لماذا تُشعل الصين فتيل حرب تجارية جديدة؟

time reading iconدقائق القراءة - 11
عمال يعملون على خط إنتاج ألواح زجاجية للهواتف المحمولة في مصنع بمقاطعة قويتشو الصينية. 6 مارس 2023 - Reuters
عمال يعملون على خط إنتاج ألواح زجاجية للهواتف المحمولة في مصنع بمقاطعة قويتشو الصينية. 6 مارس 2023 - Reuters
دبي-الشرق

تحثُّ الصين الخطى للخروج من الأزمة الاقتصادية التي عانتها منها لسنوات، ولا سيما بعد جائحة كورونا، وذلك عبر إعادة تنشيط ماكينتها التصديرية الهائلة، وتحديداً في القطاع الصناعي، إلا أن هذه الاستراتيجية، وفقاً لصحيفة "وول ستريت جورنال"، ستُشكل ضغطاً كبيراً على الشركات في جميع أنحاء العالم، وتُثير شبح إشعال فتيل حرب تجارية جديدة.

وتكمن وراء هذه السياسة "حسابات جريئة، لكنها محفوفة بالمخاطر" من قبل بكين التي تعتقد أن "المزيد من الاستثمار في التصنيع، يمكن أن يعيد إلى البلاد حيويتها الاقتصادية، ويعزز قدرتها الصناعية على الصمود"، من دون إثارة الكثير من المقاومة العالمية.

ورأى بعض خبراء السياسات في بكين الذين قدموا المشورة للمسؤولين هناك، أن القيادة الصينية واجهت مفترق طرق حاد خلال العام الماضي، إذ أدى انهيار سوق العقارات إلى تراجع الاقتصاد لمستوى لم يشهده منذ عقود. 

وأمر الرئيس الصيني شي جين بينج المسؤولين، بالتوسع في نموذج التصنيع الذي تقوده البلاد عبر ضخ مليارات الدولارات من الإعانات والاعتمادات الجديدة، ولضمان وصول الرسالة إلى مسؤوليه، استخدم شعار "أنشئوا الجديد قبل أن تتخلصوا من القديم"، أو xian li hou po باللغة الصينية.

وبحسب تقرير نشرته "وول ستريت جورنال"، الخميس، فإن "الجديد" في نموذج شي جين بينج لا يعني التحول إلى نموذج نمو جديد، وإنما "تنقيح فكرته بشأن نوع التصنيع الذي يتعين على الدولة دعمه".

ويدعو هذا الشعار في جوهره إلى بناء الصناعات التي تريد الصين الهيمنة عليها في المستقبل، على غرار السيارات الكهربائية وأشباه الموصلات والطاقة الخضراء، مع الحفاظ في الوقت نفسه على مساحات القوة التقليدية في القطاعات "القديمة"، مثل الحديد الصلب، وتأجيل أي مشاكل تتعلق بالقدرة الفائضة إلى المستقبل.

وكان هذا الشعار ظهر في التقرير الرسمي للمؤتمر الحكومي الذي عُقد في ديسمبر 2023، عندما وضعت الحكومة أجندتها الاقتصادية لعام 2024.

كما كرر الزعيم الصيني الشعار خلال الجلسة التشريعية السنوية التي عُقدت في مارس الماضي، قبيل أسابيع من سفر وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين إلى بكين لتحذير القيادة الصينية من العواقب العالمية المترتبة على فائض القدرة التصنيعية الصينية. 

وقال مستشارو السياسات الصينية لـ"وول ستريت جورنال"، إن هناك مبدأين يحكمان تفكير الرئيس شي جين بينج، أولهما هو أن بكين يجب أن تبني سلسلة توريد صناعية شاملة يمكنها إبقاء الاقتصاد المحلي قيد العمل حال تعرضه لعقوبات من قبل الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، أما المبدأ الثاني فيتمثل في الاعتراض الفلسفي المتجذر على الاستهلاك الذي يُجسّده النمط الأميركي، والذي يعتبره شي جين بينج "ضرباً من التبذير".

ويضع هذا التفكير، وفق الصحيفة، الصين أمام خيارات قليلة بخلاف الاستثمار في الصادرات لتحقيق الاستقرار لاقتصادها الضعيف، ولتوفير فرص عمل لتعويض الخسائر في مجال أعمال البناء وسوق العقارات المحلي.

بداية الدعم الصيني

تُظهر البيانات الرسمية أن أولويات الرئيس الصيني "آخذة في التسرب" من الاقتصاد، إذ تكشف 99% من الشركات الصينية المدرجة في البورصة الآن عن "شكل من أشكال الدعم"، وفقاً لمعهد "كيل" الألماني للأبحاث.

وتنفق الصين نحو 4.9% من ناتجها المحلي الإجمالي على دعم الصناعات، وهي نسبة تفوق بعدة أضعاف ما تنفقه الولايات المتحدة وألمانيا واليابان، بحسب ما يقول سكوت كينيدي الخبير في شؤون الصين بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بالعاصمة الأميركية واشنطن.

من جانبه، أشار كريج ألين رئيس مجلس الأعمال الأميركي الصيني، وهي مجموعة ضغط للشركات الأميركية في الصين، إلى أن "هوس شي جين بينج بالتصنيع كان واضحاً" عندما التقى ألين مؤخراً حاكم إحدى أفقر المقاطعات الصينية التي تعتمد على الزراعة، فعندما سأله عن أولوياته الاقتصادية، ذكر الحاكم أشباه الموصلات، والبرمجة، والتكنولوجيا الحيوية، وصناعة الروبوتات، والصناعات الفضائية، والبطاريات، والسيارات الكهربائية.

ويبدو أن الماكينة الصينية لتقديم الدعم ستواصل عملها على قدم وساق، إذ أعلن بنك الشعب الصيني خلال أبريل الماضي، أنه أقام منشأة جديدة بقيمة 70 مليار دولار تقريباً للمساعدة في تقديم قروض لشركات التكنولوجيا.

وفي الشهر التالي، جمع صندوق صيني وطني يهدف إلى تمويل إنتاج أشباه الموصلات 48 مليار دولار من البنوك المملوكة للدولة وغيرها من مؤسسات الاستثمار المرتبطة بالحكومة.

المزيد من السيارات والكيماويات

عبر سلسلة من المقالات نشرتها صحيفة People's Daily الصينية، خلال مايو الماضي، دافعت بكين عن قدرتها على التصنيع والتصدير باعتبارها "إيجابية للعالم، وليست مشكلة"، مشيرة إلى أن الولايات المتحدة وحلفاءها "يبالغون" بشأن فائض القدرة الصيني لتحقيق مزايا تنافسية لأنفسهم.

وفي خطاب ألقاه خلال اجتماع المنتدى الاقتصادي العالمي في يونيو بمدينة داليان الصينية، قال رئيس الوزراء الصيني لي تشيانج، إن "إنتاج الصين من المركبات الكهربائية المتقدمة، وبطاريات الليثيوم أيون، والمنتجات الكهروضوئية، تلبي الطلب المحلي في المقام الأول، إضافة إلى أنها تثري أيضاً المعروض العالمي".

وأضاف تشيانج أن "المصدر الحقيقي للتفوق التصنيعي الصيني ليس الإعانات الحكومية، إنما حجمه الضخم الذي يساعد في خفض التكاليف".

واعتبرت "وول ستريت جورنال" أن التأثير في كلتا الحالتين "لا مفر منه"، فقد زاد الإنتاج الصناعي الصيني في الربع الأول بنسبة 8%، مقارنة بما كان عليه عندما احتدمت أزمة العقارات نهاية عام 2021، متجاوزاً بأريحية نمو الناتج في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان، وفقاً للبيانات التي جمعها مكتب تحليل السياسات الاقتصادية، وهو معهد أبحاث هولندي.

وأضافت الصين القدرة على إنتاج نحو 40 مليون مركبة سنوياً، على الرغم من أنها تبيع نحو 22 مليون مركبة فقط على المستوى المحلي.

كما تخطط لإنتاج نحو 750 جيجاوات من الخلايا الشمسية خلال العام الجاري، رغم أنها كانت بحاجة إلى 220 جيجاوات فقط على المستوى المحلي في 2023. 

ويُتوقع أن توفر الصين 80% من الإمدادات العالمية الجديدة، خلال العام الحالي، من المواد الكيميائية الأساسية، مثل الإيثيلين والبروبيلين، وذلك رغم تراجع أسعارها في الصين على مدى الـ19 شهراً الماضية، ما يدل على زيادة المعروض منها.

ونقلت الصحيفة عن مايكل بيتيس أستاذ التمويل بجامعة بكين الذي كتب بإسهاب عن اختلال التوازن في التجارة العالمية، قوله: "في حين أنها تنتج ما يقارب ثُلث الإنتاج الصناعي العالمي، فإن بكين تطلب بقوة من بقية دول العالم عدم توسيع حصصها من الإنتاج، وإنما تقليصها"، لافتاً إلى أن "بقية دول العالم تريد العكس، لأن العالم لا يستطيع استيعاب ذلك".

تفشي الآلام

تُعد الولايات المتحدة من بعض النواحي أقل الدول تضرراً بسبب فائض الإنتاج الصيني، لأنها تفرض رسوماً جمركية مرتفعة على العديد من السلع الصينية، ما يساعد في حماية العمال الأميركيين.

لكن هدف الولايات المتحدة من التوسع في التصنيع يصبح غير قابل للتحقيق حال استمرت الزيادة المفرطة في الإنتاج الصيني وخضعت بعض الصناعات، وخاصة الطاقة المتجددة، لمزيد من الضغوط.

في هذا الإطار قالت شركة Qcells العالمية المتخصصة بالطاقة النظيفة والمملوكة لشركة Hanwha الكورية الجنوبية العملاقة، التي تتمتع بحضور قوي في الولايات المتحدة، إنها ونظيراتها يخسرون ملايين الدولارات شهرياً.

ومنحت لجنة التجارة الدولية، وهي وكالة فيدرالية تقوم بتحليل القضايا التجارية، موافقتها المبدئية، في يونيو الماضي، بشأن طلب لمكافحة الإغراق، مدعوم من شركات تصنيع الطاقة الشمسية الأميركية، والذي يزعم أن الخلايا والوحدات الشمسية التي تصنعها الشركات الصينية "تُباع في الولايات المتحدة بأقل من قيمتها السوقية، وتتلقى دعماً غير عادل".

وتتحمل أجزاء أخرى من العالم العبء الأكبر، فقد ألغت شركات صناعة السيارات الأوروبية أكثر من 10 آلاف وظيفة مع وصول المزيد من السيارات الكهربائية الصينية.

وقال أنتونيلو سيوتي رئيس رابطة PET Euroe التجارية الخاصة بصانعي المواد الكيميائية المستخدمة في ألياف البوليستر للملابس والحاويات القابلة لإعادة التدوير، إن "المنتجين يعمدون إلى إلغاء مئات الوظائف مع قيام الشركات بخفض التكاليف والإنتاج للتعامل مع الواردات الصينية".

وفرض الاتحاد الأوروبي أواخر العام الماضي رسوم مكافحة الإغراق على بعض واردات PET الصينية.

ولفت جاكوب جونتر، المحلل في معهد "ميركاتور" لدراسات الصين ببرلين، إلى أنه "في الماضي لم تمانع بعض الدول فائض الطاقة الإنتاجية الصيني، حيث استفادت العديد من الشركات، مثل شركات صناعة السيارات الألمانية، من قدرتها على الوصول إلى قطع الغيار الرخيصة المصنوعة في الصين"، قبل أن يضيف: "أما الآن، فإن الصين توجه سياستها الصناعية إلى قلب الاقتصاد الغربي مباشرة".

سياسة معاكسة

تُمثل استراتيجية الرئيس الصيني "إنشاء الجديد قبل التخلص من القديم"، تحولاً عن السنوات السابقة عندما حاولت بكين، بقيادة جين بينج نفسه في بعض الأحيان، خفض القدرة الفائضة، وليس الإضافة إليها.

وعانت الصين من الطاقة الفائضة المستمرة في الماضي، والتي أثارت في بعض الأحيان غضب شركائها التجاريين بسبب انخفاض الأسعار العالمية للصلب ومنتجات أخرى.

وفي العام 2015 عهد شي جين بينج إلى "قيصره الاقتصادي" في ذلك الوقت، ليو هي، بتنفيذ الإصلاحات التي أدت إلى إغلاق العديد من مصانع الصلب الصغيرة المملوكة للقطاع الخاص، وشركات أخرى.

ولفترة من الوقت بدا وكأن الزعيم الصيني وفريقه الاقتصادي مستعدون أخيراً لمعالجة الإفراط في الإنتاج.

لكن مع تصاعد التوترات مع الولايات المتحدة، وتراجع الاقتصاد الصيني في السنوات الأخيرة، تغيرت آراء الرئيس شي جين بينج، وفق ما قاله مستشارو السياسات الصينية لـ"وول ستريت جورنال".

وأضاف مستشارو السياسات وأشخاص يقدمون المشورة للمسؤولين الصينيين أن هؤلاء المسؤولين ينفون أن البلاد لديها فائض قدرة، لأن بكين لا تريد أن تمنح واشنطن وبروكسل وغيرهما أي مبرر لفرض رسوم جمركية أو اتخاذ أي إجراءات انتقامية أخرى.

ورغم ذلك، أثار بعض أقرب مساعدي الرئيس الصيني المخاوف في الداخل من أن الدعم الحكومي يؤدي إلى فائض إنتاج "ضخم للغاية" في قطاعات من قبيل السيارات الكهربائية والبطاريات، ما يجعل هذه القطاعات أقل جدوى على المستوى التجاري.

وقال يورج ووتكه الرئيس السابق للغرفة التجارية الأوروبية في الصين والشريك الحالي في شركة DGA Group للاستشارات ومقرها واشنطن، إن "الجميع في الصين يصنعون، لكن لا أحد يكسب المال".

تصنيفات

قصص قد تهمك