
يبدو الجميع سواسية أمام تداعيات أزمة تغيّر المناخ. يتأثرون بارتفاع درجات الحرارة واحتمالات الجفاف والحرمان من معالم البيئات المحلية والتنوع البيولوجي، إلا أن الأمر لا يسير على النهج ذاته في ما يتعلق بالمسؤولية عن انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، إذ أن حفنة من الدول فقط يُعزى إليها التسبب في القسم الأكبر من الانبعاثات التي تهدد استقرار كوكب الأرض.
الصين والولايات المتحدة والهند وروسيا على الترتيب، هي الدول الأكثر إنتاجاً للانبعاثات. في الوقت ذاته، فإن الدول الأربعة تدخل ضمن أطراف اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية للمناخ، ويتعهد بعضها بوضع حد نهائي لاعتماده على الوقود الأحفوري، والوصول إلأىلحياد الكربوني قبل نهاية القرن الحالي.
الصين في المقدمة
تأتي الصين في مقدمة الدول التي تتسبب أنشطتها البشرية في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، وتُقدر نسبة الانبعاثات التي تتسبب فيها الصين بنحو 27.79% من إجمالي الانبعاثات العالمية. وذلك على الرغم من أن الصين صدقت على اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغير المناخي بشكل مبكر، وبالتحديد في عام 1993، ودعمت بشدة بعض المبادئ والتوجهات المتعلقة بالاتفاقية، كتقديم الدول المتقدمة الدعم المالي والتكنولوجي للدول النامية، بهدف مساعدتها في مهام وأهداف خفض الانبعاثات من جهة، والتأقلم مع تداعيات أزمة تغير المناخ من جهة أخرى.
وفي حين شاركت الصين في إعلان أهداف مناخية مشتركة، وخطط تعاون مع الولايات المتحدة مرات عدة، إلا أن موقفها في مفاوضات اتفاق جلاسكو العام الماضي، أثار انتقادات واسعة، إذ تعاون الجناح الشرقي المتمثل في الصين والهند، لإتمام تعديل نص الاتفاق في ما يتعلق باستخدام الفحم، ليتحول للخفض التدريجي لاستخدام الفحم بدلاً من التخلص التدريجي.
أزمة ثقة
تحتفظ الهند شريكة الصين بحقها في التعديل على نص الاتفاقية، وهي تأتي في المركز الثالث على قائمة الدول المتسببة في الانبعاثات، بنسبة تصل إلى نحو 7.32% من الإجمالي العالمي.
وكان رئيس النسخة الـ26 لمؤتمر أطراف اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ، ألوك شارما، أشار لما أحدثه قرار كل من الصين والهند في جلاسكو من خيبة أمل، قائلاً: "على الصين والهند أن يشرحا موقفهما للدول الأكثر عرضة للتضرر من التغير المناخي".
ويرى أمين عام اتحاد خبراء البيئة العرب، مجدي علام، أن الدول الكبرى والاقتصادات الصاعدة ما تزال تعاني الشك في مسألة التحول عن الوقود الأحفوري، خوفاً من أن تتفوق عليها قوى دولية أكبر جراء الانتقال.
وأضاف في تصريحات لـ"الشرق": "هناك أزمة أخرى متمثلة في الصناعات الثقيلة التي ما تزال تكنولوجيا تحولها للطاقات المتجددة أمر قيد التطوير، ومن ثم لا يمكن الاستغناء عن الوقود الأحفوري بين ليلة وضحاها".
اضطراب سياسي
أما الولايات المتحدة، فتمثل ثاني أكبر متسبب في العالم لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري، بنسبة تبلغ 12.74% من إجمالي الانبعاثات العالمية.
ومع تدشين "اتفاق باريس المناخي" منتصف العقد الماضي، بدت الولايات المتحدة متفائلة بإمكان التعاون مع دول العالم لاسيما الصين بخصوص أزمة المناخ، حتى أن الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما اعتبر "اتفاقية" باريس تحمل في طياتها إمكانية تبديل ملامح العالم، كما ذكر في خطاب من البيت الأبيض في أكتوبر 2016.
وقال أوباما: "سوف يذكر التاريخ اتفاق باريس للمناخ كنقطة تحول في تاريخ كوكبنا، خصوصاً إذا ما نفذنا الالتزامات التي يجسدها الاتفاق".
غير أن التغيرات السياسية الداخلية في الولايات المتحدة ألقت بظلالها على علاقة البلاد بأزمة المناخ بشكل عام، واتفاق باريس بشكل خاص، وبالتحديد بعد تولي الرئيس السابق دونالد ترمب في يناير 2017، إذ لطالما عبّر الرئيس السابق عن تشككه في أزمة المناخ وعلاقتها بالنشاط الإنساني.
وفي عام 2020، أعلن ترمب انسحاب الولايات المتحدة رسمياً من اتفاق باريس، لكن بعد بضعة أشهر أعاد الرئيس الجديد للبلاد جو بايدن، واشنطن للاتفاق، وبالتحديد في فبراير 2021.
"مسألة إجرائية"
تعتبر روسيا مسؤولة عن نحو 4.68% من الانبعاثات في العالم، لتحل في المركز الرابع في الترتيب.
علماً أن للدولة النفطية الكبيرة علاقة مضطربة أيضاً بتغير المناخ، ما بين تشكك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الأزمة بشكل معلن، ثم إعلان عزمه العام الماضي على التحول إلى الحياد الكربوني في عام 2060، كما أن الموقف الروسي ازداد تعقيداً خلال الشهور التالية باندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وما خلفته من أزمة وقود عالمية.
ويرى أستاذ علم الاجتماع السياسي في "الجامعة الأميركية في القاهرة" سعيد صادق، أن "المواقف المتناقضة أحياناً للدول الكبرى في ما يخص أزمة المناخ، تُعبر في بعض الأحيان عن عدم تعاملها مع القضية بشكل جاد، بل اتخاذها كمسألة إجرائية".
وأوضح صادق في تصريحات لـ"الشرق": "يكفي في هذا السياق تذكر هدف توفير تمويل للمناخ بمبلغ 100 مليار دولار، وهو الأمر الذي لم يتحقق فعلياً إلى اليوم".
وبالرغم من أن الدول النامية عادة ما تقع ضحية لتداعيات تغير المناخ، تتعلل الدول الكبرى بالأزمات الدولية والاقتصادية. وقال صادق: "دائماً ما تظهر الحاجة لاعتماد كثيف آخر على الوقود الأحفوري، إما رجوعاً لغزو أوكرانيا أو لمنع تعطل حركات الإنتاج، بينما تظل الدول النامية هي الضحية".
سياسة الانتظار
الأمين لاعام لاتحاد خبراء البيئة العرب مجدي علام، أشار إلى أن بعض الدول الكبرى المتسببة في الانبعاثات قد ترى فائدة وجدوى اقتصادية من تأجيل الحسم النهائي في قضية المناخ، نظراً لأولوية استنفاد احتياطيات الوقود الأحفوري.
وقال علام لـ"الشرق" إن "المسألة ليست بسيطة، وتتطلب تنظيماً وإعداداً معقداً من الدول لاستبدال المعدات والسيارات وأنماط التكنولوجيا المختلفة لتلائم الطاقة الجديدة، ولكن بعض الدول تميل للرغبة في تحقيق الاستفادة الاقتصادية الأكبر من احتياطي النفط لديها، قبل تحقيق عملية الانتقال".
غير أن علام يبدو متفائلاً بمؤتمر الأطراف "COP 27"، باعتباره محاولة جديدة في طريق طويل نحو التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري.
وتابع: "المؤتمر الحالي هو المحاولة رقم 27 للتوقيع على اتفاقية ملزمة لأطرافها في لائحتها التفيذية، وتنص على التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري".
وتابع: "لا يهم متى يحدث التوقف، ولكن يهمنا التوقع والالتزام بخفض كميات محددة ومعلنة سنوياً، وكذلك فتح باب الأمل أمام تطور تكنولوجيا الطاقة المتجددة، بما يسمح بعملية التحول الكامل".
اقرأ أيضاً:




