قبل نحو 30 مليون سنة من الآن، في سهل عشبي مترامي الأطراف في إفريقيا القديمة، وتحديداً في المكان الذي يُعرف اليوم بالفيوم، جنوب العاصمة المصرية القاهرة، كانت الشمس تحترق في كبد السماء، والرياح تحرك الأعشاب الطويلة في تموجات هادئة. في الأفق، تقف مجموعة من الحيوانات العاشبة ترعى بحذر.
في هذا العالم البدائي، حيث البقاء للأقوى، يقف أحد الكائنات الذي ينتمي لمجموعة منقرضة من الثدييات تُعرف باسم "الهَيَيْنودونتات"، ويعد "سيد المفترسين" في ذلك الزمان القديم.
بأسنانه الحادة وفكيه القويين، يتأهب الهَيَيْنودون للانقضاض على فريسته، ورغم أنه لا يطاردها طويلاً، إلّا أنه يعتمد على سرعته الخاطفة وقوته الجبارة، وبضربة قوية، يقفز ليغرس أنيابه في خاصرتها.
وبعد 30 مليون سنة، وفي نفس السهل العشبي الذي شهد عملية الصيد هذه، انطلق فريق علمي مصري يُعرف باسم "سلام لاب" في بعثة استكشافية إلى منخفض الفيوم، ربيع عام 2020، بينما كان وباء كورونا يعصف بالعالم.
فتح الفريق العلمي هذه البوابة الزمنية التي تكشف عن تاريخ تطور الثدييات في إفريقيا والمنطقة العربية. على مدار أيام، انهمكوا في البحث والتنقيب بين طبقات الصخور التي يعود عمرها إلى نحو 30 مليون عام.
وفي اللحظات الأخيرة، بينما كان الفريق يستعد لإنهاء رحلته ومغادرة الموقع، لفتت بعض الأسنان البارزة انتباه بلال سالم، أحد أعضاء الفريق، بصوت يملؤه الفضول والإثارة، نادى على زملائه، لتبدأ بذلك قصة اكتشاف مذهل.
ومع استمرار عمليات التنقيب، بدأت ملامح جمجمة كاملة تظهر شيئاً فشيئاً، محفوظة في حالة استثنائية. كانت الجمجمة ثلاثية الأبعاد، خالية تماماً من أي تشوهات، مما جعلها اكتشافاً نادراً يُعد بمثابة حلم لكل باحث في مجال الحفريات الفقارية، وفقاً لما ذكرته المؤلفة الرئيسية للدراسة شروق الأشقر، عضو الفريق البحثي "سلام لاب" في تصريحات خاصة لـ"الشرق".
كان الإغلاق يضرب العالم المضطرب في ذلك الوقت بسبب الوباء، ما اضطر رئيس الفريق العلمي هشام سلام فحص تلك الجمجمة عن قرب في منزله. وبأدوات بسيطة؛ عرف سلام أن هذه الجمجمة هي في واقع الأمر "كشف كبير جداً".
مفترسات فعالة
وعلى مدار الأعوام التالية؛ قام الفريق العلمي المصري الأميركي بفحص تلك الجمجمة بشتى الوسائل، ليستنتجوا أن الجمجمة تعود إلى جنس جديد من آكلات اللحوم المنقرضة المعروفة بـ"الهَيَيْنودونتات"، والتي تطورت قبل زمن بعيد من ظهور القطط والكلاب والضباع وبقية آكلات اللحوم التي تعيش بيننا اليوم. وكانت هي المفترسات المسيطرة على بيئات القارة الأفرو-عربية بعد انقراض الديناصورات، إلى أن انقرضت هي الأخرى في نهاية المطاف.
والهَيَيْنودونتات (Hyaenodonta) مجموعة من الثدييات المنقرضة التي كانت من المفترسات العليا في النظم البيئية خلال العصر الباليوجيني والنيوجيني، بين حوالي 60 مليون إلى 10 ملايين سنة.
ورغم أن اسمها قد يوحي بعلاقة مع الضباع (Hyaenidae)، إلّا أنها ليست قريبة تطورياً من اللواحم الحديثة مثل القطط والكلاب، بل تنتمي إلى رتبة مستقلة تُعرف بـالهَيَيْنودونيات وهي جزء من مجموعة أوسع تُسمى الكريودونتات (Creodonta)، وتميزت بخصائص تشريحية جعلتها مفترسات فعالة، مثل تنوع الأحجام من أنواع صغيرة بحجم الثعالب إلى أخرى ضخمة بحجم الأسود أو أكبر، بالإضافة إلى امتلاكها أسناناً قوية متخصصة في تمزيق اللحم وطحن العظام، وفكوك قوية قادرة على توليد قوة عضّ هائلة، فضلاً عن أطراف متكيفة للجري والصيد.
وظهرت هذه الكائنات لأول مرة في أواخر العصر الباليوسيني، وانتشرت في المنطقة الأفرو-عربية وأوروبا وآسيا وأميركا الشمالية، ورغم تشابهها السطحي مع اللواحم الحديثة مثل الذئاب والنمور، إلّا أنها لم تكن من أقاربها المباشرين، إذ انقرضت تماماً تاركة المجال للواحم الحديثة لتصبح المفترسات المهيمنة، ويُعتقد أن أسباب انقراضها تعود إلى التغيرات البيئية خلال العصر الميوسيني، والمنافسة مع اللواحم الحديثة مثل القطط والكلاب، إلى جانب التغيرات في مصادر الغذاء.
وتبقى أحافيرها اليوم شاهداً على التنوع البيئي والتطور الحيوي الذي شهدته العصور الجيولوجية القديمة.
نافذة لدراسة تطور الثدييات
وتعد منطقة الفيوم نافذة مهمة لدراسة تطور الثدييات في المنطقة الأفرو-عربية، حيث توفر تسلسلاً زمنياً يُغطي الانتقال من عصور الإيوسين إلى الأوليجوسين.
وتشير الدراسات الحديثة إلى أن التنوع البيولوجي للهَيَيْنودونتات شهد انخفاضاً ملحوظاً خلال فترة التبريد العالمي المبكر في الأوليجوسين (قبل حوالي 33.9 مليون سنة)، رغم أن المجموعة تعافت بسرعة بعد ذلك.
لكن قبل حوالي (29.5-30 مليون سنة)، واجهت الهَيَيْنودونتات انخفاضاً آخر في التنوع، وهو ما يتزامن مع وجود العينة الأحفورية الجديدة التي عثر عليها أفراد فريق "سلام لاب" في الفيوم.
وفي الدراسة الجديدة المنشورة في دورية "علم الحفريات الفقارية"، أطلق الفريق العلمي بقيادة باحثة الحفريات في الجامعة الأميركية وجامعة المنصورة المصرية شروق الأشقر على الكائن الجديد اسم "باستيتودون سيرتوس" تيمناً بالمعبودة المصرية القديمة "باستيت"، الممثلة على شكل قطة، وتعتبر آلهة الحنان والوداعة عند المصريين القدماء.
إلّا أن هذا الحيوان لم يكن وديعاً على الإطلاق، ففحص الجمجمة يؤكد أنه "آكل للحوم" له أسنان "مثل السكاكين" وأنياب "ضخمة بصورة مُرعبة". وتقول الأشقر في تصريحاتها لـ"الشرق" إن تلك الأنياب كانت قادرة على "طحن عظام الفرائس بمنتهى السهولة".
سلالة أفرو-عربية
بوزنه البالغ نحو 27 كيلوجرام، يُصنف "باستيتودون" ضمن الهَيَيْنودونتات متوسطة الحجم، ويتميز بجمجمة قوية وبنية عظمية صلبة، ومن أبرز سماته التشريحية قصر المقدمة الوجهية، مما يعزز من قوة العضّ، وقلة عدد الأسنان، وهو تكيف شائع بين المفترسات عالية التخصص.
كما يمتلك أسناناً خلفية طويلة وحادة وتحركاً أمامياً للأنياب الأمامية، وهي خصائص تتناسب مع نظام غذائي يعتمد على الافتراس الشديد، وتعكس هذه الميزات قدرة هذا النوع على توليد قوة عضّ هائلة، مما يجعله مفترساً فعالاً ضمن بيئته.
وقال المؤلف المشارك في الدراسة هشام سلام لـ"الشرق"، إن فريقه استخدم طريقة تُعرف باسم التحليل النَشْئِي البيزي لإعادة بناء العلاقات التطورية بين الكائنات الحية، استناداً إلى البيانات الجينية أو التشريحية عبر تطبيق الطرق الإحصائية، التي تأخذ في الاعتبار الاحتمالات السابقة والمعلومات الجديدة للوصول إلى أكثر التفسيرات ترجيحاً لشجرة النشوء والتطور.
ويتميز هذا التحليل بقدرته على التعامل مع التعقيد وعدم اليقين في البيانات التطورية، إذ يُنتج مجموعة من الأشجار التطورية المحتملة، مرتبة وفقاً لاحتمالاتها الإحصائية، مما يسمح بتقدير مدى موثوقية كل فرع من فروع الشجرة.
كما يُستخدم بشكل واسع في علم الحفريات وعلم الأحياء التطوري لدراسة أصول الأنواع، وفهم أنماط الهجرة والانتشار، وتتبع الأحداث التطورية الكبرى، مثل الانقراضات والتكيفات البيئية.
وأظهرت نتائج هذا التحليل أن الكائن الجديد ينتمي إلى السلالة الأفرو-عربية، مع تحديد أصل إفريقي لهذه المجموعة وانتشارها عبر موجات هجرة متعددة خلال الباليوجيني والنيوجيني. كما بيّن التحليل أن أقرب قريب للنوع المكتشف حديثاً هو كائن عاش في عصر الأوليجوسين المبكر، ويُعرف باسم "فالكاتودون شلوسيري"، وهو نوع من الهَيَيْنودونتات المنقرضة، وينتمي لفصيلة تضم مفترسات قوية ذات أنياب حادة وقوة عضّ هائلة.
خطوة محورية لدراسة تطور الهَيَيْنودونتات
ألقت الدراسة الضوء أيضاً على وضع تصنيفي لجنس "تيرودون" كان قد اكتشف سابقاً واعتقد الباحثون بانتشاره في كل من أوروبا وإفريقيا، بينما شكك بعض الباحثين في ذلك.
غير أن الورقة البحثية الجديدة أكدت أن موطن "تيرودون" يقتصر على أوروبا فقط، وهو ما دفع الفريق البحثي إلى إعادة تصنيف نوع آخر كان قد اكتُشف سابقاً، وعاش في غابات الفيوم خلال الحقبة الزمنية ذاتها، ومنحه اسم "سخمتوبس" بدلاً من "تيرودون"، تيمناً بالآلهة المصرية القديمة "سخمت".
والإلهة "باستيت"، التي سُمّي "باستيتودون" تيمناً بها، كانت ترتبط بالمعبودة "سخمت" في الحضارة المصرية القديمة، إذ كانت الأخيرة تُصوَّر برأس أسد، وترمز إلى الغضب والحرب.
وقالت الأشقر، إن هذا الاكتشاف خطوة محورية في دراسة تنوع وتطور الهَيَيْنودونتات، إذ يوفر "معلومات قيّمة" حول التشريح التفصيلي لهذه المجموعة المفترسة، مما يساعد على فهم أنماط افتراسها وتكيفاتها البيئية. كما يُسلّط الضوء على تاريخها الجغرافي القديم من خلال تتبع الهجرة والانتشار الجغرافي بين المنطقة الأفرو-عربية وأوراسيا خلال العصرين الباليوجيني والنيوجيني.