
كشفت دراسة حديثة أن ما يقارب 1.4 مليار شخص يعيشون في مناطق تتعرض تربتها للتلوث الخطير بالمعادن الثقيلة، مثل الزرنيخ والكادميوم والكوبالت والكروم والنحاس والنيكل والرصاص.
وتُظهر النتائج المنشورة في دورية "ساينس"، أن التلوث بالمعادن السامة يمثل تهديداً عالمياً، لكنها تكشف أيضاً عن منطقة عالية الخطورة لم تكن معروفة سابقاً، تقع في أوراسيا عند خطوط العرض المنخفضة.
ومع تزايد الطلب على المعادن الحرجة، من المتوقع أن تتفاقم مشكلة التلوث في التربة، ما يستدعي اتخاذ إجراءات عاجلة لحماية الموارد الطبيعية وصحة الإنسان.
وينشأ التلوث بالمعادن الثقيلة في التربة من مصادر طبيعية مثل الصخور الغنية بالمعادن، أو من الأنشطة البشرية كالتعدين والتصنيع والزراعة المكثفة، وتظل هذه المعادن ثابتة في التربة لعقود، ما يزيد من صعوبة التخلص منها.
ويؤدي التلوث إلى انخفاض إنتاجية المحاصيل، وتدهور التنوع البيولوجي، وتلوث المياه الجوفية، كما يشكل خطراً على سلامة الغذاء بسبب تراكم المعادن في السلسلة الغذائية، خاصة في الحيوانات والمحاصيل الزراعية.
ويمثل التلوث بالمعادن الثقيلة في التربة تهديداً خطيراً وطويل الأمد على صحة الإنسان، إذ يمكن أن تتراكم هذه المعادن السامة، مثل الزئبق والرصاص والكادميوم والزرنيخ، في المحاصيل الزراعية والماشية، لتدخل بعدها السلسلة الغذائية وتصل إلى جسم الإنسان بطرق متعددة، أبرزها تناول الطعام والماء الملوثَين أو استنشاق الغبار الناتج عن التربة الملوثة.
وتكمن الخطورة في أن هذه المعادن لا تتحلل بيولوجياً وتترسب في الأنسجة الحيوية، ما يؤدي إلى تراكمها التدريجي بمرور الوقت.
آثار صحية مدمرة
وقد ثبت أن التعرض المزمن لهذه المعادن مرتبط بآثار صحية مدمرة تشمل اضطرابات عصبية، وضعف في وظائف الكلى والكبد، ومشاكل في النمو لدى الأطفال، واضطرابات في الغدد الصماء، وزيادة خطر الإصابة بالسرطان، وحتى أمراض القلب والشرايين.
كما أن بعض المعادن الثقيلة تؤثر بشكل مباشر على القدرات الإدراكية والمعرفية، وقد تؤدي إلى إعاقات دائمة، لا سيما عند الأطفال والنساء الحوامل، ما يجعل من تلوث التربة مصدر قلق بيئي وصحي عالمي يستدعي استجابة فورية واستباقية.
ورغم أن الدراسات السابقة أشارت إلى انتشار التلوث بالمعادن السامة، إلا أن نطاقه العالمي لم يكن واضحاً بشكل كافٍ، ولتعويض هذا النقص، قام الباحثون بجمع بيانات من 1493 دراسة إقليمية شملت تحليل 796 ألفاً و84 عينة تربة من مختلف أنحاء العالم. باستخدام نماذج التعلم الآلي.
وتوصل الفريق إلى أن ما بين 14% إلى 17% من الأراضي الزراعية العالمية، أي حوالي 242 مليون هكتار؛ ملوثة بواحد على الأقل من المعادن السامة، مع انتشار واسع للكادميوم في آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا.
كما تجاوزت تركيزات النيكل والكروم والزرنيخ والكوبالت الحدود الآمنة في مناطق متعددة، بسبب العوامل الجيولوجية والأنشطة الصناعية.
من بين النتائج المثيرة للقلق، اكتشاف "ممر غني بالمعادن" يمتد عبر قارة أوراسيا عند خطوط العرض المنخفضة، إذ كشفت الدراسة عن ظاهرة واسعة النطاق في أوروبا عند شمال خط العرض 55، الذي يفصل بين الترب الغنية بالمعادن الثقيلة في الجنوب وتلك الفقيرة بها في الشمال.
"ممر المعادن"
المنطقة الغنية بالمعادن السامة في جنوب أوروبا هي جزء من ممر غني بالمعادن يمتد عبر أوراسيا ذات العروض المنخفضة، وافترض الباحثون أن هذا الممر، الذي يمثل إرثاً طويلاً للتأثير البشري، تكوَّن نتيجة تجوية شديدة لصخور غنية بالمعادن، وتأثيرات النباتات التي تضخ المعادن من الأعماق، وانخفاض معدلات الترشيح بسبب الهطول والتضاريس، إضافة إلى تاريخ طويل من التعدين والصهر منذ الحضارات القديمة.
ويُعتقد أن هذا التلوث ناتج عن مزيج من عوامل طبيعية مثل تآكل الصخور الغنية بالمعادن، وعوامل بشرية مثل التعدين القديم، بالإضافة إلى محدودية عمليات غسل التربة بمرور الوقت.
وعند مقارنة هذه البيانات بالتوزيع السكاني، تبين أن ما بين 0.9 إلى 1.4 مليار شخص يعيشون في مناطق عالية الخطورة، حيث تهدد المعادن السامة صحتهم وسبل عيشهم.
وتُظهر نتائج النموذج أن تلوث التربة يحدث على نطاق عالمي، ما يشكل مخاطر كبيرة على كلٍ من النُظم البيئية وصحة الإنسان، ويهدد جودة المياه والأمن الغذائي.
وتشمل تنبؤات النموذج مناطق معروفة بتلوث التربة، بالإضافة إلى مناطق أخرى لم تُوثّق سابقاً كمناطق مثيرة للقلق.
وتم الإبلاغ عن بعض هذه المناطق سابقاً، مثل جنوب الصين والشرق الأوسط، وتمكن الباحثون من رسم حدود مناطق الخطر بشكل متواصل على المستوى العالمي.
واستخدم الباحثون النموذج المعتمد على التعلم الآلي بيانات من المجال العام لتقديم تقييم إقليمي لتلوث التربة، وأظهرت النتائج أن هذه التقنية أداة فعالة للفحص الأولي، يمكن أن تُكمل الطرق التقليدية لرسم خرائط التلوث.
وتقول الدراسة إن المبادرة العالمية الجارية للوقاية من تلوث التربة واستعادتها، والتي تقودها كل من برنامج الأمم المتحدة للبيئة ومنظمة الأغذية والزراعة، يجب أن تُوجَّه إلى تمويل دراسات تلوث التربة في المناطق التي تفتقر إلى البيانات، مثل إفريقيا جنوب الصحراء.
نقص البيانات
تم التحقق من دقة النموذج من خلال سلسلة من تحليلات عدم اليقين، والتي أظهرت خرائط الامتداد المكاني لها أن المجموعة البيانية تُغطي معظم الظروف البيئية جيداً، باستثناء بعض المناطق الأقل تمثيلاً مثل جنوب شرق آسيا وروسيا وإفريقيا، حيث يوجد أعلى معدل للتنبؤات الخارجية.
وبسبب نقص البيانات في الدول النامية والمناطق النائية، لا يزال النموذج يعاني من مستويات مرتفعة نسبياً من عدم اليقين في شمال روسيا، ووسط الهند، وإفريقيا. كما أن تراكيز المعادن في التربة تُظهر تبايناً مكانياً كبيراً، وقد تختلف بشكل ملحوظ في مسافات قصيرة.
واعتمدت الدراسة على متوسط تراكيز المعادن في شبكة تمتد على مسافة 10 كيلومترات، وهو ما يعكس التلوث المنتشر والإقليمي أكثر من الظروف الخاصة بمواقع بعينها.
وقد تكون هذه البيانات كافية لأغراض الفحص الأولي للمخاطر، لكنها غير كافية لدعم إجراءات التخفيف من المخاطر. إذ أن استصلاح التربة يتطلب تقييماً دقيقاً لحجم التلوث أفقياً وعمودياً في المواقع المتأثرة، بالإضافة إلى فهم أفضل لمصادر المعادن، وآليات انتشارها وتحولاتها، ومدى قابليتها للامتصاص الحيوي.
يمكن أن يكون لتلوث التربة تأثيراً عميقاً على الأمن الغذائي العالمي والصحة العامة؛ فبالنسبة للملايين الذين يعتمدون في معيشتهم على ما يُقدّر بـ14 إلى 17% من الأراضي الزراعية الملوثة على مستوى العالم، يمكن أن يؤدي تراكم المعادن السامة في المحاصيل والماشية إلى تراجع التنوع الحيوي والإنتاجية، والتسبب في آثار صحية ضارة، وزيادة حدة الفقر.
كما أن الآثار الجانبية على سلسلة الإمداد الغذائية العالمية لا تزال غير معروفة، خاصة في ظل الديناميكيات الحالية للتجارة العالمية التي قد تُسهم في توزيع المنتجات الزراعية الملوثة حول العالم.
ومن المتوقع أن تستمر هذه المناطق الواسعة من التلوث المعدني السام في التوسع، نتيجة للطلب المتزايد على المعادن الحيوية اللازمة لدعم الانتقال نحو "الحياد الكربوني الأخضر"، وما يتطلبه ذلك من تطوير لأجهزة الطاقة الشمسية وتوربينات الرياح وبطاريات السيارات الكهربائية.
ويدعو الباحثون الحكومات والمزارعين إلى اتخاذ إجراءات فورية للحد من تلوث التربة، مثل تحسين إدارة النفايات الصناعية واعتماد ممارسات زراعية أكثر استدامة. كما يؤكدون على ضرورة تعزيز المراقبة العالمية للتربة، ووضع سياسات صارمة للحد من الانبعاثات المعدنية.
ويأمل الباحثون أن تكون هذه البيانات بمثابة جرس إنذار للعالم "فحماية التربة ليست مسألة بيئية فحسب، بل هي قضية تتعلق بالأمن الغذائي والصحة العامة للأجيال القادمة".