العمارة التراثية في مصر.. 3 قرى تحكي قصص تجارب التجديد

time reading iconدقائق القراءة - 9
المناطق المطورة بقرية النزلة التابعة لمحافظة الفيوم في مصر - الشرق
المناطق المطورة بقرية النزلة التابعة لمحافظة الفيوم في مصر - الشرق
القاهرة-ميّ هشام

تجربة تطوير وتنمية تندرج تحت بند العمارة الذاتية أو العمارة المجتمعية يقودها معماري مصري في 3 قرى، الأولى بمحافظة الفيوم، والثانية في محافظة البحر الأحمر، والأخيرة في سيناء، فما قصة هذه العمارة الذاتية أو المجتمعية؟

معمار "الزلعة"

هي قرية صغيرة بمحافظة الفيوم في مصر، اسمها مرادف للحرفة والمهارة في صناعة الفخار، وتعرف أحياناً باسم قرية الفخارين، وأصبحت عنواناً لتجربة معمارية استثنائية، وبدأت عملية تطوير وتنمية لم تحوّلها إلى مدينة حديثة بمعمار غربي لا يألفها أهلها، وإنما عن طريق استلهام عناصر من المعمار التراثي نفسه في تنفيذ حالة معمارية تعتمد على منتج ثقافي أصيل، جرى توظيفه ليناسب احتياجات السكان وبالتعاون معهم.

تُنتج قرية النزلة أبرز الأواني الفخارية المعروفة في مصر، وهي "الزير"، وهو إناء كبير لحفظ المياه وترطيبها في الوقت نفسه، و"القُلّة" وهي عبارة عن إناء للماء أصغر حجماً بكثير من الزير، و"البكلة"و"الدفاية"، وهما من أواني الطعام، و"الزلعة"، وهي آنية خزفية مخصّصة لحفظ الطعام بطريقة تقليدية.

المعماري حمدي السطوحي، أشار إلى أن حكاية تطوير قرية النزلة بدأت عندما طلب الأهالي مشورته لطلاء بضعة مباني شيّدوها حديثاً بالطين الأبيض، لتتماشى مع الطابع المعماري للقرية، ولا تشذّ عنه، لكنه اقترح عليهم فكرة أخرى.

وقال السطوحي لـ"الشرق": "أهل القرية يصنعون المنتجات الخزفية بوسائل تختلف عن أي منطقة أخرى، فعادةً تعتمد صناعة الفخار على تقنية الدولاب الذي يتولى تحريك الطين على قاعدة دائرية لتسهيل تشكيله، أما في النزلة، فصناعة الفخار هي أقرب إلى البناء أكثر منها للتشكيل، إذ يحفر الأهالي جزءاً من الأرض ويتم صبّ نصف كرة من الطين والبناء عليها، بطريقة تبدو سهلة لكنها ليست كذلك، وهي الطريقة الأقرب لصناعة الفخار في الحضارة المصرية القديمة".

وأضاف: "اقترحت على الأهالي استعادة نمط بناء قديم، يعتمد على الطمي الوافد للقرية عبر المصرف الزراعي، والذي يتلقّفه الأهالي قبل أن يصبّ في بحيرة قارون. ومع إضافة قش الأرز، يصبح أكثر مرونة وقابلية لصناعة الفخار، وإعادة إحياء تراث الورش التي كانت تبنى قديماً من الزلع الفخارية".

إحياء أم استنساخ؟

يمتلك السطوحي مفهوماً خاصاً عن استلهام التراث المعماري، فهو يفضّل أن يكون "إعادة لإحياء الثقافة التي أنتجت المعمار، وليس استنساخاً للمنتج الثقافي بشكله القديم دون تطوير".

 السطوحي يتحفّظ على توظيف عناصر التراث كحلية لتزيين المعمار الحديث فحسب، ويرى أن "التطوير يقتضي توظيف المعارف المعمارية الحديثة لتلبية حاجات السكان في الحاضر، وهذا ما حدث في النزلة".

وأوضح: "في الماضي كانت المباني الفخارية لها سقف من الخشب أو الجريد (فروع شجر النخيل)، الذي لم يكن يصمد أمام العوامل المناخية. وما أضفناه هو استخدام فكرة القبّة لتدعيم الجدران وإطالة عمر البناء".

إلى جانب الميزة المعمارية في استخدام الزلعة كوحدة معمارية تؤدي إلى تلطيف الجو وتخفيض درجات الحرارة، يعتبر السطوحي أن "المميّز في تلك التجربة هو أنها أشركت الأهالي في البناء، فبعد أن كانوا فخارين مهرة، أضيفت إليهم ميزة القدرة على البناء بواسطة منتجهم الثقافي الأبرز".

ولفت إلى أن المشروع اعتمد في أعمال الصيانة والترميم، على خبرة كبار السن للتعامل مع الظروف المناخية، "فقد سألنا كبار السن عن ذكرياتهم في أيام الأمطار والسيول، وتعرّفنا منهم على طقس مشاركة الجميع في ترميم الأسطح والجدران المتأثّرة بالمياه عن طريق إعادة بنائها".

وأشار السطوحي إلى أن تلك التجربة تضمنت بناء مركز زوّار يضمّ عدداً من القاعات المتحفية، تبرز أهم منتجات الأهالي من الأواني وأبراج الحمام، فضلاً عن توثيق الأعمال الفنية التي اتخذت من القرية موقعاً للتصوير، مثل فيلم "البوسطجي" (1968) وفيلم "دعاء الكروان" (1959)، ومنافذ البيع، وتجليد الورش بالفخار، التي تعكس حالة متجانسة "تحيي الماضي وتتحرّك نحو المستقبل".

واعتبر السطوحي وهو عضو جهاز التنسيق الحضري وخبير في المركز الدولي للمعالم والمواقع الأثرية، أن "حرص القائمين على مجمع الفيوم للفنون في قرية تونس، على استخدام النسق المعماري ذاته في بناء بوابة لمتحف الكاريكاتير من الزلع الفخارية، مؤشّر على نجاح مشروعه، إذ أنتج لهم حرفة جديدة تميزّوا فيها وأصبحت مطلوبة".

"في حميثرة سوف ترى"

"في حميثرة سوف ترى".. هذه العبارة تلخّص رحلة القطب الصوفي أبو الحسن الشاذلي، الزاهد المغربي الذي عاش في القرن السادس الهجري، رحلة الحج من المغرب إلى مكة، التي انتهت أخيراً في وادي وجبل حميثرة جنوب مدينة مرسى علم في البحر الأحمر، حيث توفي وبُني له ضريح ومسجد في المنطقة، ولاحقاً أطلق على المنطقة قرية أبو الحسن الشاذلي.

وخلاف ما يتعلق بما يعرف بـ"بكرامات الشاذلي"، ومولده الذي يقام سنوياً ويقصده آلاف المريدين، يمكن رؤية تجربة معمارية أخرى، تتشابه مع تجربة قرية النزلة في فلسفتها، وإن كانت تستمدّ روحها من مجتمعها وسكانها.

قال السطوحي الذي صمّم ونفّذ تطوير قرية أبو الحسن الشاذلي بين عامي 2008 و2010، إن "المشروع رُشّح لواحدة من أشهر جوائز العمارة وهي (أغا خان)، ويعمل سكان القرية من بدو العبابدة على خدمة المريدين وزوّار مسجد وضريح الشيخ الشاذلي، وقد جاءت رؤية التطوير من نمط معيشتهم".

المعمار كـ"حكاية"

ما حدث في النزلة وأبو الحسن الشاذلي، مرشّح للتكرار في مشروع إحياء قرية الجبيل التابعة لمدينة الطور في جنوب سيناء، والتي تصلح لأن تكون نموذجاً لتفاعل المعماريين مع الحكاية التاريخية، وضرورة عدم إهمالهم لها.

السطوحي انتهى من تصميمات مشروع إحياء الجبيل ودخل حيز التنفيذ، وعند إعداد التصميم وضع في الحسبان تاريخ المنطقة التي تشتهر بالنخيل والصيد، ويفخر أهلها من البدو بالمشاركة في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، والأنواط والأوسمة التي حصلوا عليها من القيادة المصرية، على خلفية دعمهم للجيش المصري في تلك الفترة".

وأضاف: "لأن البدو معروفين بحبهم للتحدّث، ورغبتهم في رواية ملاحمهم، حرصنا على تصميم محكى ومبنى متحفي لاستعراض آثار السكان وأوسمتهم، كما أسسنا مركز تدريب على الحرف التقليدية للصناعات المتّصلة بالصيد ونواتج النخيل، ملحق به مشغل وحضانة للأطفال، ومبني بنظام الحرملك والسلاملك، اتساقاً مع الطبيعة المحافظة للبدو".

وتابع السطوحي: "أعدنا تخطيط المنطقة التي كانت مؤسسة بشكل عفوي، فأسسنا طريقاً للسياح، وطرقات للسكان، ورفعنا الأطلال المهدّمة للمباني التي كانت على البحر وأعدنا بناءها، وأسسنا شاطئاً للسكان، كي يشعروا بالخصوصية".

واعتبر أن تجربة الجبيل إجابة على سؤال عما إذا كان التراث والسكان المحليين معوقات للتطوير أم لا، موضحاً أنه في باديء الأمر "كان المطلوب بناء سكن بديل وطرح المنطقة للاستثمار والتطوير كوجهة سياحية، غير أن المقترح أشرك السكان في التطوير، الأمر الذي تحمّس له المحافظ، وجهاز تنمية سيناء. ومعلوم أنه عندما تمّ إشراك بدو الجبيل في التطوير، وافقوا طوعاً على هدم 11بيتاً لصالح الطريق السياحي".

دروس "القرنة"

"لا يمكن لشخص واحد بناء بيت بمفرده، ولكن يمكن لـ10 أشخاص بناء 10 بيوت".. تلك الفلسفة المعمارية لشيخ المعماريين الراحل حسن فتحي، لا يمكن فصلها بأي حال عن أي تجربة من تجارب إحياء التراث المعماري، وفقاً للسطوحي.

تجربة حسن فتحي التي تُعرف بـ"عمارة الفقراء" لإعادة بناء قرية القرنة التابعة لمحافظة الأقصر في أقصى جنوب مصر، "جرى اختزالها في بيوت الطين، والقبّة والقبو، غير أنها كانت أبعد من ذلك، بحسب السطوحي الذي يشير إلى أن جوهر تجربة حسن فتحي هو التشاركية في البناء، وفي إحياء الهوية المعمارية، كصورة من صور مقاومة الاستعمار في القرن الماضي.

وأضاف: "أنا سعيد بترميم منزل حسن فتحي والمسجد أخيراً، غير أن الفجوة التي حدثت في مشروع (عمارة الفقراء) هي حالة المقاومة المحلية للنسق المعماري التراثي، فالأهالي اعتقدوا وقتها أن البناء بالخرسانة أكثر قوّة واستدامة".

وأشار السطوحي إلى أن حالة قرية القرنة "كانت مرشّحة للتكرار في قرية النزلة، وبالفعل كان هناك بعض السكان المحليين المتشككين في جدوى الموضوع، لكن في النهاية تحوّلت المناطق المطوّرة إلى قصة نجاح محلية تذكارية، يحرص السكان على اصطحاب أقاربهم وزوارهم إليها في الأعياد، والتقاط الصور فيها".

تصنيفات