تحديات داخلية وسباق نفوذ دولي.. أميركا اللاتينية على مفترق طرق

time reading iconدقائق القراءة - 18

هذا المقال جزء من سلسلة "2023.. عام الأسئلة الصعبة".

بقلم:

 الأدميرال المتقاعد أنطونيو روي دالميدا سيلفا 

  • خبير جيوسياسي، وعضو في المجموعة الدولية لتحليل الأزمات بجامعة ساو باولو في البرازيل.
  • أدميرال متقاعد بالبحرية البرازيلية، والمدير السابق للكلية الحربية البرازيلية والعميد السابق للبحوث والدراسات العليا في الكلية الحربية البرازيلية.  
  • حائز على الدكتوراه في العلاقات الدولية بجامعة ريو دي جانيرو، وله العديد من المقالات والأبحاث المنشورة في البرازيل ودول أخرى. وهو كذلك مؤلف كتاب: "Diplomacia de Defesa na Política Internacional" [دبلوماسية الدفاع في السياسة الدولية]. 

و د. دانيلو ماركونديز 

  • أستاذ مساعد في الكلية الحربية البرازيلية (Escola Superior de Guerra-ESG) في ريو دي جانيرو، وباحث متخصص في السياسة الخارجية والدفاعية لأمريكا اللاتينية.
  • حصل  على درجة الدكتوراه في السياسة والدراسات الدولية من جامعة كامبريدج، وحاز كذلك على منح بحثية من المجلس الوطني البرازيلي للتنمية العلمية والتكنولوجية (CNPq) ومؤسسة أبحاث ولاية ريو دي جانيرو (FAPERJ). 

في عام 2022، واجهت أميركا اللاتينية ودول الكاريبي تحديات قد لا يتم تجاوزها تماماً في 2023.  
فعلى مستوى عالمي ما زالت المنطقة متأثرة بنزاع الهيمنة والتسلط القائم بين الولايات المتحدة والصين. وتشكل الأهمية المتعاظمة لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ تحدياً إضافياً، حيث إن أعضاء التحالف المحيط الهادئ: تشيلي، وكولومبيا، والإكوادور، والبيرو يتمتعون بوضع أفضل من البرازيل والأرجنتين في مسألة العلاقات السياسية والتجارة مع القوى الآسيوية الصاعدة كالصين والهند وإندونيسيا.  

وعلى صعيد الإقليم، كان للجائحة أثر حاد على المنطقة، حيث كان نصيب الوفيات بسبب كورونا في أميركا اللاتينية والكاريبي 26% من مجمل الوفيات في العالم. وقد فاقم هذا الأمر من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية المزمنة. لكن تحولات سياسية مهمة قد تغير الحال في البرازيل وكولومبيا والبيرو. 

التنافس الأميركي الصيني

ما زالت الصين الشريك التجاري الرئيسي لأميركا الجنوبية (دون المكسيك وأميركا الوسطى)، وقد أصبحت ثاني أكبر شريك تجاري لأميركا اللاتينية بعد الولايات المتحدة.

فبالإضافة إلى الاستثمارات المباشرة في المنطقة، وخصوصاً في مجالي الطاقة والمواصلات، سعت الصين إلى اجتذاب أميركا اللاتينية للانضمام إلى مبادرة الحزام والطريق. وقد انضمت حتى الآن عشرون دولة في أميركا اللاتينية والكاريبي إلى المبادرة التي تضم في المجمل 147 دولة.

وتسعى الصين إلى تأمين الوصول إلى السلع، لكنها تستعمل قوتها الاقتصادية لعزل تايوان في أميركا الجنوبية والكاريبي، والمنطقة تضم ثماني دول من أصل أربع عشرة دولة في العالم لها علاقات دبلوماسية مع تايوان.    

وباراجواي هي الدولة الوحيدة في أميركا الجنوبية التي ما زالت تحتفظ بعلاقات دبلوماسية مع تايوان، ما يقيد إمكانات عقد اتفاقية تجارية بين الصين وبين "السوق المشتركة الجنوبية" MERCOSUR التي تضم العديد من دول أميركا اللاتينية. وفي السنوات العشر الماضية كانت الصين أكبر شريك تجاري للبرازيل التي تشكل أكبر اقتصاد في المنطقة، بينما الشريك الثاني للبرازيل هو الولايات المتحدة. وتقدر مساهمة الصين في عام 2022 بأكثر من 45% من الفائض البرازيلي الناشئ عن التجارة. 

حاولت الولايات المتحدة أن تبقي أميركا اللاتينية منطقة نفوذ لها، وهي تدرك أن الصين تشكل تحدياً اقتصادياً أكثر مما تشكل تحدياً أمنياً. وحتى الآن تمكنت الولايات المتحدة من الاحتفاظ بسيطرتها في المسائل الأمنية مع معظم دول المنطقة، وذلك عبر آليات دفاعية تتعلق بأمن النصف الغربي من الكرة الأرضية، وخصوصاً من خلال (القيادة الأميركية الجنوبية) التابعة لوزارة الدفاع في واشنطن.      

في مجال الاقتصاد، فالمكسيك هي الشريك التجاري الرئيسي للولايات المتحدة، وحجم تجارتها مع جارتها الشمالية يبلغ 70% من مجمل تجارة الولايات المتحدة مع أميركا اللاتينية. وفي مسعى أميركي لصد التغلغل الاقتصادي الصيني، أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن في القمة التاسعة لدول الأميركتين، في يونيو 2022، عن مبادرة (الشراكة في الأميركتين من أجل الازدهار الاقتصادي) APEP التي تشمل معظم دول المنطقة. ولكن الولايات المتحدة لم تقدم حتى الآن خطة عملية لتفعيل المبادرة.   

هذا التلكؤ الأميركي يساهم في سعي دول المنطقة للتعاون مع شركاء آخرين من الخارج. ومثال ذلك (مجموعة دول أميركا اللاتينية والكاريبي) CELAC. في 2022 واصلت هذه المجموعة علاقتها بالصين، كما عقدت الاجتماع الثالث لوزراء خارجيتها مع الاتحاد الأوروبي بغرض تجديد الاتصال بين الإقليمين لتعزيز التعاون التجاري ومسائل أخرى.   

سوف تستمر أميركا في العام المقبل في مواجهة أكثر من تحدٍّ: موازنة الثقل الصيني اقتصادياً في أميركا اللاتينية والكاريبي، هذه المنطقة التي كانت تعتبر تاريخياً منطقة نفوذ أميركية. وعلى واشنطن أن تتعامل مع النفوذ الروسي في المنطقة. فرغم العلاقات التجارية المحدودة لروسيا مع دول المنطقة، مقارنة مع الصين، فهي مصدر مهم للأسمدة إلى البرازيل والأرجنتين، ولها مصالح تتعلق بقطاعي الطاقة والتعدين في دول أميركا اللاتينية.   

انتخابات وتحديات عام 2022

ثمة ثلاث تحولات سياسية في أميركا الجنوبية في 2022 تستحق وقفة: انتخاب جوستافو بيترو في كولومبيا، وهو أول رئيس يساري للبلاد، وعودة لولا دا سيلفا إلى الحكم في البرازيل، والتطورات الدبلوماسية الجارية في فنزويلا. 

عزز انتخاب بيترو، ودا سيلفا الحكومات اليسارية في المنطقة ضمن ما يدعى بالموجة الوردية الثانية. [الموجة الأولى بدأت عام 2011 مع اكتساح الحكومات اليسارية أميركا الجنوبية، ثم انحسرت الموجة بعد نحو سبع سنوات].  

في حالة كولومبيا، أسهم انتخاب بيترو في بدء مفاوضات مع الجماعة المسلحة (جيش التحرير الشعبي)، وتحسنت العلاقات مع فنزويلا بما في ذلك إعادة فتح الحدود المغلقة منذ 2015.   

ومن ضمن التغيرات نشوء رغبة لدى الولايات المتحدة لفتح حوار مع حكومة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، وتجاوز حالة الخصومة التي سادت أثناء إدارة ترمب. وأهم سبب لهذا التغير الدبلوماسي من جانب واشنطن مشكلة الطاقة التي نتجت عن الحرب في أوكرانيا. كما أن الولايات المتحدة تخشى مزيداً   من التقارب بين فنزويلا وكل من الصين وروسيا وإيران. ولفنزويلا علاقات تعاون مع إيران في قطاعي الأمن والطاقة.  

في يونيو 2022، زار مادورو طهران ووقع اتفاقية تعاون استراتيجي مدتها 20 عاماً مع إيران. ثمة وجود لإيران في المنطقة، ولكن العقوبات الاقتصادية التي تفرضها واشنطن على إيران تقف سداً دون تعزيز الأثر الإيراني. ورغم ذلك فإن إمكانية التوصل إلى اتفاق بشأن النووي الإيراني قد تمكن طهران من زيادة استثماراتها في أميركا اللاتينية.  

في البرازيل، يبدأ الرئيس السابق لولا دا سيلفا (2003 – 2010) فترته الثالثة في الحكم بعد أن تغلب بفارق ضئيل على الرئيس جائير بولسونارو (2019 – 2022) في أكتوبر 2022. ويؤمل في أن يخفف قدوم دا سيلفا التوتر بين السلطة التنفيذية والقضائية، الأمر الذي كان مبعث قلق في فترة بولسونارو. لكن العلاقة بين  دا سيلفا والكونجرس البرازيلي ستكون صعبة، إذ تمكن الساسة اليمينيون بمن فيهم وزراء إدارة بولسونارو، من تأمين مواقعهم في المجلسين. 

 ويتوقع لحكومة دا سيلفا أن تضع المشكلات الاجتماعية ومسألة النمو المستدام ضمن أولوياتها، إضافة إلى زيادة تدخل الدولة في مجال الاقتصاد بما في ذلك وضع حد لخصخصة شركات القطاع العام مثل "بتروبراس"، شركة النفط والغاز البرازيلية العملاقة.    

على صعيد الإقليم، فإن دا سيلفا سيوطد العلاقات الثنائية والمتعددة مع دول أميركا اللاتينية الأخرى. وكانت العلاقات بين البرازيل والدول ذات الحكومات اليسارية وخصوصاً فنزويلا والأرجنتين قد توترت في عهد بولسونارو. وقد تعهد دا سيلفا بإعادة العلاقات مع فنزويلا عندما يباشر الحكم. ويتوقع منه أن يكون فاعلاً في دعم آليات التكامل في الإقليم من خلال تقوية "اتحاد دول أميركا اللاتينية" UNASUR، وتطوير "السوق المشتركة الجنوبية"MERCOSUR . وكانت البرازيل في عهد بولسونارو قد انسحبت من الأولى وأهملت التفاعل مع الثانية. 

وذكر دا سيلفا أيضاً أن البرازيل ستعود للانضمام إلى (مجموعة دول أميركا اللاتينية والكاريبي)  CELAC. 

وعلى صعيد عالمي ستسعى البرازيل إلى الاحتفاظ بموقف متوازن في الخلاف بين الصين والولايات المتحدة. وستكتسي آليات تعاون من قبيل مجموعة BRICS (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا)، ومجموعة IBSA (الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا) أهمية أكبر، علاوة على تقوية العلاقات الدبلوماسية مع دول آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا. وقد أعلن دا سيلفا أنه ينوي رفع مستوى انخراط منصب الرئاسة في الدبلوماسية، وأعلن عزمه زيارة الأرجنتين والولايات المتحدة والصين فور تنصيبه في يناير 2023. ويتوقع منه إحياء آلية الحوار الجنوب أميركي- العربي التي كانت قد بدأت عام 2005 خلال فترته الأولى في الرئاسة. وقد هنأته السعودية والإمارات فور فوزه.  

ومما سيسعى إليه دا سيلفا أن تصبح البرازيل عضواً كاملاً في "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية" OECD. وحتى الآن فإن البرازيل والأرجنتين والبيرو قدمت طلبات انتساب للمنظمة. وبينما كانت وزارة الخارجية البرازيلية غير متحمسة تاريخياً للانضمام لهذه المنظمة، فإن السعي للانضمام أصبح من أولويات عهد بولسونارو. وقد ذكر وزير الخارجية الذي سيعينه دا سيلفا في حكومته المقبلة، السفير ماورو فييرا، أن المفاوضات مع هذه المنظمة دخلت طوراً متقدماً وأنها مبشرة.    

وقد وعد دا سيلفا في خطابه أمام "مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي 2022" COP-27 بوضع التغير المناخي ضمن الأولويات، من أجل تقليل ذوبان الجليد القطبي، ولإرساء ممارسات صديقة للمناخ في الإنتاج الصناعي. ووعد بتحسين التعاون مع إندونيسيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية لحماية ما تبقى من الغابات المدارية البكر في العالم. وقال إن البرازيل ستطور "اتفاقية التعاون في الأمازون" التي تضم الدول الواقعة ضمن حوض الأمازون في أميركا الجنوبية. وقد اقترح في خطابه أمام مؤتمر الأمم المتحدة تحالفاً عالمياً من أجل الأمن الغذائي بغرض مكافحة الجوع والفقر في العالم، هذا مع الحفاظ على البيئة.  

وفي الدول الأخرى بأميركا الجنوبية تعرضت الحكومات اليسارية للاختبار في 2022. في سبتمبر 2022 حاول رئيس تشيلي، جابرييل بوريتش حشد التأييد لدستور جديد، ولكن 62% من الناخبين رفضوا الوثيقة التي اعتبرت "تقدمية"، وكان من شأنها تعزيز الحقوق الاجتماعية، بما في ذلك تحديد مقاعد في الكونجرس للسكان الأصليين. والوثيقة نتاج تباحث جماعي استمر أكثر من سنتين، وتأثرت في صياغتها بسلسلة من القلاقل السياسية التي وقعت في البلاد في أكتوبر 2019. وفي ديسمبر 2022 اتفقت الأحزاب التشيلية على خلق لجنة دستورية جديدة على أن يتم انتخاب أعضائها في أبريل 2023. 

ومؤخراً وجدت الديمقراطية في البيرو نفسها على المحك، ففي أوائل ديسمبر 2022 أعلن الرئيس اليساري بيدرو كاستيو عزمه حل الكونجرس، وأعلن حالة الطوارئ في البلاد. واتهمت المحكمة الدستورية كاستيو بمحاولة الانقلاب، واستقال عدد من الوزراء، وأدان الكونجرس في اجتماع طارئ كاستيو. وجرى اعتقاله وتم تنصيب نائبته رئيسة للبلاد. ونزل المحتجون إلى الشارع مطالبين بإجراء انتخابات للرئيس وللمجلس التشريعي في ديسمبر 2023، بينما كان متوقعاً أن تكون الانتخابات في عام 2026.     

مصاعب العام المقبل

تقوم الصين وروسيا بتحدي النظام العالمي الذي أسسته الولايات المتحدة عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية. لذلك تعتبر الولايات المتحدة وحلفاؤها أن هاتين الدولتين تسعيان لإنهاء النظام العالمي بشكله الحالي. وستظل الخصومة بين الأحلاف من أهم المسائل الدولية في عام 2023.  

الوضع المتنامي للصين في دول أميركا اللاتينية والكاريبي يزيد التعقيد في وجه الدبلوماسية الأميركية التي تواجه عدة تحديات في أماكن أخرى، خصوصاً في الحرب الروسية الأوكرانية، وفي الحاجة الماسة لإعادة آسيا إلى رأس سلم الأولويات ضمن سياستها الخارجية.  

وتتركز مصاعب دول أميركا اللاتينية والكاريبي في العام المقبل في جانبين: فمع تراجع الخطر الذي شكلته الجائحة أصبح لزاماً على هذه الدول التعاطي مع المصاعب الاجتماعية والاقتصادية التي هي من أهم ما يواجه المنطقة، حيث أدت هذه المصاعب إلى عدم استقرار سياسي وعنف داخلي. 

والحكومات اليسارية الجديدة تجد نفسها على مفترق. فعليها أن تفي بما وعدت به في سياق الحملات الانتخابية، وعليها أن تلبي تطلعات الناخبين الذين يأملون في تحسين شروط الحياة في ظل الحكومات الجديدة. وستكون الانتخابات الرئاسية المقبلة في الأرجنتين في أكتوبر 2023 مؤشراً على نجاح ما سمي بالموجة الوردية الثانية.    

التحدي الثاني يتمثل في قدرة دول أميركا اللاتينية والكاريبي على تحقيق التوازن في وضعها الدولي، وهذا يتضمن العلاقات السياسية والاقتصادية مع الولايات المتحدة والصين. ويتمثل جزء من هذا التوازن في الانخراط في منظمات عابرة للأقاليم.  

ولدول المنطقة قدم راسخة في منظمة الأمم المتحدة حيث إن البرازيل عضو غير دائم في مجلس الأمن في 2022-2023. وبعد انتهاء فترة الرئاسة الدورية لمجلس الأمن في أكتوبر 2023 ستتولى البرازيل الرئاسة مما يمنحها فرصة كي تدفع إلى الواجهة بعض القضايا التي تعتبرها ذات أولوية.   

في خضم هذا النظام العالمي المتقلب تكتسي آلية بريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا) مزيداً من الأهمية. وسيكون دور البرازيل في هذا السياق متميزاً، وقد تنضم إلى المجموعة دول أخرى. وحتى الآن فقد قدمت الجزائر والأرجنتين وإيران طلبات للعضوية، غير أن قائمة الدول التي قد تهتم بالالتحاق تضم أيضاً إندونيسيا ونيكاراجوا، والسعودية والإمارات.   

لقراءة المزيد من المقالات ضمن هذه السلسلة:

تصنيفات