"زمن استعباد الصين ولّى إلى غير رجعة.. ومن يحاول، سيتحطّم أمام سور الصين العظيم". بهذه الكلمات، أعلن الرئيس الصيني شي جين بينج في خطابه في عام 2021 "بداية عهد جديد، ستكون فيه الصين قوةً عالمية لا تُقهر".
على مدى تاريخها، متى ذُكرت الصين، وُجدت المجاعة. حضارة عظيمة وأمة كبيرة، اعتقد إمبراطورها أنه يحكم كل ما تحت السماء، إلا أنها في الحقيقة، لم تكن يوماً قوة عالمية، تنشر جيوشها عبر القارات وأساطيلها عبر البحار، بل كانت دائماً عُرضةً للغزوات والاحتلال.
لكن، في سبعينيات القرن الماضي، خرج المارد الآسيوي من قمقمه، لتبدأ الصين رحلة صعود سريعة في المشهد العالمي، وسرعان ما أصبحت منافساً للولايات المتحدة، بل ومهدداً لمكانتها، ولم تعد بنظر الكثيرين كتلة بشرية هائلة فحسب، بل اقتصاداً ضخماً، ومنتجات تغزو الكوكب، وقوةً عسكرية متنامية، وأحلاماً بالصعود إلى القمة.
هل تستطيع الصين فعلاً أن تحكم العالم؟
في الحلقة الخامسة من برنامج "سؤال المليار" على "الشرق بودكاست"، والتي ستكون على جزأين، استضافت ميراشا غازي، الدكتور ما هايون الأستاذ في قسم التاريخ بجامعة فروستبرج الأميركية.
حتى نعرف أكثر كيف تُفكّر الصين اليوم؟ وما هي نظرتها إلى نفسها وإلى العالم؟ سنحاول العودة إلى الجذور التاريخية لهذه البلاد التي لم تَحكُم أبداً خارج حدودها.
عودة إلى الجذور
منذ توحيدها كياناً سياسياً واحداً في عام 221 قبل الميلاد، راحت الصين ترى ذاتها، بمعنى ما، حكومة العالم السيادية الوحيدة. صار إمبراطورها يُعامل بوصفه شخصية ذات أبعاد كونية والرابط الأساسي بين البشري والإلهي، ولقاؤه كان يفترض السجود بالركوع، وإيصال الرأس بالأرض تسليماً بطاعته وسلطته العليا.
أما صلاحياته فكانت تشمل، افتراضياً، وفق عقيدة الإمبراطورية، كل ما تحت السماء.
كان النظام العالمي من وجهة النظر الصينية، يعكس تراتبية هرمية كونية، لا تعترف بالندية مع الدول الأخرى، فحتى منتصف القرن الـ19، لم يتم استحداث أي وزارة خارجية صينية. واضطراراً للتعامل مع المتطفلين القادمين من الغرب، أُنشئت آنذاك وزارة جديدة باسم "مكتب إدارة شؤون الأمم".
ورغم أنها لم تحكم العالم إلا في مخيلتها، ثمّة من يعتقد أن الصين، تحاول استحضار تلك العقيدة الإمبراطورية في علاقاتها مع الدول الأخرى، لكن وفق منظور معاصر. وهو ما أوضحه ما هايون: "هذه العقيدة تُشبه الأساطير الصينية. الصين لم تحكم الآخرين قط. على سبيل المثال، لم يعبر الصينيون جبال الهيمالايا أبداً، ولم يحكموا آسيا الوسطى. بالطبع، انتصروا مرة أو مرتين، لكن سرعان ما تم ردهم على أعقابهم. حتى أنهم لم يدخلوا اليابان مطلقاً، ولم يحكموا شبه الجزيرة الكورية. كيف يمكن أن تحكم الإمبراطورية كل ما تحت السماء؟ إنها فلسفة سياسية، يعتقدون من خلالها أن العالم كله يشبه في الواقع وسط الصين. عندما نرى وسط الصين، فإننا نتحدث عن السهل المركزي، لكن اليوم، بالطبع، عندما يتحدث الصينيون عن النظام العالمي، فإنهم يحاولون في الواقع التحدث عن النظام الصيني التقليدي. ما يعني أن الصين كقوة عظمى إقليمية، على كل دول الجوار أن تخضع لها، وتبني علاقة متناغمة معها، والتي غالباً ما تكون هرمية التسلسل".
سور الصين
كان سور الصين العظيم الذي بدأ إنشاؤه تحت حكم أسرة "تشين" في القرن الثالث قبل الميلاد واستمر لألفي عام، حصناً لردع الغزوات الخارجية وحماية سيادة البلاد، إلا أن السور الذي يمتد لمسافة 21 ألف كيلومتر، اعتُبر أيضاً رمزاً للتقوقع والانعزالية الصينية، إذ كان حاجزاً بينها وبقية العالم، ما أعاق لقرون لاحقة، الانفتاح على الأمم الأخرى.
مع ذلك، يبقى تأثير الجدار على العقلية السياسية للصين وعلاقاتها مع الدول الأخرى، قضية معقدة تتطلب فهماً دقيقاً، إلا أن ما هايون يميل إلى ترجيح الفرضية الأولى: "يقول أغلب علماء التاريخ إن سور الصين العظيم كان مخصصاً للدفاع فقط، في حين يرى بعض العلماء الآخرين أنه كان لأغراض التوسع. عندما توسعت الإمبراطورية الصينية، بنت الجدار كما فعل الإغريق القدماء والروس المعاصرون. عندما يغزون أرضاً ما، يبنون حصناً. هناك نظريات مختلفة، لكنني أعتقد أكثر أنه كان لأغراض دفاعية، لأن خارج السور العظيم كان هناك القبائل الرحّل، والمغول، والأتراك، وكل هذه الجماعات القوية في شرق آسيا وآسيا الوسطى، ولذلك، قبل العصر الحديث، كانت القوى الرئيسية المعادية للصين تقريباً هم البدو. وهو وضع مشابه لأي حضارة زراعية".
إنهاء "قرن الذل"
خلال تاريخهم الممتد إلى 5 آلاف عام، لم يكن في عروق الصينيين الكثير من الدماء المحاربة. كانت الصين في الأصل حضارة زراعية مستقرة، توالى على حكمها العديد من السلالات الإمبراطورية، وفي حضارة كهذه، يعشق الناس السلام، ويخشون الحرب. وهكذا، ولأنه من الصعب القيام بالأمرين معاً، ابتعد الصينيون عن مغامرات الحرب ومخاطرها، لكنهم كانوا هدفاً لحروب الآخرين.
وفي المجمل غزت 9 دول الصين، واحتلّت أراضيها لسنوات طويلة، أبرزها الإمبراطوريات المغولية، واليابانية، والبريطانية، والروسية.
أما "عصر الإذلال الصيني" الذي كثيراً ما يستحضره الساسة في بكين، فيُشير إلى الفترة من القرن الـ19 وحتى بداية القرن الـ20، عندما تعرضت الصين لاحتلالات وتدخلات أجنبية، وضغوط استعمارية شديدة. في تلك الفترة توالت الهزائم وأُهينت السيادة، واضطرت الصين إلى توقيع معاهدات مذلة.. كما في حروب الأفيون، والحرب الصينية اليابانية، ما ترك في ذاكرة الصينيين عبئاً ثقيلاً من الشعور بالعار.
وفي الأول من يوليو في عام 2021، قال شي جين بينج بمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني إن "الأمة الصينية لن تسمح مطلقاً لأي قوة أجنبية بالتنمر عليها أو اضطهادها أو استعبادها. ومن يحاول القيام بذلك سينتهي به الأمر، برؤوس محطّمة، ودماء مسفوكة أمام سور الصين العظيم، الذي أقامه مليار و400 مليون صيني".
مجدداً، يفسر ما هايون، أسباب استحضار المسؤولين الصينيين المتكرر لعصر الإذلال: "حسناً، عندما يُشير السياسيون الصينيون إلى قرن الإذلال، فإنهم يقصدون الفترة بين منتصف القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وعلى وجه أكثر دقة الفترة من العام 1840 حتى العام 1940. وعندما استولى الشيوعيون على السلطة في عام 1949، زعموا أنهم سيضعون حداً لكل هذا الإذلال، لأن الصين قبل تلك الفترة واجهت تحديات كبيرة من الاستعمار الغربي والإمبريالية، حيث تعرضت مراراً وتكراراً للهزائم والاستغلال من قبل القوى الأجنبية، بما في ذلك اليابان والدول الأوروبية، وكل القوى الإمبريالية تقريباً. وبعد عام 1949، بالطبع، يمكنكِ أن تتخيل أن هناك الاتحاد السوفيتي كقوة نووية. ولديكِ الصين الشيوعية وتحالفاتها الدولية، حيث اكتسب الشيوعيون نوعاً من الشرعية، وأعلنوا إنهاء (قرن الذل)، وقال ماو تسي تونج أن الشعب الصيني وقف على قدميه".
وأضاف: "بالطبع، عندما يدّعي الرئيس الصيني الجديد، أن بلاده أنهت 100 عام من الذل. إلى حد ما هذا صحيح. لا يمكن أن تتعرض دول كالصين أو الهند أو حتى دولة صغيرة مثل كوريا الشمالية للغزو في هذا القرن. لا يمكن لأي دولة أن تُفكر حتى في غزو كل هذه البلدان. بالطبع، أنهى الصينيون الذل الذي عاشوه، لكن أعتقد أن ادعاءهم المتكرر أنهم أنهوا 100 عام من الإذلال هو أشبه بالدعاية السياسية الداخلية، حيث يحاولون تعزيز الشعبوية والقومية، وبشكل أساسي تصدير صورة مفادها أن الصين عظيمة، ولا يمكن لأحد أن يغزوها"، لكن تابع: "الحقيقة هي أن الصين هي القوة الكبرى الوحيدة التي لا تزال أراضيها غير موحدة، كما هو الحال بوجود تايوان اليوم".
"الصين الشيوعية"
بعد سقوط آخر السلالات الإمبراطورية في عام 1912، عاشت الصين حرباً أهليةً لثلاثة عقود تقريباً، بين قوات حزب "الكومنتانج" القومي وقوات الحزب الشيوعي، ورغم أنها كانت إحدى القوى المتحالفة المنتصرة مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، إلا أنها تمزقت جراء الاقتتال والفوضى الثورية.
انتهت الحرب الأهلية الصينية بهزيمة القوميين وفرارهم إلى تايوان، ثم إقامة دولة هناك، وإعلان الشيوعيين تأسيس جمهورية الصين الشعبية في عام 1945 بقيادة ماو تسي تونج، الذي سرعان ما أعلن العداء للديمقراطية الغربية، ولقيادة السوفيت العالم الشيوعي، وللماضي الصيني المَهين بنظره.
حاول ماو إعادة توحيد الصين، مع السعي لتدمير الثقافة القديمة التي حمّلها مسؤولية ضعف بلاده وتعرضها للإذلال. السنوات الأولى من حقبته، شهدت نهضة اقتصادية عملاقة، ما لبث أن أعقبها أكبر مجاعة في تاريخ البشرية، كنتيجة لمشروع اقتصادي اجتماعي، أُطلق عليه "القفزة العظيمة للأمام"، وهي خطة لتجاوز الغرب من خلال الزراعة الجماعية، إلا أنها أسفرت عن كارثة فظيعة، إذ صادر المسؤولون طعام القرويين الجائعين، وعاقبوا أي شخص يقاوم ذلك.
في الرواية الصينية الرسمية، تُعرف تلك الحقبة التي راح ضحيتها وفق التقديرات، 55 مليون إنسان، بسنوات "الكوارث الطبيعية"، وكأن الطبيعة، وليس الحزب، هي المسؤولة عن تلك المجاعات.
لم تكد تتعافى الصين من تداعيات "القفزة العظيمة"، حتى أطلق ماو في ستينيات القرن الماضي، ثورته الثقافية داخل الحزب الشيوعي، بهدف التخلص من مُعارضيه، ما أدى إلى إزهاق حياة مليون إنسان على الأقل.
وفي كتابه "حظيرة الأبقار: ذكريات الثورة الثقافية الصينية"، يروي الأستاذ الجامعي جي شيان لين: كيف أُرغم على العيش داخل حظيرة للحيوانات، كانت سجناً مؤقتاً في الحرم الجامعي.. ولأنه كمثقف، عدوٌ للطبقة بنظر السلطات الشيوعية، تعرّض للتعذيب من قبل طلابه، وجُلد بسلسلة دراجة، وخضع لشهور من الأشغال الشاقة، كما يروي بنفسه.
رغم كل ذلك، يُمثل ماو اليوم في الصين رمز توحيد البلاد، والبطل الذي استعادة كرامة الصين، وثمّة من يضع شي جين بينج في مقارنة مع ماو.
ولا يرى ما هايون، الأستاذ في قسم التاريخ بجامعة فروستبرج الأميركية، أي تقارب على الإطلاق بين هذين الزعيمين، قائلاً: "بغض النظر إن أعجبنا ذلك أم لا. كان ماو تسي تونج أحد أعظم القادة، ربما يأتي في المرتبة الثانية بعد جوزيف ستالين في الكتلة الاشتراكية خلال الحقبة التي تلت خمسينيات القرن الماضي. لذلك يمكن لنا أن نتخيل الشعبية التي تمتّع بها ماو في العديد من البلدان، ليس داخل المعسكر الاشتراكي فحسب، بل أيضاً في بعض البلدان الإفريقية. بينما عندما ننظر الآن إلى شي جين بينج في كثير من النواحي، نجد أنه يحاول تقليد ماو تسي تونج من حيث الخطاب والسياسات. لكن علينا أن نتذكر أن ماو، على الأقل درس الثقافة الصينية بأكملها، والكلاسيكيات الصينية. إنه شخص مثقف حقاً. ذكي واستراتيجي. إلا أن الزعيم الصيني الحالي في الأساس هو نتاج التنافس على السلطة".
هل ترغب الصين في حكم العالم؟
بعد هذه العرض التاريخي.. يحاول أستاذ التاريخ في جامعة فروستبرج، الإجابة عن سؤال: هل تريد الصين فعلاً أن تحكم العالم؟ "من الصعب حقاً الإجابة عن هذا السؤال، لأننا لأول مرة نشهد قوة عظمى عالمية مثل الولايات المتحدة، بينما في المقابل إذا نظرنا إلى تاريخ الصين، نجد أنها لم تحكم العالم كله أبداً، ولهذا السبب لا أعتقد أن باستطاعتهم أن يُصبحوا القوة الأعظم. ربما تصبح الصين قوة عظمى إقليمية، لكن ليس عالمية. وهناك خلفية تاريخية لصعود الصين إقليمياً، فقد اعتادت أن تكون قوة عظمى شرق آسيا، خاصة في القرن الثامن، عندما كان هناك قوتان عظمتان هما: الإمبراطورية العباسية العربية في الشرق الأوسط، وسلالة تانج الصينية. ومنذ القرن الثامن حتى القرن العشرين، لم تحكم أي أسرة صينية كقوة عظمى عالمية، باستثناء المغول، لكنهم ليسوا صينيين، بل بدو رحّل، وهذا ما جعلهم قادرين على حكم العالم كله تقريباً أو القارة الآسيوية".
وتابع ما هايون "الآن عندما بدأ الصينيون بالصعود مجدداً، أعتقد أنهم حاولوا استعادة دورهم وأمجادهم، وبالطبع موقعهم التاريخي في شرق القارة الآسيوية. ولكي أكون أكثر دقة، أود القول إن الصين تحاول بشكل أساسي استعادة موقعها التاريخي كقوة إقليمية، لكن هذا لا يتعلق بالنية فحسب، بل يتعلق بالقدرة أيضاً. بطبيعة الحال، تريد كل دولة أن تصبح قوة عظمى عالمية، لكن الأمر ليس بالهيّن، فعندما ننظر إلى الحدود الصينية، وإلى التقاليد والثقافة الصينية، نجد أن كل هذه القيود الهيكلية تجعلها قوة إقليمية فقط، ولا يمكن أن تكون قوة عالمية".
"نهضة الصين"
في مطلع سبعينيات القرن الماضي، بدأت الصين تستعيدُ تدريجياً حضورها وقوتها على المشهد الدولي، كان الحدث الأبرز: إقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، أن جمهورية الصين الشعبية هي الممثل القانوني الوحيد للصين في الأمم المتحدة، لتُمنح بذلك مقعداً دائماً في مجلس الأمن، كانت تشغله تايوان، التي طُردت تماماً من المنظمة الدولية.
شكّل ذلك العقد، صفحة جديدة في تاريخ الصين المعاصر.. أما المفاجأة الكبرى، فجاءت مع نهايته، عندما انقلب النظام الحاكم على مبادئه الشيوعية، مُدركاً في لحظة يقظة، أن استمرار النهج الاشتراكي المتصلّب في الاقتصاد، سيقود إلى الفشل.. وأن الطريق إلى النهضة، لا يكون إلا عبر النظام الذي يُطبقه الأعداء الغربيون.. لتستهل بذلك الصين، عصر "الرأسمالية".
وفي عام 1979 تحديداً، أزال الرئيس الصيني دينج شياو بينج، الوصمات الماركسية والكونفوشيوسية ضد طبقة التجار، واللتين كانتا تُجرمان أخلاقياً، الملكية الشخصية ومبدأ الربح، مُطلقاً العنان للصين الجديدة، ذات الهوية القومية، التي تمزج بين الكبرياء من جهةٍ، واستحضار حقبة الإذلال من جهةٍ أخرى، لاستعادة عظمة الإمبراطورية التي كانت تعتقد يوماً أنها تحكم كل ما تحت السماء.
وللّحاق بالغرب، تبنى الحزب الشيوعي، الأفكار الرأسمالية، وعلى رأسها "اقتصاد السوق المفتوح"، ليس كغاية في حد ذاتها، إنما كوسيلة لتحقيق الثروة والسلطة الوطنية.
وسرعان ما حطّمت الصين كل التوقعات.. وحققت نجاحات بات يُشار إليها بالبنان.. وأصبحت المنافس الأشرس للولايات المتحدة، محتلة المرتبة الثانية في قائمة الاقتصادات الكبرى، وربما المرتبة الأولى خلال عقود قليلة مقبلة.
ما هايون لا يعتقد أن استيعاب الصين للحضارة الغربية سيدوم، لأنها كما يعتقد، باتت أكثر انعزالاً: "إذا لم تتحرك على المستوى العالمي، ولم تستطع الانفتاح على الغرب، فعندها لا يمكنك بناء الاقتصاد. ولهذا، خاصة في أواخر سبعينيات القرن الماضي، بدأ الشيوعيون الصينيون في استيعاب دروس السوفيت، وسرعان ما بدأوا في اعتناق الرأسمالية العالمية، لأنها وحدها القادرة على مساعدتهم في بناء اقتصاد مستدام، لكني لا أعتقد أن سياسة الانفتاح هذه ستدوم طويلاً. لقد عادت الصين بالطبع إلى ما يسمى المجد التاريخي، إلا أني لا أعرف حقاً إذا كان بإمكاننا أن نطلق على هذه العودة (الانعزالية) أو الحماية الذاتية. إنها أشبه بعالم عظيم مختلف حاولت الصين بناءه لمواجهة النفوذ الغربي والهيمنة الغربية".
وقال: "الآن، سرعان ما باتت الصين تشعر بعدم الأمان، خاصة في مواجهة الحلفاء الغربيين، والعقوبات التي يفرضونها. والخطر الغربي لا يتعلق بالتهديد العسكري فحسب، بل حتى التهديدات الثقافية، والاتفاق الإبراهيمي، والمسيحية، والإسلام، واليهودية، حيث تحاول الدول الغربية والعربية وبعض الدول الإسلامية بناء هذا التحالف العظيم، بينما تبدو الصين، من هذا المنظور، معزولة جغرافياً واقتصادياً".
الاشتراكية الناجحة ومعركة "تأمين الوطن"
لم تكن الرأسمالية بالنسبة للصين أكثر من نظام اقتصادي، أما القيم الغربية الأخرى، فلا حاجة للمارد الآسيوي بها.. كان الرئيس الصيني دنج شياو واضحاً بقوله ذات مرة، إن "السيادة الوطنية القومية، تبقى أهم بكثير لدى الصين، من حقوق الإنسان"، وعلى خطاه، كثيراً ما كرّر الزعماء الصينيون اللاحقون أن "الحريات والديمقراطية ليست إلا منتجات غربية، الغاية منها غزو الشعوب ثقافياً وفكرياً".
مع ذلك، خشي زعماء الحزب الشيوعي من تحول الشركات الخاصة إلى قوة اقتصادية مستقلة، وهو ما راهن الغرب في اعتباره حصان طروادة إلى الديمقراطية، إلا أن هذا لم يحدث، وبقي النظام الصيني الحاكم محصناً من مخاطر الرأسمالية.
قدّمت الصين نموذجها الخاص، الذي كسر القاعدة القائلة إن "النظام الشمولي" غير قادر على التطور والنمو، ومصيره: إما قيادة بلاده إلى الفشل أو التفكك كما حدث مع الاتحاد السوفيتي، معتبرةً أن الاشتراكية حتى إن لم تكن كاملة، لكنها يُمكن أن تسود، وتكون طريقاً للدول النامية الأخرى، لمحاكاة التحديث وتحقيقه.
في أضيق أشكالها، تريد الصين، مثل أي دولة أخرى، تأمين وطنها ومحيطها المباشر، وضمان احترام حكومتها ونظامها الاقتصادي السياسي دون تهديدات أجنبية، إلا أن "تأمين الوطن" يُصبح محفوفاً بالمخاطر عندما يشمل الرغبة باستعادة تايوان، ولو بالقوة، وتسوية النزاعات الإقليمية بشروطها، إذ تُطالب بكين بأكثر من 80% من بحر الصين الجنوبي، وهو ما استبعدته محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي باعتباره بلا أساس قانوني.
وإلى جانب تايوان، لدى الصين أيضاً نزاعات إقليمية وبحرية: مع الهند، واليابان، والفلبين، وفيتنام، وماليزيا، وبروناي.
ورغم هذه التوترات وطريق تعامل الصين معها، غيرَ أن مسؤوليها يعترضون على التشكيك الغربي في نواياهم، وطموحاتهم المستقبلية، وفي خطابه في عام 2015، أكد شي جين بينج أن الصين ستظل ملتزمة بالتنمية السلمية، قائلاً: "نحن الصينيون نحب السلام. وبغض النظر عن مدى قوتها، لن تسعى الصين أبداً إلى الهيمنة أو التوسع. ولن تُلحق أبداً معاناتها السابقة بأي دولة أخرى".
من الإقليمية إلى العالمية
إلا أن الدولة التي كانت تخفي طموحاتها في السابق أصبحت تؤكدها علانية، إذ أعلن شي جين بينج نفسه، خلال المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي في عام 2017، أن الصين دخلت "عصراً جديداً"، ويجب أن "تحتل مركز الصدارة في العالم".
في الفترة نفسها، لم تتردد وكالة أنباء "شينخوا" الرسمية في تحديد من سيُشكل الشؤون العالمية بمجرد تحقيق النهضة الوطنية للصين بحلول عام 2050، قائلةً: "بعد قرنين من حروب الأفيون، التي أغرقت المملكة الوسطى، في فترة من الأذى والعار، والصين تُحضّر لاستعادة قوتها، والصعود إلى قمة العالم من جديد".
وبينما أشارت "شينخوا" في الوقت نفسه، إلى أن الحلم الصيني هو "تنمية الأمة، وليس الهيمنة".. ذهبت صحيفة "جلوبال تايمز" القومية التابعة للحزب الشيوعي، إلى وصف النضال من أجل الحصول على المرتبة الأولى في العالم، بأنه "حرب شعبية"، لافتةً إلى أن هذا النضال سيكون "شاسعاً وقوياً مثل نهر كبير.. سيكون مداً لا يمكن إيقافه".
بعد وقت قصير من توليه قيادة الحزب الشيوعي الصيني في عام 2012، بدأ شي جين بينج الترويج للحلم الصيني، والذي يُمثل بحسب تعبيره "التجديد العظيم للأمة الصينية".
وحول طموحات الصين المستقبلية، قال ما هايون: "في الواقع، عندما نتحدث عن رؤية 2049، نجدها رائعة حقاً لأسباب عديدة. أولاً، لماذا 2049؟ لأنها تُشير إلى مضي مائة عام على تأسيس جمهورية الصين الشعبية. سيقول السياسيون الصينيون لشعبهم: بعد مئات السنين، سوف تتحد الصين، وتكون أكثر صلابة وقوة وتأثير.. إنها بمثابة صورة رُسمت للشعب الصيني، لكن في الواقع خلال السنوات العشر الماضية، إذا نظرت إلى الاقتصاد والتأثير الصيني، ستجد أنه تراجع، مثل كل شيء تقريباً، سواء دَخْل الأفراد العاديين أو المكانة الدولية، والعلاقات مع البلدان المجاورة، ومن الناحية العسكرية، يمكن للصين أن تكون قوية، بل وأكثر قوة، لكنها لن تستطيع أن تكون أقوى من الولايات المتحدة أو حلف شمال الأطلسي. كما يمكن أن تكون الهند واليابان وكوريا الجنوبية وكوريا الشمالية دولاً قوية. ولهذا السبب، من الصعب حقاً التنبؤ بما سيحدث بحلول عام 2049".
ويعتقد ما هايون، أن هناك احتمالين "الأول هو وقوع كارثة، والثاني الحفاظ على الوضع الحالي من خلال تحسين العلاقات مع الغرب. وعلينا أن نتذكر أن معظم أرباح الاقتصاد الصيني تأتي من الدول الغربية، وليس من إفريقيا أو الدول النامية، فالسوق الصيني تقريباً موجود في الولايات المتحدة واليابان وأوروبا. هذه هي الطريقة التي يكسبون بها المال".
القوة الناعمة
لم يتطلب الأمر للصين، إلا أقل من سبعين عاماً، لتتحول من دولة معزولة إلى واحدة من أعظم الاقتصادات في العالم، لكن منتجاتها التي غزت الدول الأخرى، وليس ثقافتها.
منذ القرن السادس قبل الميلاد، شقّت المعتقدات الكونفوشيوسية طريقها بين الصينيين.. إلا أنها لم تصبح ديانة بالمعنى المعروف.
كما أن المجتمع الصيني ليس مجتمعاً تبشيرياً على غرار المجتمعات المسيحية والمسلمة.
نتحدث عن ذلك في سياق فهم إمكانية أن تُصبح الصين قوة عالمية مقارنة بالنموذج الأميركي.. فأن تكون دولة ما عظمى ومُهيمنة، لا يكفي بمعايير اليوم، امتلاكها فقط لاقتصاد ضخم، وقدرات عسكرية هائلة.. يكفي أن نُلقي نظرة على الثقافة الأميركية أو ما يُمكن تسميته "القوة الناعمة"، والتي تشمل اللغة، والموسيقى، والسينما، والطعام، وصولاً إلى أنماط التفكير.. حتى نرى حضورها الكوني أيضاً، بغض النظر إن كان هذا الحضور سلبياً أو إيجابياً. أما الثقافة واللغة الصينية، فلا تزال، رغم المحاولة، متواضعة الحضور لدى المجتمعات الأخرى. وهو الرأي الذي يتفق معه ما هايون أيضاً.
وقال: "أولاً وقبل كل شيء، عندما نتحدث عن القوة الناعمة، نقصد كل شيء تقريباً. الفنون والثقافة واللغة. دعونا نُفكر الآن في عدد الدول التي تتحدث اللغة الإنجليزية أو حتى الفرنسية مقارنة باللغة الصينية. هذا سبب آخر يجعلني أعتقد أن الصين ليست مستعدة للهيمنة العالمية. حتى من منظور القوة الناعمة. أثبتت معاهد كونفوشيوس لتعليم اللغة الصينية فشلها. بالطبع هو محظور في الدول الغربية، والأسباب ليست فقط سياسية، إذ كيف سيقبل الغرب في مناهجه وجامعاته معهداً يُسيطر عليه الصينيون؟لذلك أثبتت القوة الناعمة الصينية أنها محدودة للغاية. وفي هذا الصدد يمكننا الحديث عن الأعمال الدرامية الشهيرة المدبلجة في الشرق الأوسط مثل الكورية واليابانية، ناهيك عن السينما الهندية والأميركية والأوروبية. وهكذا، يمكن القول إن التأثير الصيني الثقافي ضعيف جداً".
وتابع "رغم ذلك، بالنسبة للعديد من البلدان، وخاصة النامية منها، في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، هناك نظرة مبالغ فيها نحو التأثير الصيني، لأن الناس يتوقعون أن تلعب الصين دوراً أكبر، غير أن الحقيقة قاسية حقاً، إذ لا تستطيع الصين أن تتصرف كقوة عظمى عالمية، وهو ما أدركته بنفسها، وجعلها تحول تركيزها مثلاً من مبادرة الحزام والطريق العالمية إلى مجالها الإقليمي، لا سيما في جنوب شرق آسيا وآسيا الوسطى والدول المجاورة".
وأشار ما هايون إلى أن هناك مبادرة أطلقتها الصين أيضاً، تُدعى "الحضارة العالمية الصينية"، و"عقدت بالفعل عدة مؤتمرات مع الدول العربية، والهند، واليونان، ودول أخرى. أرادت من خلالها أن تقول إننا جميعاً ننتمي إلى الحضارة الآسيوية، مبديةً رغبتها في تعزيز حوار الأديان. هذا جيد، لكن علينا أن نتذكر: كيف يمكن لدولة ما أن تُمثل ثقافة أو ديناً. حتى يومنا هذا، أعتقد أن الدولة الوحيدة التي تدعي أنها تمثل ديناً هي الفاتيكان. إنها السلطة التي تزعم تمثيل الكاثوليكية، لكن لم تدّعِ أي دولة أخرى أنها تُمثل المسيحية. ولم يدّع أي بلد أو حاكم أنه يمثل الإسلام. ولم تدّع أي دولة أنها تُمثل الديانات الأخرى. فكيف يمكن للصين أن تدعي أنها تمثل الكونفوشيوسية مثلاً؟ خاصة أن نظامها شيوعي. لذلك، من الصعب تعزيز الثقافة التقليدية أو القيم الصينية، لكن بالطبع، تريد الصين من خلال كل هذه المشاريع توسيع نفوذها الناعم، خاصة في البلدان النامية".
احتياجات اللحظة الصينية
الصين ليست دولة ديمقراطية.. وأوضاع حقوق الإنسان، والحريات، والعمال، ومتوسط الدخل، ومؤشرات جودة الحياة، ليست كما يطمح الصينيون ربما، لكن مع ذلك.. لا يمكن للتجربة الصينية إلا أن تُثير الاحترام والإعجاب، لأنها، على عكس دول أخرى اعتبرت سكانها الكثر عبئاً، وبطوناً، تحتاج إلى الطعام فقط، نجحت الصين في تحويل هذا العدد الهائل من البشر، الذي لطالما كان جزءاً من فقراء العالم، إلى طاقة إنتاجية جبّارة، حتى بات من يموتون بالتخمة أكثر ممّن يموتون بالجوع.
ولعلّ احتياجات اللحظة التاريخية تفرض على الحكومة الشيوعية في الصين أن تكون أولويتها: إدارة شؤون المليار ونصف المليار نسمة الذين تحكمهم على مساحة تقارب عشرة ملايين كيلو متر مربع، قبل التفكير باستبدال ثقافتها المحلية بقيم الحرية والديمقراطية التي تتبنّاها الليبراليات الغربية.
*الحلقة السابقة من "سؤال المليار"