"النفايات النووية" مصدر محتمل للطاقة النظيفة في المستقبل

time reading iconدقائق القراءة - 9
عمال في أحد المفاعلات النووية بجمهورية التشيك. 2 مايو 2025 - Bloomberg
عمال في أحد المفاعلات النووية بجمهورية التشيك. 2 مايو 2025 - Bloomberg
القاهرة -محمد منصور

مع تزايد الطلب العالمي على الكهرباء لتشغيل كل شيء من السيارات الكهربائية إلى مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي، يعود الحديث بقوة عن الاندماج النووي بوصفه مصدراً واعداً للطاقة الوفيرة والنظيفة. 

لكن هذا الحلم يصطدم بعقبة كبرى؛ فوقوده، وهو نظير الهيدروجين النادر المعروف بـ"التريتيوم" قليل الوجود وباهظ الثمن. وهنا يقترح فريق من الباحثين الأميركيين حلاً غير متوقع، يتمثل في تحويل النفايات النووية نفسها، إلى مصنع للتريتيوم.

يعد التريتيوم من أهم المواد المستخدمة كوقود للمفاعلات الاندماجية، بسبب خصائصه النووية الفريدة. وتعتمد الفكرة الأساسية في الاندماج النووي، على دفع نواتين خفيفتين للاصطدام والاندماج معاً لتكوين نواة أثقل، مطلقة طاقة هائلة أكبر بكثير من تلك الناتجة عن الانشطار النووي. 

ويعرف العلماء، أن أكثر تفاعل اندماجي واعد من الناحية العملية هو اندماج التريتيوم مع الديوتيريوم وهو نظير آخر للهيدروجين، إذ يتميز التفاعل بكونه يحتاج إلى طاقة أقل لبدء الاندماج مقارنة بوقود آخر، ويُطلق أكبر قدر من الطاقة لكل عملية اندماج، مما يجعله الخيار الأكثر جدوى للمفاعلات التجريبية مثل "توكاماك" و"إيتر".

وعندما تندمج نواة "تريتيوم - بروتون واحد مع نيوترونان" مع نواة "ديوتيريوم - بروتون واحد مع نيوترون واحد"، ينتج عن ذلك نواة "هيليوم 4" المعروف باسم جسيم ألفا ونيوترون عالي الطاقة. ويحمل هذا النيوترون الحر معظم الطاقة الناتجة عن التفاعل، ويمكن امتصاصه في بطانة المفاعل وتحويله إلى حرارة، تستعمل لاحقاً لتوليد الكهرباء. بفضل هذه الخصائص، يعد "ديتيريوم - تريتيوم" الأكثر كفاءة وقابلية للتطبيق ضمن الظروف الحالية للفيزياء والهندسة.

إنتاج التريتيوم

ويحصل العالم على معظم التريتيوم التجاري من مفاعلات انشطار في كندا، في حين أن مخزونه الكوكبي لا يتجاوز نحو 25 كيلوجراماً وهي كمية تكفي لتشغيل نصف مليون منزل لستة أشهر فقط. 

ومن بين الدول القليلة التي تنتج هذا النظير على نطاق تجاري تأتي كندا في الصدارة، وذلك بفضل اعتمادها على نوع خاص من المفاعلات يُعرف باسم مفاعلات كندو التي تعمل بالماء الثقيل كمهدئ للتفاعل ومبرد له، ما يجعلها بيئة مثالية لتوليد التريتيوم أثناء تشغيلها.

ينتج التريتيوم داخل مفاعلات كندو، نتيجة لتفاعل النيوترونات مع الديوتيريوم الموجود في الماء الثقيل. وبمرور الوقت، تتراكم كميات صغيرة من التريتيوم في ماء المفاعل، وهو ما يستدعي استخلاصه لأسباب تتعلق بالأمان النووي وتقليل مستويات الإشعاع. 

لكن هذه الحاجة للتحكم في تراكمه، تحولت إلى فرصة اقتصادية؛ إذ طورت كندا تقنيات صناعية دقيقة لاستخراج التريتيوم من الماء الثقيل بكفاءة عالية، ليصبح مصدراً عالمياً رئيسياً لهذا النظير.

يخزن التريتيوم المستخلص في حاويات آمنة، ويُباع لهيئات بحثية وصناعية، حيث يقدر عمر نصفه بحوالي 12 عاماً، مما يجعله مورداً مستهلكاً يحتاج إلى إنتاج متجدد. وبفضل هذا الإنتاج، أصبحت كندا لاعباً أساسياً في سوق عالمي محدود، حيث تعتمد مختبرات في أوروبا وآسيا والولايات المتحدة على الإمدادات الكندية لتجارب الاندماج النووي.

ومع أن إنتاج التريتيوم في كندا، يتم وفق معايير صارمة من الرقابة النووية والأمان البيئي، إلا أن هناك مخاوف من الاعتماد الكبير على مصدر واحد تقريباً لهذا العنصر الاستراتيجي. فمع تزايد الطموحات نحو بناء مفاعلات اندماج تجريبية وتجارية، قد يصبح الطلب على التريتيوم أعلى بكثير مما يمكن أن توفره المفاعلات الكندية وحدها.

نقص استراتيجي

ولا تمتلك الولايات المتحدة، أي قدرة محلية لإنتاج هذا الوقود الاستراتيجي، بينما يبلغ سعره نحو 33 مليون دولار للكيلوجرام الواحد.

تولد المفاعلات النووية الحالية الطاقة عبر الانشطار، أي شطر ذرات اليورانيوم أو البلوتونيوم لإطلاق طاقة ونيوترونات ما يخلف نفايات مشعة عالية الخطورة تحتاج إلى تخزين آمن طويل الأمد الأمر الذي يثير مخاوف بيئية وصحية. 

أما الاندماج النووي، الذي يدمج نوى ذرات الهيدروجين مثل الديوتيريوم والتريتيوم، فينتج طاقة هائلة كما يحدث داخل النجوم، مع نفايات مشعة أقل بكثير.

ما هو التريتيوم؟

  • التعريف:
    التريتيوم (³H) نظير مشع لعنصر الهيدروجين، يحتوي على بروتون واحد ونيترونين في نواته.

  • التكوين الطبيعي:
    يتكون طبيعياً في الغلاف الجوي العلوي عندما تصطدم الأشعة الكونية بجزيئات النيتروجين.

  • التكوين الصناعي:
    يُنتَج أثناء التفجيرات النووية، وفي المفاعلات النووية كمنتج ثانوي.

  • الوجود في الطبيعة:
    يتفاعل مثل الهيدروجين العادي مع الأكسجين ليكوّن "ماء التريتيوم" (HTO)، وينتشر بسهولة في البيئة لأنه يسلك سلوك الماء.

  • المصادر البشرية:

    • اختبارات الأسلحة النووية فوق سطح الأرض (الذروة في عام 1963).

    • المفاعلات النووية التجارية والبحثية.

    • مصانع إنتاج الأسلحة.

    • التسرب من لافتات الخروج المضيئة المحتوية على التريتيوم عند التخلص منها بشكل غير صحيح.

  • الصحة والتأثيرات:

    • يصدر إشعاع بيتا ضعيف.

    • يدخل الجسم عبر شرب ماء ملوث، استنشاق الغاز، أو امتصاصه عبر الجلد.

    • يتوزع بسرعة في أنسجة الجسم وأعضائه، ويخرج مع البول خلال نحو شهر.

    • "التريتيوم العضوي المرتبط" قد يبقى لفترة أطول في الجسم.

يقترح العالم تيرينس تارنوفسكي، من مختبر لوس ألاموس الأميركي، مقاربة مبتكرة لتسخير النفايات النووية في إنتاج التريتيوم، الوقود الأساسي لمفاعلات الاندماج المستقبلية. فبدلاً من ترك النفايات كعبء ثقيل ومكلف للتخزين، صمم فريقه عبر محاكاة حاسوبية مفاعلاً يعتمد على معجل جسيمات لإشعال تفاعلات انشطار داخل هذه النفايات. ومع انقسام الذرات، تنبعث نيوترونات تدخل في سلسلة من التحولات النووية التي تفضي في النهاية إلى تكوين التريتيوم. 

معجل الجسيمات

ويقول تارنوفسكي، إن الميزة الجوهرية تكمن في أن استخدام المعجل يسمح بتشغيل التفاعل وإيقافه عند الطلب، مما يجعله أكثر أماناً ومرونة من التفاعلات الانشطارية التقليدية التي يصعب التحكم بها.

وتقوم الفكرة الجوهرية في هذه التقنية، على استخدام معجل جسيمات بدلاً من المفاعل التقليدي، إذ يعمل المعجل على توليد حزم من البروتونات أو الجسيمات عالية الطاقة، والتي يتم توجيهها نحو قلب يحتوي على النفايات النووية المخزنة. 

وعندما تصطدم هذه الجسيمات بالنوى الثقيلة الموجودة في تلك النفايات، تحدث ما يشبه الشرارة الأولى التي تُطلق تفاعلات انشطار متسلسلة، لكن بطريقة يمكن التحكم فيها وإيقافها عند الحاجة، على عكس المفاعلات الانشطارية المعتادة التي تعتمد على تفاعل تسلسلي ذاتي.

وخلال عملية الانشطار، تنقسم الذرات الثقيلة مثل اليورانيوم أو البلوتونيوم إلى نوى أصغر، مطلقة سلسلة من النيوترونات الحرة. هذه النيوترونات هي المفتاح الأساسي لتوليد التريتيوم؛ إذ يتم توجيهها لتصطدم بنوى عناصر خفيفة، مثل الليثيوم أو الديوتيريوم المعروف باسم الهيدروجين الثقيل. وعبر سلسلة من التحولات النووية المعروفة، تتحول هذه العناصر إلى ذرات جديدة من التريتيوم، وهو النظير المطلوب لإمداد أبحاث ومفاعلات الاندماج النووي.

درجات أعلى من الأمان

وتحقق هذه التقنية هدفين في وقت واحد؛ فمن جهة، تسهم في التخلص من النفايات النووية عالية الخطورة عبر استغلالها كمادة أولية في التفاعل، ومن جهة أخرى تنتج مورداً نادراً واستراتيجياً مثل التريتيوم. وإضافة إلى ذلك، فإن التحكم الخارجي عبر معجل الجسيمات يمنحها درجة أمان أعلى مقارنة بالمفاعلات التقليدية، لأنه يمكن إيقاف العملية فور إطفاء المعجّل، مما يقلل خطر الانفلات الإشعاعي.

وتشير الحسابات إلى أن مفاعلاً بهذه التقنية بطاقة جيجاوات واحد، أي ما يكفي لتزويد 800 ألف منزل أميركي بالكهرباء سنوياً، قد ينتج نحو كيلوجرامين من التريتيوم سنوياً، وهو ما يعادل تقريباً كامل إنتاج كندا السنوي حالياً؛ كما أن هذا النظام أكثر كفاءة بأكثر من عشر مرات مقارنة بمفاعل اندماج بنفس القدرة الحرارية.

إحدى الأفكار المطروحة، تتمثل في محاكاة تصميمات سابقة، تحيط النفايات النووية بأملاح الليثيوم المنصهرة، ما يساعد على التبريد ويجعل من الصعب استخراج المواد المشعة لاستخدامها في أغراض عسكرية؛ كما أن تحويل النفايات إلى وقود قد يخفف من أعباء التخزين طويلة الأمد ويقلل مخاطر التسرب الإشعاعي على البيئة وصحة الإنسان.

رغم جاذبية الفكرة وإمكاناتها الواعدة، إلا أن الطريق ما يزال طويلاً قبل أن ترى التقنية النور عملياً. فالمفهوم، وإن كان مطروحاً منذ تسعينيات القرن الماضي، لم يحصل على فرصة حقيقية للتطبيق إلا مع التطورات التقنية الحديثة التي قد تجعله أكثر واقعية.

ومع ذلك، ما يزال المشروع في حدود المحاكاة الحاسوبية، ويحتاج إلى المرور بسلسلة من التجارب العملية والدراسات التفصيلية لتحديد تكلفته وجدواه وأمانه، قبل التفكير في استخدامه على نطاق صناعي. وكما يوضح تارنوفسكي، فإن التحولات في مجال الطاقة دائماً ما تكون مكلفة، لكن كلما استطعنا جعلها أكثر كفاءة وأقل تكلفة، كان علينا أن نحاول.

تصنيفات

قصص قد تهمك