
كان الظلام يخيم على تلك المدينة العتيقة ذات الهضاب السبع، عمّ الهدوء وبدت روما العامرة كأنها منطقة يسكنها أشباح. ارتفع الصوت المدوي لسيارة الإسعاف، وظهرت سيارات عدة تسير بسرعة جنونية قاطعة الطرقات الفارغة ومتجهة إلى مستشفى عام جنوب العاصمة الإيطالية.
داخل السيارة، استلقى رجل سبعيني على الحمالة. وفوق أنفه استقر قناع الأكسجين، كانت حالة الرجل شديدة السوء، يحتاج إلى جهاز تنفس اصطناعي مُلحق بسرير عناية مركزة.
لحسن الحظ، وجد المسعفون جهازاً شاغراً، غير أن حظ السبعيني لم يكن متوفراً لمئات الأشخاص من أبناء جلدته.
فالعالم لم يكن مستعداً لذلك الوباء الذي استشرى وضرب القارات الست المأهولة. وأصاب ملايين حول العالم يحتاج نحو 15% منهم إلى غرف عناية مركزة مزودة بأجهزة تنفس اصطناعي.
قدرات محدودة
خاطبت الحكومات المصنعين دون جدوى. فالقدرات التصنيعية الحالية مجتمعة لا يمكن أن تمد العالم أجمع بأكثر من 77 ألف جهاز تنفس اصطناعي في العام الواحد، وهو رقم ضئيل إذا علمنا أن ولاية نيويورك الأمريكية تحتاج وحدها إلى 30 ألف جهاز إضافي.
نهاية مارس الماضي، أعلنت الشركة العالمية الرائدة في مجال التكنولوجيا الطبية "ميدترونيك" المشاركة العلنية لتصميم أحد أجهزة التنفس الاصطناعي المحمولة والأكثر ثورية.
قالت الشركة في بيان إنها تدرك الحاجة الماسة لأجهزة التنفس الاصطناعي، باعتبارها أجهزة منقذة للحياة في ظل الأزمة العالمية. مؤكدة أنها رفعت إنتاجها من تلك الأجهزة لتلبية الاحتياجات الماسة لها، ورغم ذلك لا تزال الأزمة في أوجها!
فما هو جهاز التنفس الاصطناعي هذا؟ وهل يُمكن بالفعل تسريع عملية إنتاجه؟ لماذا وصل العالم إلى تلك الأزمة؟ وما هي الحلول اللازمة لها؟
يلعب جهاز التنفس الاصطناعي دوراً حاسماً في إدارة حالات المرضى الذين يعانون أمراض الجهاز التنفسي الحادة، والذين يحتاجون إلى المساعدة بسبب عدم قدرتهم على التنفس بشكل فعال. يسمح ذلك الجهاز لرئتي المريض بالراحة والتعافي بينما يقوم هو بوظيفة توفير الأكسجين ومحاكاة عملية التنفس. ودون دعم ذلك الجهاز قد يفقد المرضى حياتهم.
مطلوب 350 ألف جهاز
يحتاج العالم في الوقت الحالي إلى المزيد والمزيد من تلك المعدات، فبعد أن وصل عدد الحالات لأكثر من مليوني ونصف حالة، وبلغ عدد الوفيات قرابة 180 ألفاً، يحتاج العالم إلى نحو 350 ألف جهاز على الأقل كي يتلقى المرضى الرعاية الصحية المناسبة. في حين تؤكد دراسة أخرى صادرة عن الكلية الملكية البريطانية أن نحو 30% من المصابين يحتاجون لتدخل طبي يعتمد على تلك الأجهزة.
ورغم النداءات الواسعة التي وجهها حكام العديد من الدول للمصنعين بضرورة توفير الأجهزة، إلا أن الاستجابة كانت ضعيفة للغاية.
تعتبر أجهزة التنفس الاصطناعي آلات غير معقدة في الأساس، إلا أن عملية تصنيعها تستوجب مجموعة من الإجراءات التي تجعل من إمداد العالم بالعدد المطلوب في الجدول الزمني الضاغط نتيجة تفاقم أعداد الإصابات بشكل يومي أمراً صعباً للغاية.
فبحسب تقرير صادر عن مؤسسة World Economic forum، يحتاج كبار المصنعين إلى إعادة تصميم خطوط إنتاجهم بالكامل قبل أن يتمكنوا من توفير تلك الأجهزة، كما يجب عليهم في الآن ذاته ضمان إنتاج فعال من حيث التكلفة، مع ضرورة الالتزام بتزويد الأسواق النامية في إفريقيا والدول الفقيرة.
وعززت بعض الشركات بالفعل إنتاجها بنسبة 30-50%، غير أنها لا تستطيع تحقيق النمو المقدر بنحو 500 إلى 1000% اللازم لمنع وفاة عشرات الآلاف. ويقول التقرير ذاته إن الأمر لا يتعلق بحجم المصانع وقدرتها المحدودة نسبياً على التوسع فحسب، ولكن باحتمالية أن تتعرض سلاسل التوريد الخاصة بها لنقص ومشاكل أخرى أثناء محاولتها تلبية الطلب.
ولحسن الحظ، فإن مواجهة هذا التحدي ليست مستحيلة، ولكنها صعبة للغاية. فلمساعدة المرضى، سيحتاج مصنعو أجهزة التنفس إلى دعم سلسلة توريد عالمية للمواد الخام، واشتراك جميع قدرات التصنيع ذات الصلة، ودخول مصانع السلاح مجال تصنيع أجهزة التنفس، تماماً مثلما تعمل شركات الأدوية والباحثون معاً على محاولات إنتاج دواء أو لقاح للمرض.
وبحسب التقرير، يحتاج المصنعون إلى 6 خطوات لإنتاج الأجهزة بالكم المطلوب.
شبكات عالمية
تتمثل الخطوة الأولى في رسم خريطة عالمية لتوريد الأجزاء الدقيقة التي تحتاجها صناعة أجهزة التنفس الاصطناعي. تتكون تلك الأجهزة من أجزاء رئيسية تتواجد في عشرات البلدان حول العالم.
في الأحوال العادية، يتعاقد المُصنعون مع مقاولين فرعيين في تلك البلدان لإمدادهم بتلك الأجزاء.
لكن في حالات الأزمات، يتجاوز الطلب حجم المعروض، لذا يحتاج المُصنع إلى معرفة من أين يمكن الحصول على تلك الأجزاء والمكونات التي من المرجح أن تكون قليلة، كما يحتاج أيضاً إلى تضافر الخبرات لمعرفة ما إذا كانت المكونات النادرة يمكن استبدالها بأجزاء متاحة بسهولة أكبر.
أما الخطوة الثانية فتتعلق بضرورة إنشاء شبكات لوجستية عالمية سريعة الاستجابة تمد المُصنعين بالمواد المطلوبة عبر استخدام الشحن الجوي.
ويأتي حساب الطلب المتوقع ثالثاً، حيث ينمو الطلب في مراكز بؤر كورونا. تساهم مراكز الأبحاث العالمية بتحديثات يومية يمكن استخدامها لإدارة الطلبات على أجهزة التنفس الاصطناعي بشكل عادل وفعال.
أما الخطوة الرابعة فهي ضرورة الاستعانة بالخبراء في مجال التصميم والمصانع الكبيرة للتركيز على صناعة الأجهزة المطلوبة وإعطائها أولوية مطلقة.
وتمثل الخطوة الخامسة التحدي الأكبر، إذ إن أجهزة التنفس الاصطناعي تحتاج إلى أشخاص مدربين للعمل عليها. ويقول التقرير إن السلطات الصحية في الدول المعنية يجب أن تُفعّل برامج تدريبية مقدمة لموظفي الرعاية الصحية لتشغيل أجهزة التنفس الاصطناعي.
وفي حال فشل تلك الجهود، يجب أن ننتقل في الخطوة السادسة إلى خطة البحث عن البدائل، مثل سيارات الإسعاف المجهزة بأجهزة التنفس الاصطناعي كجزء من معداتها القياسية.