حلم الجيش الموحد.. هل تخرج أوروبا من عباءة الناتو؟

time reading iconدقائق القراءة - 19

هذا المقال جزء من سلسلة "2023.. عام الأسئلة الصعبة".

بقلم جيورجيو باتيستي

  • فريق متقاعد من الجيش الإيطالي بعد 44 عاماً من الخدمة العسكرية.
  • خلال مسيرته المهنية، شغل الفريق باتيستي مناصب متعددة في القيادة والأركان في إيطاليا والخارج. شارك في بعثة الأمم المتحدة في الصومال عام 1993، وبعثة الناتو في البوسنة عام 1997. كما أنجز 4 مهمات ميدانية في أفغانستان في 2001 و2002 و2003 و2007 و2013 و2014. خلال مهمته الأخيرة في كابول، تولى الفريق باتيستي مهمة رئيس أركان القوة الدولية للمساعدة الأمنية.
  • حصل على درجة الماجستير من المستوى الثاني في الدراسات الاستراتيجية من جامعة تورين (إيطاليا).
  • وهو كذلك نائب رئيس المعهد الدولي للقانون الإنساني ومقره بسان ريمو في إيطاليا، ورئيس اللجنة العسكرية التابعة للجنة الأطلسية الإيطالية ومقرها في روما. كما أنه عضو معهد الأمن العالمي وشؤون الدفاع ومقره في أبوظبي.

أعاد النزاع الأخير في أوكرانيا، وقبله الانسحاب المرتبك من أفغانستان في أغسطس 2021، مسألة الدفاع إلى قلب النقاش في أوروبا، فالاتحاد الأوروبي، وهو المنطقة الأكثر تعرضاً لآثار النزاع في أوكرانيا، لم ينجح في فرض ثقله إلا جزئياً.

هذا الفشل في فرض الثقل يعود إلى محدودية التنسيق بين الدول الأعضاء في الاتحاد فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، لكن الديناميات الحالية للوضع جعلت من المستحيل على الاتحاد التلكؤ في تأكيد وجوده كلاعب رئيسي على الساحة الدولية، ليضاهي قوته الاقتصادية بقوتيه الدبلوماسية والعسكرية. 
ويخضع مشروع القوة الدفاعية للاتحاد للنقاش منذ عقود، لكن المواقف المتباينة داخل التكتل، إلى جانب انعدام سياسة خارجية أو حتى عسكرية مشتركة، أجّلت تحقيقه. 

جذور الضعف الأوروبي

يعود الضعف في المشروع الدفاعي الأوروبي العام في جذوره إلى عملية التأسيس عام 1951، وبالتحديد إلى اتكاء مشروع الاتحاد الأوروبي بشكل حصري على المبادئ الاقتصادية في سياق عملية تشكل الجنين الأوروبي.

وعلى النقيض، فإن أوائل المنظّرين ذوي الرؤية الثاقبة لأوروبا متحدة  رأوا في الدفاع المشترك وتأمين الطاقة عناصر أساسية يجب التركيز عليها.

ويكشف الوضع الجيوسياسي الحاضر عن بعد نظر ذلك التوجه الذي لم يلقَ آذاناً صاغية آنذاك، فاليوم تعتمد أوروبا على الولايات المتحدة في مجال الدفاع، وعلى روسيا في مجال الطاقة.  

لكن ما عرقل الاستقلال الأوروبي بشكل أساسي، كان مقاومة الأوروبيين لمبدأ حيوي للاتحاد وهو نقل السيادات الفردية للدول لصالح سيادة أوروبية سياسية عامة، على غرار ما حدث في مجالات أخرى كالاقتصاد وتوحيد العملة... إلخ.  

كان على "حلم" إرساء سياسة دفاعية عامة أن ينتظر جائحة كورونا وأثرها على ميزانيات الدفاع الأوروبية، إذ كان ذلك أحد أسباب قرار إنشاء قوة تدخل سريع من 5 آلاف عنصر بدءاً من عام 2025. وستكون هذه القوة قادرة على التحرك براً وبحراً وجواً وفي الفضاء الإلكتروني، وستنسّق عملياتها مع حلف شمال الأطلسي (الناتو). 

ليس هناك شك في أن 5 آلاف عنصر لن يوفوا بالحاجة في عمليات كبيرة ذات ثقل سياسي على المستوى العالمي. وفي حقيقة الأمر، فإن هذه القوة مشابهة لما كان يعرف بالوحدات القتالية الأوروبية (وهي في الواقع وحدتان من 1500 عنصر)، والتي تم استحداثها عام 2007، ولكن لم يتم نشرها بسبب التباينات السياسية بين دول الاتحاد الأوروبي، إذ إن كل قرار يجب أن يُمرَّر بالإجماع، وكذلك بسبب القصور التمويلي. 

الخروج من عباءة الناتو

هناك حقيقة مؤكدة، أن أوروبا كي تضمن أمنها الدفاعي، لا يمكن لها الاتكال بشكل كامل على مظلة الناتو وأميركا. وعليه، فإن من واجب الاتحاد الأوروبي تصميم وإنشاء ذراع عسكرية على غرار الناتو، حتى إن لم يكن هناك تناغم دائم في المصالح بينها وبين الحلف.  

تنفق دول الاتحاد الأوروبي السبع والعشرون على الدفاع بقدر ما تنفقه روسيا والصين مجتمعتين، ومع ذلك فهي تعتمد على الولايات المتحدة في عملياتها العسكرية، ويرجع هذا إلى عجز في القدرات يتبدى في نقص خطير في الموارد ومنظومات التسليح، وإلى غياب بنية مستقلة للتخطيط والتنسيق والقيادة. 

ويستدعي هذا وجود آلية فعالة لاتخاذ القرار واكتفاء ذاتياً على المستويين التصنيعي والعملياتي، ويستتبع ذلك وجود عقيدة عملياتية مشتركة، ومعايير وإجراءات تشغيلية متطابقة، ونظام إدارة قابل للتشغيل البيني فيما يتعلق بالموارد البشرية، وتوافر المعدات العسكرية والوحدات المتكاملة.    

حلم الجيش الأوروبي ومعضلة السيادة

يبدو أن خلق جيش أوروبي، بحسب الرغبة التي عبّر عنها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مراراً، هدف غير عملي في المدى المتوسط، إذ لا تلاقي الفكرة قبولاً من قبل جيوش الدول الأعضاء، إذ إن كل جيش يهمه الحفاظ على استقلاليته في عملياته وفي تطوير قدراته.  

وفوق ذلك فإن حلم الجيش الأوروبي لا يصادف هوى في نفوس معظم حكومات الدول الأعضاء، لأنه يعني التخلي عن قسط من السيادة. وما يزيد الأمر تعقيداً غياب التهديد العام الذي يواجهه الجميع، فكل دولة من دول الاتحاد لها نظرتها الخاصة للتهديد المتوقع. وفي الواقع فإن الدول الأوروبية لديها مفاهيم متباينة للتهديدات، وأولويات استراتيجية وطنية مختلفة.    

فالدول الواقعة على المتوسط لديها حساسية خاصة تجاه الإرهاب وتدفق المهاجرين غير النظاميين، وتهتم بمسألة انعدام الاستقرار في إفريقيا والشرق الأوسط. أما الدول الواقعة في الشمال الغربي فتركز بشكل أكبر على الإرهاب، وروسيا التي تشكل أيضاً التهديد الرئيسي لدول شرق أوروبا. 

 نواة لقوة مشتركة

ومع ذلك، فعلى سبيل التجربة، وللإسهام في التفكير في الدفاع المشترك، أقرّ المجلس الأوروبي في 21 مارس 2022 وثيقة سُمّيت "البوصلة الاستراتيجية"، وهي ترسم الخطوط العريضة للسياسة الأمنية الأوروبية الجديدة، وتقدم تعريفاً للأهداف الأمنية المشتركة، وتلامس المنظور الاستراتيجي للسنوات المقبلة.    

تتمثل الميزة الأساسية الجديدة الواردة في "البوصلة الاستراتيجية" في إمكانية إنجاز "قوة الانتشار السريع" وقوامها خمسة آلاف عنصر بحلول عام 2025، لتكون قادرة على الانتشار بسرعة في الأزمات التي تمس المصالح الأوروبية، وتتمتع بعدة أمور منها:  

  • تفعيل عملياتي سلس يتخطى عقبة القرار بالإجماع، إما استناداً إلى أن "الامتناع عن التصويت" لا يعني الرفض، وإما بتحويل التنفيذ إلى مجموعة تضم "الدول الموافقة" فقط.  
  • تعزيز هياكل القيادة والتحكم، مع وجود هدف نهائي يتمثل في تأسيس غرفة عمليات أوروبية قادرة على إدارة العمليات ذاتياً.  
  • تحسين استعداد الوحدات والانتشار السريع للقوات من خلال المناورات الدورية.  

لقد أصبح مفهوم الدفاع الأوروبي المشترك أمراً ملحاً على نحو متزايد، خاصة أن دول الاتحاد، منفردة، عاجزة عن التأثير على المسرح الدولي بشكل فعال، ولاسيما على المدى الطويل.

ولا بد من تخصيص الموارد المالية في سياق هذا المشروع الدفاعي المشترك للوفاء بالتعهدات التي أعلنها الاتحاد الأوروبي.

وإدراكاً منها للعقبات التي تواجه هدف الدفاع المشترك، زادت بعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا وبولندا بشكل كبير من موازناتها الدفاعية عقب العدوان الروسي على أوكرانيا، ما أدى إلى ما يشبه سباق تسلح. 
وقد أعلنت برلين بالذات زيادة مفاجئة ضخمة في الإنفاق العسكري ستصبح معها، إن تحققت، أكبر دولة في أوروبا من حيث الإنفاق العسكري، والثالثة عالمياً بعد الولايات المتحدة والصين.  

لكن تلك الزيادة في حد ذاتها لا تعني أن القدرات العسكرية لألمانيا سترتفع بالوتيرة نفسها لزيادة الإنفاق، وذلك بسبب سنوات من الإهمال  والعزوف السياسي عن بناء القدرات العسكرية، ما ترك القوات المسلحة الألمانية متخلّفة كيفياً وتنظيمياً، وفي جانب المعنويات على وجه الخصوص. 

 أزمة التصنيع 

أثبتت الحرب في أوكرانيا أن الحرب التقليدية الطويلة توقع عدداً كبيراً من الضحايا (من عسكريين ومدنيين)، وأنها تتكئ بقوة على شبكة التصنيع الوطنية، وعلى التطور التقني، والقدرة على الإنتاج السريع لتعويض استنزاف المعدات والناقلات والذخائر.  

فالحرب الروسية الأوكرانية حرب استنزاف حقاً، ولا سيما في الذخائر، حيث تستهلك روسيا كل يوم نحو عشرين ألف قذيفة، مقابل ستة آلاف إلى عشرة آلاف من أوكرانيا. وفي هذا السياق فإن المدفعية هي القوة المؤثرة الرئيسية في الميدان، وهي مسؤولة عن نحو 80% من الإصابات البشرية.  

ويناظر هذا الوضع بشكل لافت نزاعات أخرى في القرن العشرين: فالبريطانيون أطلقوا 1.7 مليون قذيفة في الأسابيع الثلاثة الأولى من معركة السوم عام 1916، وفي الحرب الكورية (1950-1953) كانت القوات الأميركية تطلق 14 ألف قذيفة يومياً، مقابل 3400 قذيفة من جانب القوات الصينية، واستهلكت أميركا 580 ألف قذيفة في توغلها في كمبوديا عام 1970 والذي دام شهرين.  

يشكل النزاع الأوكراني تحذيراً واضحاً للدول الغربية بشأن المخاطر الخفية الناشئة عن التقليص الحاد في القدرة التسليحية، وبشأن التضحية بالفعالية سعياً للتوفير. وتستند هذه الاستراتيجية إلى افتراضات غير صحيحة بشأن حروب المستقبل، وقد تأثرت بإرث عشرين سنة من النزاعات منخفضة الشدة (وخاصة في العراق وأفغانستان)، وبالاعتقاد أنه لن تحدث نزاعات تقليدية على أرض أوروبا.   

وفي هذا الوضع، يجب على الدول إما أن تمتلك الطاقة الإنتاجية لصنع كميات ضخمة من الذخائر، وإما أن تمتلك صناعات أخرى بمقدورها التحوّل سريعاً إلى الإنتاج الحربي. وللأسف، فإن الغرب لم يعد يملك هذه أو تلك.

تمثل سلاسل الإمداد أيضاً مشكلة لأن بعض المكوّنات الفرعية قد يتم تصنيعها من جانب جهة متعاقدة قد تكون توقفت عن الإنتاج، أو توجهت ناحية جهة إنتاجية مختلفة. وما يزيد الطين بلة الاعتماد الزائد على مزوّدين خارجيين قد يكون مركزهم في دول أصبحت معادية.

وأبرز النزاع الأوكراني مجدداً الموقف الهش للاتحاد الأوروبي في مجال الطاقة، وخاصة ما يتعلق بما يستورده من روسيا.  

الاعتماد الزائد على الخارج سببه الرئيسي هو حاجة أوروبا إلى النفط والغاز، إذ إن 97% من النفط و83% من الغاز مستورد من الخارج، فيما يقل استيراد الفحم الحجري عن تلك النسبة.

وحتى فبراير 2022،كانت موسكو المزود الرئيسي للاتحاد الأوروبي، وكان النفط الروسي يغطي ربع الاحتياجات الأوروبية.  

في عام 2021 استوردت دول الاتحاد الأوروبي 27% من نفطها و45% من غازها من روسيا. وعقب غزو أوكرانيا، تبنى الاتحاد الأوروبي، في 18 مايو 2022، خطة "ريباور إي يو" (REPowerEU) لتقليل الاعتماد على روسيا. 

وتستند هذه الخطة إلى دعائم أربع: الترويج لمصادر الطاقة المتجددة، وتوفير استهلاك الطاقة، والاتجاه إلى مزوّدين آخرين لتعويض الطاقة الروسية، وتنويع الاستثمار. وشملت الخطة زيادة كبيرة في استيراد الغاز المسال من الولايات المتحدة، وزيادة في الواردات عبر الأنابيب من مصادر أخرى كالنرويج وبلدان شمال إفريقيا وحوض بحر قزوين.    

لكن سنوات كثيرة ستمر قبل أن تحقق أوروبا الاستقلال من حيث الطاقة، علاوة على قطاعي الغذاء والدفاع.       

تعاون بين إقليمين متباعدين

وفي هذا السياق تتحرك بعض الدول الأوروبية خارج منظومة الاتحاد الأوروبي لتوسيع شبكتها الدفاعية، وهذه هي الحال في مشروع الـ GCAP، "برنامج القتال الجوي العالمي"، الذي تشترك فيه بريطانيا وإيطاليا واليابان لتطوير طراز جديد من الطائرات. وهذا المشروع يستند إلى شراكة ثلاثية طموحة في مسعى لتطوير الجيل الجديد من الطائرات المقاتلة بحلول عام 2035. ويتضمن المشروع إنتاج المقاتلة "تيمبست"، ودعمها بطائرات مسيّرة، ومجسات متطورة، وتسليح من الطراز الرفيع، ونظم معلومات مبتكرة. وستكون الطائرة المقاتلة التي ستنتج من خلال هذا المشروع، والتي ستبدأ المرحلة الأولى من العمل في تصنيعها عام 2025، مساوية في القدرات لما يملكه الناتو من طائرات.   
وتشي هذه الشراكة بالروابط المتزايدة بين إقليمين متباعدين: الإقليم الأوروبي الأطلسي، وإقليم المحيطين الهندي والهادئ.  

ويسعى هذا المشروع الثلاثي لتوفير أداة ردع للتوسع المتنامي للصين وحلفائها ولا سيما كوريا الشمالية، وهو شراكة مهمة بين ثلاث دول أعضاء في مجموعة السبع، واثنتان منهما من أعضاء الناتو. نستحضر أيضاً الشراكة بين أستراليا والولايات المتحدة وبريطانيا (التي يمكن أن تضم لاحقاً دولاً غربية أخرى)، والحوار الأمني الرباعي، وهو تحالف غير رسمي بين أستراليا واليابان والهند والولايات المتحدة، والذي انبثق عام 2007 عن مبادرة يابانية بغرض احتواء التمدد الصيني عن طريق التعاون فيما بين الدول الأعضاء، وعقد اجتماعات دورية، والقيام بمناورات مشتركة.

من جهة أخرى، فإن المشروع الثلاثي للمقاتلة "تيمبست" بين اليابان وإيطاليا وبريطانيا يمثل مدخلاً للناتو في الإقليم الهندي الهادئ دون حاجة إلى وجود الناتو رسمياً، وذلك من خلال اثنتين من أهم أعضائه (بريطانيا وإيطاليا). وأخيراً فإن المشروع يظهر تصميم الغرب على المضي قدماً في الحفاظ على التفوق التقني في المستقبل القريب.  

الانسحاب من أفغانستان وما رافقه من بلبلة والحرب في أوكرانيا خلقا تصميماً أوروبياً على التحرك السريع باتجاه مشروع دفاع مشترك. وكان الهدف إيجاد تناغم بين الدور المدني والاقتصادي الأوروبي من جهة، وبين وزن أوروبا الدبلوماسي والعسكري من جهة أخرى والذاكرة الأوروبية تحفظ ضمن تاريخها إنشاء (جماعة الدفاع الأوروبية) في عام 1952، ولعلها تدرك الآن أنه ما كان يجب لتلك المنظمة أن تخفق سريعاً.

ختاماً، يظل خلق "جيش أوروبي" عصياً بسبب معارضة جيوش الاتحاد الأوروبي فرادى، وخشية الحكومات والبرلمانات في الدول الأعضاء على نقل قسط من سيادتها. والبديل قد يكون دمج الوظيفة الدفاعية المشتركة للناتو مع قوة مستقلة تابعة للاتحاد الأوروبي بغرض التدخل في أزمات خارجة عن النطاق العملياتي لحلف شمال الأطلسي، ولكنها تمس المصالح الحيوية للاتحاد الأوروبي. 

لقراءة المزيد من المقالات ضمن هذه السلسلة:

تصنيفات