
لقرونٍ كان العالَم الصناعي ينفث ثاني أكسيد الكربون والغازات الدفيئة الأخرى أسرع مما يمكن احتواؤه. وقد دفع تغيّر المناخ والإحباط المتزايد الذي يشعر به المواطنون بشأن الاستجابة غير الكافية الحكومات إلى اتخاذ إجراءات لمواجهة تلك الكارثة، أو على الأقل التصريح بأنها ستفعل ذلك، ومِن ثم تحوّل الشركات لتصبح "محايدة كربونياً"، أو ما يُعرف أيضاً باسم "الحياد المناخي" أو "صافي صفر" من انبعاثات الكربون، أصبح الآن مطلباً قانونياً في بعض الدول، بينما تعكف السلطات الأوروبية على إعداد تشريعات لتصبح أول قارة تتحوّل إلى الحياد الكربوني، حتى إن شركات النفط أصبحت تشارك في مثل تلك الإجراءات.
ما "الحياد الكربوني"؟
يُقصَد بـ"الحياد الكربوني" خفض الانبعاثات إلى أقصى حد، والتعويض عما لا يمكن التخلّص منه. وعلى سبيل المثال، يمكن أن تحفّز الدول استخدام السيارات الأنظف، وتحويل الاقتصادات بعيداً عن التصنيع الثقيل كثيف الإصدار لانبعاثات الكربون، وكذلك التحوّل إلى مصادر الكهرباء الأكثر خضرة مثل الرياح والطاقة الشمسية. كما يمكن للشركات تعديل ممارساتها، لذلك قد يتحوّل مشغّل مركز البيانات إلى الطاقة المتجددة، أو قد تستثمر شركة طيران في إعادة التشجير لتعويض الملوثات التي تصدر عن طائراتها.
كيف يمكن تعويض الملوثين عن الانبعاثات؟
يمكنهم شراء أرصدة "تعويض" الكربون. وتتيح تلك الأرصدة للمالكين إصدار كمية محددة من الغازات الدفيئة، التي يقابلها تمويل مشاريع الحد من الكربون مثل إعادة التشجير. وتوجد أيضاً جهود لتنظيم الأسواق الحالية لتجارة تصاريح التلوّث بحيث تتوفر آلية مماثلة. وقد شهدت التعويضات عن الكربون طفرة خلال العام الماضي مع اعتماد مزيد من الشركات هذا النهج.
مَن يحاول أن يكون محايداً مع الكربون؟
تعهّدت عشرات الدول بالتحوّل إلى "صافي صفر" من الانبعاثات، أو على الأقل تجاوز أهداف خفض الكربون المنصوص عليها في اتفاقية باريس التاريخية لعام 2015 بشأن تغيّر المناخ (انسحب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من اتفاقية باريس). وأصبحت المملكة المتحدة وفرنسا أول الاقتصادات الكبرى التي تُصدِر تشريعات تلزمها الوصول إلى "صافي صفر" من انبعاثات الكربون بحلول عام 2050. ويقترح الاتحاد الأوروبي إصلاح اقتصاده بالكامل لتحقيق الهدف نفسه، كما أعلنت العشرات من المدن والشركات العالمية عن مبادرات محايدة للكربون، إذ أصبحت شركة "ريبوسال" الإسبانية أول شركة نفط كبرى تستهدف حياد الكربون. وتعهدت المباني وشركات الطيران وحتى الأحداث المختلفة بتحقيق الحياد الكربوني، في حين أن مجموعات الاستثمار التي تدير ما يقرب من 4 تريليونات دولار من الأصول التزمت امتلاك محافظ محايدة للكربون بحلول عام 2050.
ما الذي يحفِّز هذ التوجّه؟
يُلقي خبراء المناخ باللائمة في تسريع وتيرة الاحتباس الحراري على التراكم الهائل لثاني أكسيد الكربون وغيره من الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي منذ الثورة الصناعية، ويحذّر العلماء من أنه لن يصبح الفوز في معركة مكافحة تغيّر المناخ ممكناً دون اتخاذ تدابير جذرية لخفض الانبعاثات، ويستمر ارتفاع التلوّث الناتج عن انبعاث ثاني أكسيد الكربون، إذ سجل عام 2019 رقماً قياسياً جديداً. وبحسب وكالة الطاقة الدولية فإنه من غير المرجح أن يبلغ ذروته قبل عام 2040، مدفوعاً بالاستخدام المتزايد للوقود الأحفوري.
كيف ستتحقق تلك الأهداف؟
إن الأمر بحاجة إلى إجراءات حكومية أكثر إلحاحاً لإحداث تغييرات في النقل والبنية التحتية واستغلال الأراضي وكيفية بناء المدن. ووفقاً للجنة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ التابعة للأمم المتحدة، فإنه ينبغي للعالَم استثمار نحو 2.4 تريليون دولار في الطاقة النظيفة كل عام حتى عام 2035 لنقترب من "صافي صفر" من الانبعاثات بحلول عام 2050، مقارنة بمبلغ 1.8 تريليون دولار أُنفِقت عام 2017 على جميع أشكال أنظمة الطاقة. وتقول اللجنة إنه يجب التخلّص من الفحم بالكامل بحلول منتصف القرن تقريباً.
وتضع خطة أوروبا تصوّراً لاستثمارات إضافية في الطاقة والبنية التحتية تصل إلى 290 مليار يورو (320 مليار دولار) بعد عام 2030. ومن ناحية أخرى، أصبح الأفراد قادرين على التحكّم في سير الأمور بصورة أكبر، بالإضافة إلى ازدهار سوق تعويض المستهلك وإن كانت تشوبها بعض الشكوك حول فاعلية بعض الأساليب المتبعة. وتتمثل إحدى الاستراتيجيات الواعدة، التي لا تزال غير مثبتة على نطاق صناعي، في احتجاز ثاني أكسيد الكربون من الملوثين قبل دخوله الغلاف الجوي وتعبئته في التجاويف العملاقة تحت الأرض، وهي تقنية تُعرف باسم "احتجاز الكربون"، كما تشمل التقنيات الجديدة الأخرى استخدام الهيدروجين كوقود.
مَن يراقب القوانين؟
فعلياً، لا توجد جهة محدّدة مسؤولة عن الرقابة. وعلى الرغم من أن اتفاقية باريس تتضمن بعض الرقابة التي من شأنها إخضاع بعض الدول للمساءلة إذا لم تكُن خططها المناخية طموحة بما يكفي، فإنه لا شيء قابل للتنفيذ بموجب القانون على المستوى العالمي. ويشكّل العلماء والمتظاهرون والمنظمات غير الحكومية والمستثمرون المصدر الرئيسي للضغط على الدول للتغيير والتأكد من الوفاء بوعودها حتى الآن. وبالإضافة إلى الدول، فقد كرّس عدد متزايد من الولايات الأميركية التزاماتهم في صورة تشريعات، مما جعل خرق التعهدات أكثر صعوبة.
هل كل هذا مجرد كلام؟
يُعَدّ ذلك السؤال هو الأهم، إذ إن باستطاعة أي دولة أن تجعل بصمتها الكربونية تبدو أصغر من خلال نقل العبء أو التخلص من الصناعات الملوثة التي على أراضيها، ثم شراء هذه المنتجات من مكان آخر. كما أن برامج التعويض عن انبعاثات الكربون عُرضة للخطأ نظراً إلى عدم وجود آلية لضمان مشروعية عمليات الشراء. وكذلك فإنه يمكن للمشرّعين تقديم تعهّدات طموحة، علماً بأنهم سيغادرون منصبهم قبل بلوغ أي مواعيد نهائية حُدِّدت للوفاء بتلك التعهدات. ومن جانبهم، يصف المتشككون الوعود البيئية التي نُفِّذت من أجل الدعاية الجيدة بـ"الغسل الأخضر"، في إشارة إلى تظاهر الحكومات أو الشركات بأنها حريصة على نظافة البيئة. ومع ذلك فإن الرأي العام يتحوّل في أجزاء كثيرة من العالَم كما يتضح إلى موجة عالية من الاحتجاجات، والسياسيون يلاحظون ذلك.
*هذا المحتوى مقدم من بلومبيرغ.