بعد نحو 138 عاماً على وفاته في 26 مايو 1883، لا يزال اسم الأمير عبد القادر الجزائري حاضراً وقادراً على إثارة الجدل، بسبب تضارب الروايات إزاء الطريقة التي أنهى بها 17 عاماً من المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الفرنسي.
والأمير عبد القادر، الذي يوصف بأنه "مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة"، اتهمه السياسي المعارض ونجل أحد كبار قادة حرب الاستقلال عن فرنسا، عمران آيت حمودة بـ"الخيانة".
حمودة، الذي كان نائباً سابقاً في البرلمان، اعتبر في مقابلة تلفزيونية مؤخراً، أن الأمير عبد القادر، وبتوقيعه على "معاهدة التافنة" التي أنهت القتال مع الجيش الفرنسي "باع الجزائر لفرنسا"، وهو ما أثار غضباً واسعاً في البلاد.
وبينما تُجمع كل الروايات على الدور البطولي الذي لعبه الأمير عبد القادر حين كان منفياً في دمشق، حيث قاد "حملة الأيادي البيضاء" التي أنقذت حياة آلاف المسيحيين عام 1860، تختلف الروايات بشأن بطولته في تحرير الجزائر، بين من يعتبره "خائناً" للتوقيع على معاهدة تعترف بسلطة فرنسا على جزء من بلاده، ومن يعتبره "بطلاً تعرض للخيانة" من بعض القبائل.
أمير في الغرب
في 13 مايو 1830 شنت فرنسا حملة عسكرية لاستعمار الجزائر التي كانت تحت سيطرة الداي حسين، آخر حكام البلاد العثمانيين.
واستمرت الحملة 22 يوماً، وانتهت بدخول القوات الفرنسية إلى الجزائر العاصمة في 5 يونيو من ذات العام، وفقاً لكتاب "الأمير عبد القادر: رائد الكفاح الجزائري".
آنذاك كان الأمير عبد القادر الذي ولد عام 1808 بقرية القيطنة في ولاية وهران، يبلغ 22 عاماً، وقد أنهى تعلم القرآن والفقه والفلسفة والرياضيات.
وكان عبد القادر مشهوراً حينها وسط قبائل غرب الجزائر بقوته ونشاطه، وبراعته في الفروسية، وهي من السمات التي جعلته الابن المفضل لوالده محي الدين، بحسب ما جاء في كتاب "حياة الأمير عبد القادر" لشارل هنري تشرشل.
وبينما شرعت قبائل شرقي الجزائر في توحيد صفوفها لصد الفرنسيين تحت لواء الداي أحمد باي الذي كان يقيم بمدينة قسنطينة، اختارت قبائل الغرب الالتفاف حول محي الدين، الذي قاد المقاومين في الغرب حتى عام 1832 برفقة ابنه عبد القادر.
وفي عام 1832 اجتمعت جل القبائل الكبرى لاختيار قائد موحد، وبايع الحاضرون الفارس الشاب عبد القادر أميراً للغرب الجزائري (إيالة الغرب)، بعدما اعتذر والده محي الدين عن قبول البيعة، بسبب تقدمه في السن.
داهية حرب
كان الأمير عبد القادر يعي خطورة فارق العدة العسكرية بين مقاتليه والجيش الفرنسي، فربط علاقات مع تجار السلاح في بريطانيا، بين العامين 1832 و1833، وهو ما ساعده في الحصول على الأسلحة الحديثة.
لم يكن عبد القادر يعتمد على المواجهات المباشرة مع الفرنسيين، بل أسلوب الكر والفر وتنفيذ العمليات المباغتة وأسر الجنود، ما أشاع ارتباكاً وسط القوات الفرنسية.
وتوالت انتصارات عبد القادر في مستغانم وأرزيو ووهران وتلسمان وغزوات حتى عام 1834، وازداد معها عدد القبائل التي تبايعه والمجندين ضمن قواته.
وفي 26 فبراير 1834 تم التوقيع على اتفاقية للهدنة بمبادرة من القائد العام للقوات الفرنسية في مدينة وهران الجنرال ديميشال، وهي الاتفاقية التي أطلق عليها اسم "معاهدة ديميشال".
وبموجب المعاهدة، اعترفت فرنسا بإمارة عبد القادر على الغرب الجزائري عدا وهران وأرزيو ومستغانم، وسمحت للأمير عبد القادر باستيراد السلاح.
كما نصت المعاهدة على إطلاق سراح الأسرى من الجانبين وتسليم المقاتلين الفارين من كلا الجانبين، وإنهاء الحصار التجاري الذي كان قد فرضه الأمير عبد القادر على الفرنسيين.
تأسيس الدولة
يقول الباحث الجزائري يحيي بوعزيز، إن الأمير عبد القادر استغل هذه الهدنة من أجل تشييد الحصون، وإقامة القلاع وصنع السلاح والذخيرة الحربية، من جهة، وعمل من جهة أخرى على تنظيم صفوف الشعب، وتوحيد الجماهير حوله، وإنشاء دولة فتية بكيانها ودستورها ونظامها وجيشها.
من جانبها، كتبت الدكتورة في "جامعة الجزائر" بوزيفي وهيبة، أن الأمير عبد القادر عمل خلال تلك الفترة على تشكيل حكومته، وتعيين القضاة، وتنصيب الولاة في مختلف أنحاء الإمارة. كما شكل مجلساً للشورى من 11 عالماً. وبمرور الوقت أنشأ الأمير كذلك الدواوين والإدارات المركزية.
وفي 1835 توسع نفوذ الأمير عبد القادر ليشمل كل الغرب الجزائري ما عدا وهران ومستغانم وأرزيو، كما توغل في إقليم التيطري واستولى على مليانة في أبريل 1835، وعلى المدية في الشهر التالي، وتوسع شرقاً فأخذ مدينة بسكرة.
في ذات السياق، أوضح الكاتب نزار أباظة في مؤلفه "الأمير عبد القادر الجزائري العالم المجاهد" أن الأمير عبد القادر تفرغ خلال الهدنة إلى محاربة الخارجين عليه، فقضى على معارضيه في تلمسان، وبسط سيطرته على مدن لم تكن تحت سلطته من قبيل المدية ومليانة.
أما شارل هنري تشرشل، فقال إن الأمير عبد القادر شرع خلال فترة الهدنة في التنظيم، نظراً لأنه لم يكن يثق إلا قليلاً في نوايا السلام التي أبداها الفرنسيون.
تهمة الخيانة
غير أن الهدنة انهارت بسرعة، إذ انضمت قبيلتان جزائريتان "الدوائر" و"الزمالة" إلى الحاكم الفرنسي الذي رفض طلب الأمير عبد القادر بتسليمهم إليه، وفقاً لشروط المعاهدة، ما دفع الأمير إلى إعلان القتال مجدداً ضد فرنسا، وانتصر في معركة المقطع في يونيو 1835.
أثار هذا الانتصار جنون الحكومة الفرنسية التي أصدرت قراراً بالقضاء على حملة مقاومة الأمير عبد القادر بأي ثمن، وأرسلت في أغسطس 1835 جيشاً كبيراً بقيادة الماريشال كلوزل الذي سيطر على تلمسان ودخل إلى "معسكر"، معقل الأمير عبد القادر في 6 ديسمبر 1835.
غير أن الأمير عبد القادر سرعان ما استعاد السيطرة على معسكر بعد يومين من احتلالها، ثم حرر مدينة وهران وتقدم نحو تلمسان في 1836.
وبعدها قرر الفرنسيون التفاوض على هدنة من جديد، فجاءت معاهدة التافنة في مايو 1837، التي اعترفت فيها فرنسا بسيادة الأمير عبد القادر على المناطق الغربية للجزائر دون المدن الساحلية.
وتنص المعاهدة في المادة الأولى على أن "الأمير عبد القادر يعترف بسيادة فرنسا" على المدن الواقعة على الشريط الساحلي للجزائر، وضمنها وهران ومستغانم.
وسمحت هذه المعاهدة لفرنسا بتوجيه جميع قوتها لوأد مقاومة "أحمد باي" إلى أن تمكنت من إسقاط مدينة قسنطينة. وهو الأمر الذي جعل أحمد باي يتهم الأمير عبد القادر بـ"الخيانة" والتوقيع على معاهدة التافنة من أجل القضاء عليه في الشرق.
"الأبواب الحديدية"
في أواخر عام 1839، تصاعد العنف بشكل غير مسبوق، فأطلق الفرنسيون حملة جديدة تدعى "الأبواب الحديدية"، تم خلالها الاعتداء على النساء والأطفال وحرق قرى بأكملها. وأمام هذا الوضع، بدأت القبائل تتراجع عن دعم الأمير عبد القادر وتبدي ولاءها للفرنسيين.
وفي عام 1844، خسر الأمير موقعة الزمالة وسقطت عاصمته في يد القوات الفرنسية، بينما تراجع عدد مقاتليه. حينها قرر اللجوء إلى الأراضي المغربية، حيث كان حليفه القوي السلطان مولاي عبد الرحمن، ما أشعر القوات الفرنسية بنوع من التحدي، فتقدمت نحو الأراضي المغربية وواجهت قواتها في مدينة وجدة.
وخسر المغرب حينها معركة "إيسلي" أمام القوات الفرنسية التي بدأت تهدد بالتقدم إلى مدينة فاس في عمق المغرب، وهو ما أجبر السلطان على توقيع معاهدة صلح طنجة في 1844، ثم معاهدة مغنية عام 1845 التي اضطر من خلالها إلى التخلي عن دعم الأمير عبد القادر.
وفي عام 1847 اختار الأمير عبد القادر ترك السلاح بعد 17 عاماً من الكفاح، وبعدما خسر قواته وحليفه المغرب أمام فرنسا أيضاً.
تضارب الروايات
في 23 ديسمبر 1847، قرّر الأمير عبد القادر تسليم نفسه إلى الجنرال لامورسيِير، رئيس الجيوش الفرنسية، وفق شروط كتبها ووافقت عليها باريس لكنها سرعان ما نقضتها، وفقاً لما جاء في كتاب "الأمير عبد القادر الجزائري" للفرنسي برونو إيتيان.
ويؤكد الباحث يحي بوعزيز أنه جرى الاتفاق مع الجنرال لاموريسيير على تسليم الأمير لنفسه مقابل أن يتم نقله مع عائلته إلى عكة أو الإسكندرية، وألا يتعرضوا لمن يريد السفر معه من الضباط والعساكر، فضلاً عن ضمان سلامة أتباعه الذين سيبقون في الجزائر. لكنه تعرض للخداع، ونُقل إلى الإقامة الجبرية في فرنسا.
ويتم تداول 3 روايات في المراجع التاريخية بشأن أسباب استسلام الأمير عبد القادر، الأولى تشير إلى "استسلام الأمير وقبوله بالهزيمة"، بينما تقول الثانية إن "الضغط الفرنسي على المغرب وقصف الصويرة وطنجة، دفع إلى تراجع المغرب عن دعمه ومحاصرة الجيوش الفرنسية له، أما الرواية الثالثة فتشير إليها أدبيات مؤسسة الأمير عبد القادر، معتبرة أن الأمير تعرض للغدر والخطف بعد عقده اتفاق استئمان مع الفرنسيين حقناً للدماء.
وجاء في الصفحة 246 من كتاب شارل هنري تشرشل، أن الأمير عبد القادر خاطب أتباعه قبل لقاء لاموريسيير قائلاً إن "القبائل تعبت من الحرب ولم تعد تطيعني. يجب أن نستسلم".
وألمح هنري في كتابه إلى أن الأمير عبد القادر اعترف بهزيمته، إذ قال لأتباعه: "الله شاهد على أننا حاربنا طالما كان ذلك في استطاعتنا. فإذا لم ينصرنا، فلأنه حكم أن تكون هذه الأرض للمسيحيين".
وهذه الرواية ترفضها مؤسسة الأمير عبد القادر، إذ قالت عضوة المؤسسة سابقاً، الأميرة بديعة الحسيني الجزائري، وهي حفيدة الأمير عبد القادر، إن "الضابط البريطاني شارل هنري تشرشل قام بقلب الحقائق وتشويه الوقائع في كتابه حياة عبد القادر".
وأكدت أن "الأمير لم يخرج من الجزائر مستسلماً، وإنما خرج مستأمناً استئماناً زمنياً فغُدر به وخُطف. وكان قد عقد اتفاق استئمان زمني، حقناً للدماء، خرج على إثره من الجزائر ولم يكن قد خسر الحرب نهائياً ولم يتم أسره في معركة بينه وبين المحتلين".
أما كتاب "تحفة الزائر فى مآثر الأمير عبد القادر وأخبار الجزائر"، فيشير إلى أن تسليم الأمير نفسه إلى فرنسا جاء بعد هزيمة المغرب ومن ثم وقف مساعداته للمجاهدين الجزائريين، مضيفاً أن الأمير لم يعد أمامه "سوى الاستسلام حقناً لدماء من تبقى من المجاهدين والأهالي، وتجنيباً لهم من بطش الفرنسيين".
وظل الأمير عبد القادر رهن الإقامة الجبرية في فرنسا، حيث كان يعاني الإهانة والتضيق حتى عام 1852، حين أطلق سراحه رئيس الجمهورية الفرنسية لويس نابليون الثالث، بعدما تسلم الحكم، ليسافر بعد ذلك إلى تركيا عام 1852 ومنها إلى منفاه الاختياري دمشق عام 1855.
الأيادي البيضاء
وبعد انتقاله إلى منفاه في دمشق، نال الأمير عبد القادر شهرة كبيرة، خصوصاً لدى الغرب، بعدما أوقف الاقتتال الطائفي بين الموارنة والدروز، وحمايته لآلاف المسيحيين في منطقة باب تومة بدمشق عام 1860.
وكتب الصحافي البريطاني الشهير روبر فيسك عن هذه الواقعة، لافتاً إلى أنه وبينما "كان يحمل المقاتلون السيوف والسكاكين ويستعدون لذبح المسيحيين المحاصرين كافة، أرسل الأمير عبد القادر حراسه الجزائريين، الذين كانوا يحرسونه في دمشق، لشق طريق رافقوا فيه أكثر من 10 آلاف مسيحي (وقال بعض المؤرخين إنهم كانوا 15 ألفاً) حتى وصلوا إلى منطقة آمنة".
وفي أكتوبر 1860، كتبت صحيفة "نيويورك تايمز" مقالاً تاريخياً عن الواقعة، جاء فيه أن"أميركا مدينة بدين مطلق لابن الصحراء اللامع الأمير عبد القادر" لإنقاذه المسيحيين الأميركيين في الشام.
وتابعت الصحيفة "قبل 20 عاماً، كان الأمير العربي عدواً للمسيحية، إذ تمت مطاردته في جبال موطنه من قبل الجنود الفرنسيين. واليوم يتحد العالم المسيحي لتكريم أمير الإسلام المخلوع، أكثر الفرسان المحاربين نكراناً للذات، إذ ضحى بحياته لإنقاذ أعدائه القدامى الذين غزوه وغزاة عرقه ودينه، من الغضب ومن الموت".