انخفض تدفق نهر الفرات في سوريا على مدار الأشهر الماضية، إذ حذّر خبراء ومنظمات إنسانية من كارثة في شمال سوريا، وشمال شرقها، تهدد سير العمل في سدود النهر، الذي أدى تراجع منسوب المياه بها منذ يناير، إلى انقطاع المياه والكهرباء عن ملايين السكان.
وتقع المناطق المهددة بالجفاف تحت سيطرة الإدارة الذاتية الكردية، ويتهم كثيرون تركيا بمنع المياه واستخدامها كسلاح ضد المقاتلين الأكراد، الأمر الذي نفاه مصدر دبلوماسي تركي لوكالة "فرانس برس"، مرجعاً أسباب الجفاف إلى التغير المناخي.
وقال خبراء، إن أنقرة تتعهد وفق اتفاق تقاسم المياه مع سوريا لعام 1987، بتوفير 500 متر مكعب في الثانية لسوريا، موضحين أن "هذه الكمية انخفضت إلى أكثر من النصف خلال الأشهر الماضية، ووصلت في فترات معينة إلى 200 متر مكعب في الثانية".
المنسوب الميت
ينبع نهر الفرات، أطول أنهار غرب آسيا، من جبال طوروس في تركيا ويتدفق منها إلى سوريا، من مدينة جرابلس في ريف حلب الشمالي مروراً بمحافظة الرقة شمالاً، ومنها إلى دير الزور شرقاً، وصولاً إلى العراق.
من تركيا إلى سوريا فالعراق، يغطي النهر 2800 كيلومتر، ويلتقي في العراق بنهر دجلة، ليُشكلا معاً شط العرب قبل أن يصب في مياه الخليج.
وفي سوريا، بني سدّان أساسيان على نهر الفرات، هما سد تشرين في ريف حلب الشمالي، وسد الطبقة حيث تقع بحيرة الأسد الضخمة في ريف الرقة الشرقي.
يغطي السدان 90 في المئة من حاجات شمال شرق سوريا من الكهرباء، بما فيها التيار اللازم لمحطات ضخ المياه، لكن تراجع منسوب المياه يهدد اليوم عملهما.
حمود الحماديين، مدير "سد تشرين" منذ 13 عاماً، حذّر من "انخفاض تاريخي ومرعب" في منسوب المياه، لم يشهده السد منذ بنائه في عام 1999.
ومنذ ديسمبر الماضي، تراجع منسوب المياه في السد بخمسة أمتار، وفي حال استمر بالانخفاض سيصل إلى ما وصفه الحماديين بـ"المنسوب الميت"، ما يعني أن تتوقف "العنفات (التوربينات) بشكل كامل" عن العمل.
وتابع مدير سد تشرين: "بعيداً عن تراجع إمداد المنطقة بالكهرباء، توقفت عدة محطات ضخ مياه عن العمل"، ونبه إلى أن "انخفاض منسوب المياه يهدد بارتفاع معدل التلوث ويعرض الثروة السمكية للخطر"، محذراً: "نحن نتجه إلى كارثة إنسانية وبيئية".
وفي سد الطبقة، تراجع منسوب المياه في بحيرة الأسد بحوالي خمسة أمتار، وبات يقترب من المنسوب الميت أيضاً.
وفي كامل شمال شرقي سوريا، تراجع إنتاج الكهرباء بنسبة 70%، لأن سدي "تشرين" و"الطبقة"، لا يعملان بالشكل المطلوب، بحسب ما يقول مسؤول هيئة الطاقة في شمال شرقي سوريا ولات درويش لوكالة "فرانس برس".
سلاح المياه
في سوريا، يمر الفرات بغالبيته في مناطق تحت سيطرة الإدارة الذاتية الكردية، وذراعها العسكرية "قوات سوريا الديموقراطية" (قسد) المدعومة من واشنطن، لكنها تعد خصماً أساساً لتركيا، التي تصنف أبرز مكوناتها وحدات حماية الشعب الكردية، مجموعة "إرهابية".
وشنّت أنقرة وفصائل سورية موالية لها منذ 2016، ثلاث هجمات عسكرية في سوريا استهدفت المقاتلين الأكراد.
وتتهم الإدارة الذاتية أنقرة بعرقلة تدفق نهر الفرات إلى سوريا، وباستخدام المياه كسلاح للضغط عليها.
واتهمت دمشق أيضاً تركيا، التي تدعم منذ بداية النزاع أطرافاً في المعارضة السورية، بحجز مياه نهر الفرات وعدم الالتزام بالاتفاقية الموقعة في 1987.
إلا أن مصدراً دبلوماسياً تركياً قال لوكالة "فرانس برس إن بلاده "لم تقدم يوماً على خفض نسبة تدفق المياه..لأسباب سياسية أو أي أسباب أخرى".
وأوضح: "تواجه منطقتنا أسوأ فترات الجفاف بسبب التغير المناخي"، مشيراً إلى تسجيل "أدنى مستوى تساقط أمطار منذ 30 عاماً على الأقل" هذا العام في جنوب تركيا.
واشنطن وموسكو
يُشكك الباحث في الشأن السوري نيكولاس هيراس، في نية تركيا استخدام نهر الفرات كسلاح لصالحها، قائلاً إن "من شأن ذلك أن يعقد علاقاتها مع الولايات المتحدة، الداعمة للأكراد وحليفتها على النطاق الأوسع، ومع روسيا أبرز داعمي دمشق، لكن في الوقت ذاته شريكتها في اتفاقات تهدئة عدة في سوريا".
ويقول هيراس إن "سلاح المياه الأسهل، والذي استخدمته أنقرة مراراً، هو محطة علوك" الواقعة في منطقة تحت سيطرتها منذ 2019.
وأحصت الأمم المتحدة انقطاع المياه عن محطة علوك 24 مرة منذ عام 2019، ما ينعكس على حياة 460 ألف شخص يستفيدون منها في محافظة الحسكة.
في المقابل، يرى الخبير في الشأن السوري فابريس بالانش، أنه "حتى وإن كانت الكارثة التي تهدد شمال سوريا وشمال شرقها ناتجة عن تراجع مستوى الأمطار، فإن تركيا قادرة على الاستفادة من الأمر لمصالحها الجيوسياسية".
وتابع: "خلال فترات الجفاف، تستخدم تركيا ما تحتاج من المياه، وتترك المياه المتبقية للأكراد، وإن كانت على معرفة كاملة بالتداعيات"، مضيفاً أن "الهدف هو خنق شمال شرق سوريا اقتصادياً".
الجفاف مقبل
من جانبه، أرجع فيم زفينينبيرغ من منظمة "باكس" للسلام الهولندية غير الحكومية تراجع منسوب نهر الفرات في سوريا إلى مشاريع زراعية ضخمة وضعتها الحكومة التركية، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن "التغير المناخي فاقم الوضع سوءاً.
وأطلقت تركيا في التسعينات مشاريع زراعية ضخمة في جنوب البلاد، وبات عليها بعد تراجع نسبة الأمطار، أن تفعل المستحيل للحفاظ على كميات المياه ذاتها اللازمة لمشاريع الري، وقد يكمن الحل باستغلال كبير لمياه الأنهار.
ويقول "زفينينبيرغ": "الجفاف قادم لا محال"، مشيراً إلى أن صوراً عبر أقمار اصطناعية، تظهر "التراجع السريع في النمو الزراعي الصحي" في كل من سوريا وتركيا.
وحمل تقرير صدر الشهر الحالي عن خبراء المناخ في الأمم المتحدة، البشر و"بشكل لا لبس فيه"، مسؤولية الاضطرابات المناخية التي ضربت العالم، وتهدده أكثر وبينها موجات القيظ والجفاف.
وحذرت الأمم المتحدة من أن فترات الجفاف، ستصبح أطول وأكثر حدة حول البحر الأبيض المتوسط.
وصنف مؤشر الأزمات العالمية لعام 2019، سوريا على أنها البلد الأكثر عرضة لخطر الجفاف في منطقة المتوسط.
أمراض وعطش
في ريف الرقة الشرقي، بات انكماش بحيرة الأسد، أكبر البحيرات الاصطناعية في سوريا، الهم الأكبر لدى عمال سد الطبقة من جهة، والمزارعين من جهة ثانية.
ويقول المهندس خالد شاهين، الذي يعمل في سد الطبقة منذ 22 عاماً لوكالة "فرانس برس": "نحاول تخفيض كمية المياه التي تمر عبر السدود، للخروج بأقل الخسائر الممكنة".
ويوضح: "إذا استمر الوضع على هذا الحال، فمن المحتمل أن نوقف توليد الكهرباء، وأن نغذي فقط المخابز والمطاحن والمستشفيات".
وكان أكثر من خمسة ملايين شخص، يعتمدون على النهر من أجل توفير مياه شرب نظيفة، لكنّ معظم المحطات التي كانت تتولى عملية تكرير المياه وتنقيتها، باتت إما تعمل بتقطع أو توقّفت نهائياً.
ويتوجّب على السكان شراء المياه من صهاريج خاصة، تتم تعبئتها من نهر الفرات، لكن من دون تنقيتها، في وقت تتراكم مياه الصرف الصحي ويزداد التلوث.
وحذر ائتلاف منظمات تعمل في شمال شرقي سوريا، من انتشار الأمراض الناشئة عن تلوث المياه في محافظات حلب والرقة ودير الزور، فيما تسبّبت مياه معامل الثلج الملوّثة، بانتشار الإسهال في مخيمات النازحين.
نقص في الغذاء
ويهدد تراجع منسوب نهر الفرات "المجتمعات الريفية على ضفافه، والتي تعتمد بشكل أساسي على الزراعة والري"، وفق ما ذكرته الخبيرة السورية في الأمن البيئي مروى داوودي.
وأتى الجفاف، وفق منظمات إنسانية، على مساحات زراعية واسعة تعتمد أساساً على مياه الأمطار، في بلد يعاني 60% من سكانه من انعدام الأمن الغذائي.
وأوردت الأمم المتحدة أن إنتاج الشعير قد يتراجع 1.2 مليون طن خلال العام الحالي، ما يصعّب تأمين العلف للحيوانات خلال الأشهر القليلة المقبلة.
وفي العراق أيضاً، حذر المجلس النرويجي للاجئين من أن تراجع تدفق نهر الفرات قد يحرم سبعة ملايين شخص من المياه.
ويقول المتحدث باسم المجلس كارل شيمبري: "لا يأخذ المناخ الحدود بالاعتبار".