ماري برونكاو.. سيدة قادتها فئران مريضة إلى جائزة نوبل

العالمة الأميركية شاركت في بحث حدد هوية الجين المسؤول عن اضطراب مناعي قاتل

time reading iconدقائق القراءة - 8
ماري برونكاو السيدة التي قادتها فئران مريضة إلى جائزة نوبل - https://www.nobelprize.org/prizes/medicine/2025/brunkow/interview/
ماري برونكاو السيدة التي قادتها فئران مريضة إلى جائزة نوبل - https://www.nobelprize.org/prizes/medicine/2025/brunkow/interview/
القاهرة -محمد منصور

لم تستوعب العالمة الأميركية "ماري برونكاو" بعد أنها أصبحت من بين الحائزين على جائزة نوبل في الطب لعام 2025.

فمع الساعات الأولى من فجر الاثنين، رن هاتفها يحمل رقماً غريباً من السويد، لكنها ظنت أنه مكالمة تسويقية مزعجة فأغلقت الهاتف وعادت إلى النوم.

وبعد لحظات، أيقظها زوجها على أصوات مراسلي وكالة الأنباء ووسائل إعلام عند باب منزلها، لتدرك أن الاتصال الذي تجاهلته كان من لجنة نوبل نفسها.

ففي مقابلة هاتفية قصيرة أجراها معها آدم سميث من موقع نوبل، عند الساعة الرابعة والنصف فجراً، كانت "برونكاو" جالسة إلى طاولة الطعام في منزلها، يشاركها زوجها وكلبهما الذي بدا مرتبكاً من الضجة المفاجئة.

وعندما سألها سميث كيف وصلها الخبر، ضحكت قائلة: "رأيت رقماً من السويد فقلت في نفسي، لا بد أنه اتصال عشوائي، فأغلقت الهاتف وعدت للنوم، ولم أصدق الأمر حتى سمعت الصحفيين أمام المنزل".

ولدت ماري إي. برانكو عام 1961، وهي عالمة أحياء جزيئية ومناعة، أصبحت أحد أبرز الأسماء في علم المناعة الحديث بفضل اكتشافها الجيني الذي غير فهم العلماء لما يعرف بالتحكم المناعي الطرفي، وهو النظام الدقيق الذي يوازن بين دفاع الجسم عن نفسه وبين تجنب مهاجمة خلاياه الخاصة.

عرفت برانكو بدورها المحوري في تحديد الجين FOXP3، وهو الجين الذي تبين لاحقاً أنه أساس عمل الخلايا التائية التنظيمية المسؤولة عن كبح فرط نشاط الجهاز المناعي.

درست برانكو علم الأحياء في جامعة واشنطن، ثم تابعت دراستها العليا في جامعة برنستون العريقة، حيث حصلت على الدكتوراه في علم الأحياء الجزيئي عام 1991 تحت إشراف العالمة "شيرلي تيلجمان" والتي أصبحت فيما بعد رئيسة للجامعة.

وكان موضوع أطروحتها يدور حول التعبير الجيني ووظيفة جين H19 في الفئران المعدلة وراثياً، وهو ما شكل بدايتها مع علم الوراثة الجزيئية الذي سيقودها لاحقًا إلى أحد أهم اكتشافات القرن في علم المناعة.

البحث الصناعي

بعد تخرجها، لم تسلك برانكو الطريق الأكاديمي التقليدي، بل اتجهت إلى البحث الصناعي في سياتل بولاية واشنطن، حيث عملت في شركة "سيلتيك" قبل أن تنتقل إلى معهد بيولوجيا الأنظمة الذي يعد أحد أبرز المراكز البحثية في مجال علم الأنظمة والجينوميات المتقدمة.

هناك انخرطت في مشروعات متعددة تشمل الجينوم الأسري، وأبحاث الإنتان، والطب الوقائي الجيني المعروف باسم "العافية العلمية".

لكن اللحظة التي وضعت اسم ماري برانكو في التاريخ العلمي كانت في مطلع الألفية الجديدة، عندما شاركت في بحث نشر عام 2001 في دورية Nature Genetics، حدد هوية الجين المسؤول عن حالة نادرة في الفئران عبارة عن طفرة تسبب اضطراباً مناعياً قاتلاً يتميز بتكاثر مفرط في الخلايا اللمفاوية. 

وقد توصل فريق برانكو إلى أن هذا الخلل ناتج عن فقدان جين معين، أطلقوا عليه حينها اسم "سكرفين" ليعرف لاحقًا باسم FOXP3.

وأثبت هذا الاكتشاف أن غياب هذا الجين يؤدي إلى انهيار كامل في التوازن المناعي، إذ تفقد الخلايا التائية القدرة على التنظيم، فتتحول إلى خلايا مهاجمة للجسم نفسه، وهو ما يشبه انفجاراً داخلياً في منظومة الدفاع المناعي.

لم يكن الاكتشاف مجرد خطوة أكاديمية، بل نقطة تحول في فهم علم المناعة ذاته. فقد وفر الجين FOXP3 المفتاح لفهم كيف ينجح الجهاز المناعي في التمييز بين "الذات" و"العدو"، وكيف تمارس الخلايا التائية التنظيمية دورها في تهدئة الاستجابة المناعية بعد انتهائها من مواجهة مسببات المرض.

ومكن هذا الفهم الجديد العلماء من تطوير استراتيجيات علاجية لأمراض المناعة الذاتية مثل الذئبة الحمراء، والتصلب المتعدد، والسكري من النمط الأول، وحتى في مجالات علاج السرطان حيث تستخدم آليات كبح المناعة أو تنشيطها بحسب الحاجة.

إدارة المشروعات العلمية

كما ساهمت برانكو أيضاً في اكتشافات أخرى خارج علم المناعة، إذ شاركت في بحث نُشر في American Journal of Human Genetics عام 2001، أظهر أن فقدان وظيفة جين SOST يؤدي إلى مرض نادر يُعرف باسم تصلب العظام (sclerosteosis)، واكتشفت معه بروتيناً جديداً أُطلق عليه sclerostin، يعمل كمثبط لتكون العظام.

وساهم هذا المسار البحثي لاحقاً في تطوير أدوية جديدة لعلاج هشاشة العظام، منها العلاج المعروف "روموسوزوماب"، الذي يعتمد على تعطيل هذا البروتين لزيادة كثافة العظام.

وعلى الرغم من أن مسيرتها البحثية في السنوات الأخيرة اتجهت نحو إدارة المشاريع العلمية والتعاون في مبادرات جينومية متعددة المجالات، ظل إرثها العلمي مرتبطاً باسم FOXP3، الذي صار حجر الزاوية في علم المناعة الحديث.

واليوم؛ أعلنت لجنة نوبل في معهد كارولينسكا بالسويد فوز ماري برانكو بجائزة نوبل في الطب أو الفسيولوجيا، مع العالمين شيمون ساكاجوتشي وفريد رامزدل، عن اكتشافاتهم المتعلقة بالتحكم المناعي الطرفي. كان الخبر مفاجئاً حتى لصاحبته نفسها. 

وقالت برانكو في المقابلة وهي تجلس إلى طاولة طعامها في بيتها بسياتل: "لم يستوعب عقلي بعد ما حدث.. كنت جزءًا من فريق علمي مذهل، والعمل الذي نكافأ عليه اليوم كان ثمرة تعاون طويل.. لقد تغيرت مسيرتي المهنية منذ ذلك الحين، ولم أعد أعمل في نفس المجال، لكني فخورة بأن أكون قد ساهمت في حل لغز المناعة المتسامحة ولو بجزء صغير."

وحين سألها المحاور عن صعوبة البحث في أواخر التسعينيات، أجابت بابتسامة تعكس دهشة العالم أمام الزمن: "ما فعلناه حينها كان عملاً شاقاً بحق.. العثور على الجين في ذلك الوقت كان مغامرة علمية كاملة. اليوم يمكن إنجاز ما فعلناه في أسابيع قليلة بفضل التقنيات الحديثة، لكن في ذلك الزمن كنا نسير بخطوات بطيئة جداً، وكل اكتشاف صغير كان ثمينًا."

وتحدثت العالمة الأميركية عن قوة علم الوراثة في كشف أسرار البيولوجيا، موضحة أن تقنيات علم الجينات تغيرت جذرياً منذ نهاية التسعينيات.

وقالت: "الطريقة التي استخدمناها عام 1998 تختلف تماما عما يمكن فعله اليوم، لقد كان الأمر أشبه بعمل يدوي دقيق طويل، لكن النتيجة كانت تستحق كل الجهد".

وأوضحت أن البحث بدأ بمحاولة فهم خلل مناعي في فئران"سكيرفي"، ثم لاحظ الفريق وجود مرض نادر مشابه لدى الأطفال، وهو ما أدى إلى الربط بين الطفرة في الفئران ومتلازمة IPEX البشرية.

وأكدت برونكاو أن الوصول إلى الجين المسبب للمرض كان رحلة شاقة استغرقت شهوراً من العمل الدقيق في تحديد التسلسل الجيني، لكنها كانت لحظة فارقة حين اكتشف أن تغيراً جينياً صغيراً يمكن أن يسبب اضطراباً مناعياً هائلاً.

وأضافت: "لقد برهن الاكتشاف على أن الأمر لا يتعلق بجين واحد فقط، بل بآلية كاملة تحافظ على توازن المناعة في الجسم، وإذا اختلت، يتحول الدفاع إلى تدمير ذاتي".

وتحدثت برونكاو بتواضع عن مساهمتها في هذا الإنجاز قائلة: "عملي في العلم تغير كثيرا منذ ذلك الحين، ولم أعد أعمل في المجال نفسه، لكنني فخورة أنني كنت جزءاً من الفريق الذي ساهم في هذا الاكتشاف.. العلم لا يقوم على شخص واحد، بل على عقول كثيرة تعمل معاً.. هذا الإنجاز كان ثمرة تعاون رائع بين علماء من خلفيات مختلفة".

تصنيفات

قصص قد تهمك