم تمويلات ميسّرة لا تُقيد حكومات المنطقة بشروط سياسية أو بيئية صارمة".
وعلى الرغم من استمرار واشنطن كشريك اقتصادي رئيسي للبرازيل، إلا أن الصين باتت تحتل موقع الصدارة، إذ تستحوذ على نحو 30% من صادرات البلاد، مقابل 12% للولايات المتحدة.
وفي السنوات الماضية، ضاعفت الشركات الصينية استثماراتها في الموانئ والسكك الحديدية وشبكات الاتصالات البرازيلية، ما وضع البلاد في موقع استراتيجي حسّاس بين قوتين عالميتين تتنازعان النفوذ في الجنوب العالمي.
وقال المستشار السابق في وزارة الاقتصاد البرازيلية فيليبي لوتشيوني: "نحن أمام لحظة مفصلية.. العالم يتغير، والتجارة لم تعد مسألة تبادل سلع فقط، بل أداة للنفوذ السياسي وإعادة التموضع الجيوستراتيجي".
وأضاف: "إذا أحسنت البرازيل استغلال موقعها، فيمكنها أن تتحول إلى منصة صناعية تخدم السوقين الأميركية والصينية معاً، لكنها بحاجة إلى سياسة تجارية مرنة ومتعددة المسارات".
الخوف من "تسونامي" المنتجات الصينية
بالتوازي مع التوتر بين واشنطن وبكين، تُواجه الصناعة البرازيلية تحدياً آخر يتمثل في تدفق المنتجات الصينية إلى السوق المحلية، نتيجة تحويل فائض الإنتاج الصيني نحو أسواق بديلة، من ضمنها البرازيل.
لوتشيوني رأى أن "هناك مخاوف جدية من أن بعض الشركات تستغل الإعفاءات الضريبية المتاحة في مناطق التجارة الحرة في البرازيل، مثل منطقة ماناوس، لإدخال منتجات صينية منخفضة التكلفة، ما يضغط على المصانع المحلية التي لا تحظى بنفس الامتيازات".
وتابع: "من المتوقع أن تؤدي هذه السياسات إلى تفاقم الأوضاع التجارية العالمية، ودفع المنتجات الصينية للبحث عن أسواق بديلة. صحيح أن غرفة التجارة الخارجية البرازيلية (كامكس) استجابت، العام الماضي، لطلبات القطاع، لكن من الواضح أن هذا الإجراء وحده لن يكون كافياً لمواجهة السيناريو الجديد".
ويشهد قطاع النسيج في البرازيل تحركات مكثفة، إذ تواصل المنتجات الصينية اكتساب حصة متزايدة في السوق المحلية. وتشير التقديرات إلى أن واردات النسيج إلى البرازيل ارتفعت بنحو 15% عام 2024، لتصل إلى 6.6 مليار دولار أميركي.
وتكمن المخاوف في أن جزءاً كبيراً من البضائع التي كانت تُصدر من الصين إلى الولايات المتحدة وتُقدَّر بنحو 28 مليار دولار، من المتوقع أن تتوجه نحو أسواق أخرى، منها السوق البرازيلية، في ظل الرسوم الأميركية المرتفعة.
من ناحية أخرى، شهدت أسواق الصلب ارتفاعاً كبيراً في الواردات الصينية. وبحسب تقارير، استمرت واردات البرازيل من الصلب الصيني في النمو خلال عام 2024، حين زادت بنسبة 50% مقارنة بعام 2023، لتصل إلى 3.3 مليون طن من إجمالي واردات الصلب البرازيلية البالغة نحو 5 ملايين طن، ما يجعل الصين أكبر مصدر للصلب إلى البرازيل.
ودفع هذا التدفق (كامكس) للاجتماع، خلال الأسبوع الماضي، والمطالبة برفع الرسوم الجمركية مؤقتاً على 30 منتجاً كيميائياً، فيما دعا معهد الصلب البرازيلي لرفعها إلى 35% لحماية الصناعة الوطنية.
المستقبل الاقتصادي للقارة اللاتينية
وفق تقرير صادر عن "Americas Society" لعام 2024، تستثمر الصين سنوياً أكثر من 12 مليار دولار في أميركا اللاتينية، مع خطط مستقبلية لنقل بعض خطوط الإنتاج من أراضيها إلى دول مثل البرازيل وتشيلي وبيرو، لتفادي الرسوم الأميركية، والاستفادة من اتفاقيات التجارة الحرة مع الولايات المتحدة وأوروبا.
وفي عام 2024، افتتحت الصين ميناءً ضخماً في بيرو، ما يعزز استثماراتها في البنية التحتية في أميركا الجنوبية. كما أنشأت مشروعات ضخمة في مجالات الطاقة والنقل في دول مثل الأرجنتين والبرازيل، ما يعكس اهتمامها المتزايد بتعزيز الروابط الاقتصادية مع المنطقة.
وأبرز دليل على ذلك هو النزاع المحتدم بين الصين والولايات المتحدة بشأن النفوذ في قناة بنما.
وتسعى بكين إلى تأمين موارد طبيعية استراتيجية مثل الليثيوم، والنحاس، والمنتجات الزراعية، وتعتمد في ذلك على ما بات يُعرف بـ"دبلوماسية البنية التحتية"، لتعزيز تحالفاتها في الجنوب العالمي.
وقي ظل هذا التحول، تنامت دعوات في أميركا اللاتينية لإحياء مشروع التكامل الاقتصادي الإقليمي، بعيداً عن الهيمنة الأميركية أو الصينية.
وقال بيكليني إن "أميركا اللاتينية تملك إمكانات هائلة للتكامل من خلال سوق موحدة، واتفاقيات تعاون زراعي وصناعي، وبنك تنمية إقليمي قوي".
وتابع: "بدلاً من أن نكون رهائن للحرب التجارية بين العملاقين، يمكننا إعادة صياغة علاقتنا مع كل طرف على أساس الندية والمصالح المشتركة".