هل تغير الانتخابات البلدية أجندة "الوحدويين" في إيرلندا الشمالية؟  

كلما تأخرت عودة الحزب الوحدوي الديمقراطي إلى اتفاق تقاسم السلطة في إيرلندا الشمالية، كلما زادت شعبية "شين فين" (الجناح السياسي السابق للجيش الجمهوري الإيرلندي)، إذ أكدت الانتخابات المحلية الأخيرة هذه النظرية، وفتحت الباب أمام تساؤلات قديمة، بشأن خطط القوميين المؤيدين للوحدة مع إيرلندا على ضوء تحولات حقيقية للمشهد السياسي في بلفاست.  

في تلك الانتخابات، فاز حزب "شين فين" بـ 144 مقعداً في إيرلندا الشمالية، بزيادة 39 مقعداً عن نتائجه عام 2019، وما أن أعلنت النتائج حتى جدد الحزب المؤيد لوحدة الجزيرة الإيرلندية، مطالباته لحكومة لندن بالضغط على "الوحدويين الديمقراطيين" من أجل إنهاء اعتكافهم السياسي والعودة لـ"تقاسم السلطة". 

ويعني عدم تشكيل حكومة في بلفاست، استمرار الحكومة المركزية في لندن في إدارة أوضاع إيرلندا الشمالية. لكن هذا لا يصب في صالح حزب المحافظين الحاكم، ولا يتمنى رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك استمراره، لأنه في نهاية المطاف يسجل عليه كـ"فشل" بتسوية أزمة داخلية تمس حياة كامل سكان المملكة المتحدة.  

أرقام ودلالات  

وعلى الرغم من أن مقاعد الحزب الوحدوي الديمقراطي لم تنقص في الانتخابات الماضية، إلا أن استطلاعات الرأي كشفت أن تأييد الخطاب القومي في تلك الانتخابات زاد بمعدل نقطتين إلى 42% في إيرلندا الشمالية، كما تؤكد أن عدد المصوتين لحزب "شين فين" تجاوز لأول مرة في تاريخ الدولة، عدد المقترعين للوحدويين.  

وحزب "شين فين" المنادي بوحدة الجزيرة الإيرلندية، وسع من سيطرته على المجالس المحلية، ما يؤكد أن التغير الذي طرأ على المشهد السياسي بعد الانتخابات التشريعية عام 2022، حقيقي ويمضي في البلاد نحو اتجاهات جديدة لا يمكن تجاهلها سواء من أحزاب إيرلندا الشمالية أو الحكومة المركزية في لندن.    

الصحافي المختص بشؤون إيرلندا الشمالية سام ماكبريد، وصف الانتصارات المتكررة لـ"شين فين" بأنها "ليست مجرد أرقام في عدد المقاعد البلدية أو البرلمانية، وإنما هي جملة من الدلالات السياسية تكشف بشكل واضح حجم التراجع في شعبية الأحزاب المؤيدة للوحدة مع المملكة المتحدة".

وقال ماكبريد لـ"الشرق" إن "الأحزاب الوحدوية مجتمعة تحولت إلى أقلية في إيرلندا الشمالية، حيث أن القوميين تفوقوا عليهم بأكثر من 30 ألف صوت في الانتخابات الأخيرة. بشكل عام تراجعت نسبة المصوتين للوحدويين بين المؤهلين للاقتراع، من 53% عام 1970 إلى 40% عام 2023".  

وأشار إلى أن أكثر إشارات الانتخابات وضوحاً تمثلت في مجلس بلدية بلفاست، المعقل التاريخي للحزب الوحدوي الديمقراطي، حيث بات "شين فين" يسيطر على 60 معقداً في المجلس مقابل 17 للوحدويين، موضحاً أن استمرار مشكلة الحكومة في إيرلندا الشمالية يعني ببساطة مزيداً من النفوذ للقوميين مع الوقت. 

تسويف ومماطلة  

المشكلة القائمة منذ الانتخابات التشريعية الماضية، تتلخص في أن الحزب الوحدوي يرفض تقاسم السلطة مع "شين فين" وفق اتفاق الجمعة العظيمة الموقع عام 1998.

وجاء الرفض احتجاجاً على بروتوكول إيرلندا الشمالية المتضمن في اتفاق "بريكست" المبرم بين المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي نهاية عام 2019.  

ولفت الحزب الوحدوي الديمقراطي إلى أن البروتكول جعل إيرلندا الشمالية "بعيدة" عن بقية دول المملكة المتحدة، وقلص من تدفق البضائع والخدمات البريطانية إليها، بالإضافة إلى أنه حافظ على سلطة بروكسل وقوانينها في التعاملات الاقتصادية والنزاعات التجارية بين بلفاست ودبلن، وكأن "بريكست" لم يحدث أصلاً.  

وتعديل البروتوكول عبر "إطار وندسور" الذي وقعته بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي في فبراير الماضي، لم يكن كافياً بالنسبة للوحدويين، لكن ثمة من يعتقد أن اعتكاف الحزب وتعليقه لعمل البرلمان والحكومة في بلفاست، إنما ينطوي على جانب أخر فحواه المماطلة لمنع "شين فين" من تولي السلطة بعد فوزه ببرلمان 2022. 

الباحثة في شؤون إيرلندا الشمالية إيما ديسوسة، قالت إن الانتخابات البلدية الأخيرة كشفت للحزب الوحدوي الديمقراطي "خطأ" سياساته، وقد أدرك في ظل نتائجها أن استمرار اعتكافه عن السلطة يعني "مزيداً" من النفوذ والشعبية للقوميين، وبالتالي خسارة محققة له في الانتخابات التشريعية المقبلة إذا أجريت مبكراً.  

ولفتت ديسوسة في حديث مع "بي بي سي" أخيراً، إلى أن رئيس الحزب الوحدوي جيفري دونالدسون، بات يدرس إنهاء مقاطعة حزبه للعمل السياسي في إيرلندا الشمالية، مشيرة إلى أنه يبحث عن مخرج مناسب للأمر لا يحرجه أمام القاعدة الشعبية، وبقية الأحزاب التي تقف مع "الوحدوي الديمقراطي في خندق واحد".    

حدود القوميين وانتصارهم  

موقع "سلوكير أو توول"، نشر تحليلاً من 3 أجزاء لنتائج الانتخابات البلدية الأخيرة في إيرلندا الشمالية، أفاد بأن القوميين باتوا التجمع الأكبر في 13 من أصل 15 مركزاً في البلاد، وهو ما يظهر ميلاً شعبياً واضحاً تجاه السياسة التي يتبعها حزب "شين فين" وحلفائه، وفقاً لرئيس الموقع مايك فيلتي.  

ولفت فيلتي إلى أنه "رغم أن الحزب الوحدوي لم يفقد مقاعده في الانتخابات البلدية الأخيرة، لكن الخسارة التي مني بها حلفاؤه من الوحدويين، تنعكس عليه في نهاية المطاف، فتمدد حزب (شين فين) على حساب التيار المؤيد للوحدة مع المملكة المتحدة يعني تصاعد فكرة القومية ومشروع التوحد مع جمهورية إيرلندا".   

وشدد على أن القوميين يدركون أن "الاحتفال بالنصر على الوحدويين لا زال مبكراً وهم يمارسون تحفظاً كبيراً في التعبير عن توجهاتهم الانفصالية في الوقت الراهن، هم فقط يركزون على الحاجة لإدارة شؤون البلاد ويحرضون ضد تمنع الوحدويين عن تشكيل الحكومة في بلفاست".  

وقال رئيس الحزب الوحدوي جيفري دونالدسون إن حزبه "لا زال قوياً وليس من السهل إقصائه عن المشهد السياسي"، وبينما يؤيد فيلتي كلام دونالدسون، يجد أنه من الصعب التكهن بما قد يستجد على الساحة المحلية، خاصة أن لندن اليوم لا تدعم الوحدويين في بلفاست كما كان الحال قبل وصول سوناك إلى رئاسة الحكومة. 

العلاقة مع بريطانيا  

أصابع الاتهام في المشكلة الراهنة في إيرلندا الشمالية، توجه إلى رئيس الوزراء البريطاني الأسبق بوريس جونسون، عندما دعم بشكل مبطن تعليق الوحدويين مشاركتهم في اتفاق تقاسم السلطة بعد انتخابات برلمان بلفاست عام 2022، إذ كان حينها يسعى إلى تعطيل البروتوكول المتضمن في اتفاق "بريكست" مع الاتحاد الأوروبي.  

ويرى الباحث في الشأن البريطاني جونثان ليز، أن سياسة سوناك تختلف في التعامل مع ملف إيرلندا الشمالية بشكل كامل، إذ أثبت ذلك عبر توقيعه "إطار وندسور" التصالحي مع بروكسل، كما يؤكد باستمرار سعيه لإنهاء الأزمة، من خلال مطالبة الوحدويين بالعودة عن تعليق مشاركتهم في حكومة يقودها حزب "شين فين".    

وأوضح ليز لـ"الشرق" أن لندن "لا تساند الحزب الوحدوي اليوم كما كان يفعل جونسون، وبالتالي من غير المستبعد أن يدعو سوناك إلى انتخابات مبكرة في إيرلندا الشمالية، إن لم يتراجع الوحدويون عن اعتكافهم السياسي خلال فترة قصيرة، حتى لو جلبت هذه الانتخابات مشكلات إضافية لحزب المحافظين".

وشدد ليز على أن اتفاق "الجمعة العظيمة" ينص على تقاسم القوميين والوحدويين للسلطة أياً كانت نتائج الانتخابات التشريعية. وبالتالي لا توجد ضمانات لدى سوناك بأن يضطر الحزب الوحدوي إلى تغيير موقفه الرافض لـ"إطار وندسور" بعد خسارة الانتخابات، موضحاً أن الرهان فقط هو على شعبية الحزب، وضغوط سكان إيرلندا الشمالية احتجاجاً على بقاء الوحدويين خارج السلطة، وتجاهلهم مشكلات الناس اليومية والحياتية. 

العناد السياسي   

ويسجل للحزب الوحدوي الديمقراطي تاريخ طويل من العناد السياسي إزاء اتفاقيات وقرارات أبرمتها بريطانيا وبقيت معلقة حتى عدلت وفق ما يناسب رؤية الحزب، إذ أن اتفاق "الجمعة العظيمة" بحد ذاته بقي معلقاً أكثر من 6 سنوات، ولم ينفذ بكامل بنوده إلا بعد تعديله بما يلبي مطالب الحزب الوحدوي في اتفاق "سانت أندرو" عام 2006.  

ونقلت مجلة "بوليتيكو" عن مسؤول في الحزب قوله، إن الوحدويين اعتادوا التمسك بمواقفهم التي يتضح لاحقاً أنها صائبة، لافتاً إلى أن "إطار وندسور" الذي أبرم مع بروكسل في فبراير الماضي، يؤكد أن رفض بروتوكول إيرلندا الشمالية "كان صحيحاً"، وقد دفع بالحكومة البريطانية إلى تعديله بصيغة أفضل من اتفاق 2019.  

ولفت المسؤول إلى أن زعيم الحزب الوحدوي لن يغامر بقبول "إطار وندسور" والعودة إلى اتفاق تقاسم السلطة مع "شين فين"، إلا بعد أن ينال الضوء الأخضر من قادة الحزب، فمحطات عدة في تاريخ الوحدويين دفع فيها زعماء للحزب ثمناً باهظاً بعد تجاهلهم إرادة القاعدة الشعبية، ومواقف أفراد الصف الأول من الحزب.  

وشدد المسؤول على أنه من دون موافقة كبار قادة الحزب على "إطار وندسور"، قد يمتنع الوحدويون عن اتفاق تقاسم السلطة لسنوات، ولن يؤثر في ذلك، خوضهم انتخابات مبكرة وخسارتهم فيها، مشدداً على أن لندن تدرك هذه الحقيقة جيداً، وإن لم تكن مضطرة، لن تدعو إلى إجراء انتخابات مبكرة في إيرلندا الشمالية.  

اقرأ أيضاً: