منذ ما يزيد قليلاً على 201 مليون عام، وقع أحد الانقراضات الكبرى في تاريخ الأرض، إذ اختفت ثلاثة أرباع الأنواع الحية بشكل مفاجئ، وتزامنت هذه الكارثة مع انبعاثات بركانية هائلة أدّت إلى تفكك القارة العملاقة "بانجيا"، التي كانت تضم معظم أراضي الكوكب.
خلال هذه الفترة، اندفعت ملايين الكيلومترات المكعبة من الحمم على مدار نحو 600 ألف سنة، ما أسفر عن فصل القارات التي أصبحت اليوم الأميركيتين وأوروبا وشمال إفريقيا.
ومثَّل هذا الحدث نهاية العصر الترياسي وبداية العصر الجوراسي، إذ ظهرت الديناصورات لتحتل المكانة المهيمنة التي كانت تشغلها كائنات الترياسي.
لغز انقراض العصر الترياسي
ولعدة عقود، دارت نقاشات علمية بشأن الأسباب الدقيقة للانقراض في نهاية العصر الترياسي. وكانت الفرضية الأساسية أن غاز ثاني أكسيد الكربون الناتج عن الثورات البركانية أدّى إلى ارتفاع درجات الحرارة بشكل مفرط، وتسبب في تحمُّض المحيطات، ما جعل الظروف غير قابلة للحياة لكثير من الكائنات.
لكن دراسة جديدة تحدَّت هذه الفرضية، مشيرة إلى أن البرودة، وليس الحرارة، كانت السبب الرئيسي وراء هذا الانقراض.
الدراسة التي نُشرت في "وقائع الجمعية الأميركية للعلوم" Proceedings of the National Academy of Sciences، تشير إلى أن موجات الحمم البركانية الأولى كانت أحداثاً ضخمة ومركزة دامت أقل من قرن، ما أطلق كميات هائلة من جسيمات الكبريتات التي تعكس ضوء الشمس وتبرد الكوكب بسرعة.
"البرودة وليس الحرارة"
وبينما يستغرق غاز ثاني أكسيد الكربون وقتاً طويلاً لتراكم تأثيره على المناخ، فإن تأثير الكبريتات فوري تقريباً، ما أدى إلى فترات شديدة البرودة وقد أدى هذا التبريد السريع إلى القضاء على أعداد هائلة من الكائنات الحية، ورغم أن درجات الحرارة ارتفعت تدريجياً بعد ذلك، إلا أن "الشتاء البركاني" كان هو العامل الأبرز في إحداث الدمار.
ولطالما ارتبط انقراض العصر "الترياسي-الجوراسي" بسلسلة الثورات البركانية العظيمة المعروفة باسم ثوران الأطلسي الوسطى المغناطيسية.
وفي دراسة رائدة عام 2013، قدّم العالم "دينيس كينت" وزملاؤه أدلة حاسمة تربط هذا الانقراض بذلك الحدث.
ودرس كينت انعكاسات أقطاب مغناطيسية في رواسب تسبق الثورات، وأكد أنها حدثت في الوقت ذاته في مناطق متفرقة حول العالم، وحدد العلماء بداية هذه الثورات البركانية عند نحو 201.5 مليون سنة، مع احتمالية للخطأ ببضع عشرات من آلاف السنين.
ثورات بركانية ضخمة
في الدراسة الحديثة، قارن الباحثون ترسبات ثوران الأطلسي المغناطيسية المستخرجة من جبال المغرب، ومنطقة خليج فوندي الكندي، وحوض نيوارك في ولاية نيوجيرسي الأميركية.
وكانت الأدلة الرئيسية هي محاذاة الجسيمات المغناطيسية في الصخور التي سجلت تحولات القطب المغناطيسي للأرض أثناء الثورات البركانية، فنظراً لأن القطب المغناطيسي لا يتطابق تماماً مع محور الدوران، ويغير موقعه قليلاً كل عام، فإن الجسيمات المغناطيسية في الحمم التي تكونت خلال بضع عقود ستميل في الاتجاه ذاته، بينما تلك التي تشكلت بعد آلاف السنين ستشير إلى اتجاه مختلف تماماً.
وأظهرت التحليلات أن ثورات بركانية ضخمة حدثت عبر خمس دفعات رئيسية من الحمم البركانية على مدار نحو 40 ألف سنة، وكل دفعة منها حدثت خلال فترة تقل عن 100 عام، قبل أن يتمكن انحراف القطب المغناطيسي من التأثير على الاتجاهات المغناطيسية في الصخور.
وأدّت هذه الثورات إلى إطلاق كميات هائلة من الكبريتات التي حجبت الشمس وتسببت في انخفاض درجات الحرارة بشكل حاد.
وعندما تتراكم الكبريتات بسرعة في الغلاف الجوي، تتسبب في تبريد سريع ولكنه مؤقت، حيث إن هذه الجسيمات تسقط من الغلاف الجوي خلال عدة سنوات، وتتحلل تدريجياً.
شتاء بركاني
قارن الباحثون سلسلة الثورات البركانية هذه مع انبعاثات الكبريتات من ثورة بركان لاكي في أيسلندا عام 1783، والتي تسببت في خسائر كبيرة في المحاصيل الزراعية بسبب التبريد المؤقت.
ويشير الباحثون إلى أن تأثيرات ثورات الأطلسي كانت أكبر بمئات المرات من تأثير لاكي، ما أدى إلى حدوث شتاء بركاني تسبب في تدمير شامل.
قبل حدوث ثورات الأطلسي البركانية، كانت الأرض تعج بأشكال الحياة المتنوعة التي تميزت بفصائل حيوانات برية وشبه مائية كبيرة، مثل الأقارب القديمة للتماسيح، والسحالي ذات الهياكل الغريبة، والبرمائيات العملاقة، إلى جانب مجموعة واسعة من النباتات الاستوائية.
ومع بداية الثورات البركانية، اختفت هذه الأنواع تدريجياً، لكن الديناصورات الصغيرة المكسوة بالريش، التي كانت موجودة منذ عشرات الملايين من السنين، نجت وازدهرت، لتتطور فيما بعد إلى أحجام أكبر، بالإضافة إلى السلاحف والسحالي الحقيقية والثدييات الصغيرة، والتي ربما نجت بفضل صغر حجمها وقدرتها على الاحتماء في جحور.
ويقول المؤلف المشارك في الدراسة "بول أولسن" عالم الحفريات في جامعة كولومبيا الأميركية، إن مدى تأثير الأحداث البيئية يرتبط بمدى تركيز هذه الأحداث.
ووفقاً لتصريحاته في بيان صحافي للجامعة، تلقت "الشرق" نسخة منه، فإن الانفجارات البركانية الكبيرة المتفرقة على مدى عشرات الآلاف من السنين تنتج تأثيراً أقل من الحجم الكلي للثورات البركانية إذا كانت مركزة في فترة أقل من قرن.
وبهذا الشكل، فإن الانبعاثات البركانية الكبرى في فترة مركزة جداً كانت السبب وراء هذا الانقراض الكارثي.
وتبرز هذه الدراسة فكرة جديدة بشأن كيفية حدوث الانقراضات الجماعية، إذ تشير إلى أن التبريد السريع الناجم عن الكبريتات البركانية كان العامل الرئيسي في إحداث الفناء الجماعي في نهاية العصر الترياسي.
كما تدعم هذه النتائج الفرضية القائلة إن الأحداث البركانية الكبرى قد تكون لها آثاراً فورية وكبيرة على المناخ، وأن هذه الآثار قد تكون مدمرة إذا حدثت بشكل مكثف خلال فترة قصيرة.