بعد مرور عقد شهد العديد من الاضطرابات والنزاعات السياسية حول التداعيات الأمنية المحتملة لتوسيع لوجستيات الشحن الخاصة بها إلى الصين، فإنه من المتوقع أن تكمل منغوليا 3 خطوط جديدة ومهمة للسكك الحديدية بحلول نهاية هذا العام.
هذه التطورات التي سيكون لها تأثير هائل على أسواق السلع في العالم، ستسمح للصين وروسيا بالبحث عن مجالات جديدة للتجارة، خاصة في سلع مثل الفحم والمعادن، ما يجعل كلا البلدين أكثر أماناً من ناحية الطاقة وأقل عرضة للضغوط التي تفرضها العقوبات، بحسب ما أفادت مجلة "فورين بوليسي" الأميركية.
وبالنظر للموقع الجغرافي غير الساحلي لمنغوليا، فإن اقتصاد البلاد يتطلب اتصالاً استراتيجياً وموانئ تجارية مع جيرانها، والآن باتت البلاد تشترك في 13 ميناء تجارياً مع الصين، والتي تصدر معظمها الفحم وخام الحديد والنحاس.
وكانت منغوليا تعتمد، على مدى عقود من الزمان، على أنظمة السكك الحديدية السوفيتية القديمة، والطرق السريعة للتصدير، مستخدمة الشاحنات لنقل معظم صادراتها، ولكنها ظلت بعيدة عن قدرتها التصديرية الكاملة بسبب القيود التي كانت مفروضة على بنيتها التحتية الأساسية.
وخلال زيارة رئيس الوزراء المنغولي أويون-إردين لوفسان نامسراي إلى بكين في فبراير الماضي، تمكنت الحكومتان من وضع اللمسات الأخيرة على 3 مشاريع رئيسية لإنشاء السكك الحديدية، من جنوب صحراء جوبي الغني بالمعادن في منغوليا إلى الصين.
"فحم الكوك والنحاس"
ومن المتوقع أن يتم الانتهاء من خط سكة حديد "Tavan Tolgoi-Zuunbayan"، الذي يبلغ طوله 416.1 كيلومتر، ويمكنه نقل 15 مليون طن إضافي من الشحن، بحلول شهر أكتوبر المقبل.
كما سيوفر خط "Tavan Tolgoi-Gashuunsukhait" نحو 30 مليون طن إضافي من الشحن، وسيبلغ طول خط "Zuunbayan-Khangi" قرابة 226 كيلومتراً، وسيصل إلى ميناء ماندال في الصين، وقد بدأ العمل في هذا الخط بالفعل في مارس الماضي، ويهدف لتصدير حوالي 20 مليون طن.
ومنذ عام 2009، حققت منغوليا قفزة كبيرة في تحسين بنيتها التحتية الداخلية، وقد لعبت أهداف البنية التحتية هذه دوراً رئيسياً في جهود البلاد لتنويع اقتصادها القائم على التعدين، ففي الفترة بين عامي 2016 و2020، تمكنت الحكومة المنغولية في بلد كانت شبكات الطرق فيه سيئة للغاية في السابق، من بناء نظام طرق سريعة يربط جميع المقاطعات الـ21 بالعاصمة، أولان باتور.
وفي محاولة لزيادة صادرات منغوليا، أصدر مجلس الوزراء في البلاد قراراً، في مارس الماضي، لبدء البناء الذي تأخر طويلاً لسكك حديد "Choibalsan-Khuut" و"Khuut-Bichigt" بإجمالي 426.6 كيلومتر، بالإضافة إلى سكة حديد "Artssuuri-Shiveekhuren-Nariinsukhait" بإجمالي 1255 كيلومتر، والتي يتم مناقشة تفاصيلها منذ عام 2013، وهي الطرق التي ستوفر قدراً أكبر من الاتصال بغرب منغوليا الغني بالموارد، ولكنه أقل كثافة سكانية ولديه ترابط لوجستي ضعيف.
وخلال المنتدى الاقتصادي المنغولي لعام 2022، أكد رئيس الوزراء على جهود البلاد لزيادة صادراتها من السلع الأساسية، لا سيما فحم الكوك والنحاس، وأشار إلى أن خطة الحكومة للخصخصة الجزئية للشركات المملوكة للدولة تهدف إلى جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة في قطاعات الطاقة والموانئ الحدودية ومشاريع التصنيع العملاقة، وذلك بهدف استثمار 48 مليار دولار أميركي.
ووفقاً لمؤشر "إس أند بي" للسلع العالمية فإن منغوليا تعتبر مورداً رئيسياً للنحاس والفحم للصين، وتتم معظم هذه العمليات التجارية من خلال الشاحنات، إلا أن موردي الشاحنات المنغوليين قد واجهوا مشكلات لوجستية خطيرة في نقل الشحنات من الموانئ البرية إلى بكين في عام 2021 بسبب القيود المتعلقة بوباء فيروس كورونا المفروضة عند هذه المعابر الحدودية.
وتهدف خطوط السكك الحديدية الجديدة هذه إلى حل مثل هذه التحديات اللوجستية، وزيادة الصادرات إلى ما بين 14 و17 مليار دولار في الفترة بين 2025-2028 لتصل إلى 20 مليار دولار بحلول عام 2029.
"إدارة الطفرة المالية"
وفي حال كان سعر الفحم يبلغ 200 دولار للطن، فإن هذا يعني زيادة 65 مليون طن من الصادرات، بما في ذلك صادرات بقيمة 13 مليار دولار أميركي من فحم الكوك وحده، وذلك في بلد كانت تبلغ قيمة إجمالي صادراته 8.47 مليار دولار في عام 2020، وهو ما يشير إلى توسع كبير في الإيرادات المالية لمنغوليا من عائدات التعدين وضرائب الشركات، الأمر الذي بدوره سيضيف 800 مليون دولار إلى عائدات البلاد، ومئات الملايين من الدولارات إلى إيراداتها الضريبية، وهو ما سيمثل تحولاً هيكلياً في الموازين التجارية في منغوليا.
وفي حال حدوث ذلك، فإنه سيثير تساؤلاً حول ما إذا كانت منغوليا ستحتاج إلى صندوق ثروة سيادية لتحقيق الاستقرار في عملتها مقابل كل هذه التدفقات المالية، والتي قد تؤدي بخلاف ذلك إلى تضخم أسواق الأصول المحلية أو إساءة تخصيصها، إذ ستكون إدارة هذه الطفرة المالية أمراً مهماً للغاية، وذلك لأن أهداف التخلص من الكربون العالمية تشير إلى أن الطلب على فحم الكوك سيبدأ في الانخفاض بحلول منتصف عام 2030، وفقاً لمعظم سيناريوهات الهيئة الدولية المعنية بتغير المناخ.
وفي الوقت نفسه، فإن التوسع في السكك الحديدية المنغولية يعد بمثابة جرس إنذار لخطط البنية التحتية الصينية-الروسية الحالية، إذ إنه من المتوقع أن يتم الانتهاء من أول خط سكة حديد بين موسكو وبكين عابر للحدود في أغسطس المقبل بتكلفة 355 مليون دولار.
ولدى البلدان خطط تعاون رئيسية أخرى، مثل خط أنابيب "Power of Siberia 2" الذي سيسمح بإعادة توجيه أكثر من 80 مليار متر مكعب، أو ما يقرب من 70% من صادرات الغاز الروسي، من حقول شبه جزيرة "يامال" التي كانت تذهب سابقاً إلى أوروبا، نحو الصين عبر خط أنابيب "غازبروم" الذي تم بناؤه في عام 2019.
ورداً على التعاون الصيني-الروسي في مجال الطاقة، أصدرت منغوليا مذكرة تفاهم في عام 2019، تلاها اجتماع بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس التنفيذي لشركة "غازبروم"، أليكسي ميلر، صرح خلاله الرئيس الروسي بأن بلاده ليس لديها اعتراضات سياسية على مشاريع منغوليا.
وفي حين أن خطة توسيع البنية التحتية هذه لديها القدرة على التأثير على قطاع الطاقة في شمال شرق آسيا، فإنه من المرجح أن يعاني المشروع كثيراً حتى يكتمل، بحلول موعده المقرر عام 2025، وذلك بسبب الصراع بين روسيا وأوكرانيا والعقوبات التي تمنع توريد المعدات الرئيسية.
وفي حال انتهت الحرب أو تم تطبيع التجارة، فإن استكمال هذه المشاريع سيؤدي إلى مزيد من عمليات إعادة توجيه الصادرات الروسية من أوروبا إلى الصين بشكل دائم، وعلاوة على ذلك، فإن استمرار الوباء وسياسات الصين المقيدة لانتشار كورونا يمثلان تحدياً كبيراً لمنغوليا أيضاً.
ويُظهر التعاون الموسع في قطاع البنية التحتية بين الصين وروسيا أنه على الرغم من الحديث عن تراجع العولمة، فإن التجارة قد باتت تتكثف بين البلدان والمناطق ذات المصالح الجيوسياسية المتوافقة، وتتراجع بين تلك التي لديها اختلافات في القيم والمصالح، وصحيح أن منغوليا قد تكون دولة ديمقراطية، ولكن موقعها الجغرافي يجعلها نقطة عبور رئيسية لطرق التجارة الجديدة بين روسيا والصين.