
لم يكن شيمون ساكاجوتشي، العالِم الياباني الذي غيّر مسار علم المناعة الحديث، مجرد باحث عادي في مختبر جامعي، بل رمزاً للثبات العلمي والبحث الطويل عن الإجابة في زمن تخلى فيه كثيرون عن السؤال.
ولد ساكاجوتشي في 19 يناير عام 1951 في شيجا باليابان، ودرس الطب في جامعة كيوتو العريقة حيث نال منها درجة الدكتوراه في عام 1982، قبل أن ينتقل إلى الولايات المتحدة لإجراء أبحاث ما بعد الدكتوراه في جامعتي جونز هوبكنز وستانفورد بين عامي 1983 و1987 وهو ما فتح أمامه أبواب العالم العلمي الغربي وأتاح له أن يرى بعينيه كيف تُبنى الاكتشافات الكبرى عبر المثابرة الطويلة والتعاون بين العقول.
في تلك السنوات، كان علم المناعة يعيش حالة من الغموض بشأن الآلية التي تمنع الجهاز المناعي من مهاجمة خلايا الجسم السليمة.
ومنذ أوائل القرن العشرين، حاول علماء مثل بول إيرليخ تفسير هذا التوازن العجيب بين "الذات" و"غير الذات"، لكنهم لم يجدوا الخلية أو الجزيء المسؤول عن ذلك.
هنا ظهر ساكاجوتشي، الطبيب الشاب ذو الإصرار الهادئ، ليكرس أكثر من عقدين في البحث عن الخيط المفقود في شبكة المناعة.
كانت فكرته بسيطة لكنها صعبة الإثبات؛ فهناك خلايا خاصة داخل الجهاز المناعي لا تهاجم، بل تنظم وتكبح جماح غيرها. كانت هذه الفرضية جريئة في وقتها، لأنها خالفت السائد الذي كان يرى أن الخلايا التائية جميعها مسؤولة عن التحفيز والمقاومة فقط.
في التسعينيات، وبينما بدأ كثير من زملائه يفقدون الإيمان بالفكرة، واصل ساكاجوتشي العمل بإصرار.
درس في البداية فئران التجارب ولاحظ أن إزالة مجموعة صغيرة من الخلايا التائية تؤدي إلى تطور أمراض مناعية ذاتية مدمرة. كانت هذه الملاحظة بمثابة المفتاح الأول. ثم، في عام 1995، نشر ساكاجوتشي بحثًا ثوريًا وصف فيه لأول مرة فئة من الخلايا أطلق عليها اسم "الخلايا التائية التنظيمية" المعروفة اختصارًا بـ Tregs، وأثبت أنها تؤدي دور الحارس الداخلي الذي يمنع الجهاز المناعي من مهاجمة نفسه.
لاحقًا، جاء التعاون العلمي غير المباشر بينه وبين فريد رامزدل وماري برانكو، حيث ربطت أبحاثهم بين هذه الخلايا وبين الجين FOXP3، الذي تبين أنه العنصر الأساسي المسؤول عن تكوينها ووظيفتها. وهكذا اكتملت الصورة التي طال البحث عنها: الخلايا التائية التنظيمية، عبر نشاط الجين FOXP3، هي الضمان الحيوي لما يُعرف بـ“التسامح المناعي الطرفي” – أي قدرة الجسم على تقبّل خلاياه وأنسجته ومنع الالتهاب الذاتي.
تفسير أمراض المناعة
لقد أحدث هذا الفهم تحولًا هائلًا في الطب. فبفضل أبحاث ساكاجوتشي، بات ممكنًا تفسير أمراض مثل التصلب المتعدد والذئبة الحمراء والتهاب المفاصل الروماتويدي والسكري المناعي من النوع الأول. بل إن هذا الاكتشاف فتح المجال أمام استخدام الخلايا التنظيمية في الطب العلاجي، سواء لكبح المناعة المفرطة في حالات الزراعة أو لتعديلها في السرطان بحيث يمكن التحكم في استجابة الجهاز المناعي بدقة متناهية.
ورغم أن الطريق كان طويلًا ومليئًا بالشكوك، فإن ساكاجوتشي لم يفقد إيمانه. في مقابلة أجراها معه موقع جائزة نوبل فور إعلان فوزه، قال متأملًا: "كنت أعود دائمًا إلى تلك الملاحظة الأساسية – أن الخلايا التائية الطبيعية يمكنها أن تكبح المرض.. مهما ظهرت نظريات جديدة، كنا نختبرها، وفي كل مرة كنت أجد أن تفسيرنا أكثر اتساقًا مع الواقع.. هذا ما جعلني أستمر رغم كل الصعوبات."
وعندما سأله المحاور عما يعنيه هذا الفوز لمجال علم المناعة، أجاب ساكاجوتشي بصوت يغلب عليه الهدوء والتواضع: "أعتقد أن هذه الجائزة ستشجع علماء المناعة والأطباء على استخدام الخلايا التنظيمية لعلاج الأمراض المناعية المختلفة، وضبط المناعة في السرطان، وتحسين زراعة الأعضاء.. إذا كان لاكتشافنا أن يساهم في ذلك، فسيكون هذا أعظم تكريم لنا."
مسيرة ساكاجوتشي الأكاديمية لم تكن أقل تميزًا من أبحاثه، فبعد عودته إلى اليابان عام 1991، تولى رئاسة قسم علم الأمراض المناعية في معهد طوكيو لأبحاث الشيخوخة، ثم شغل منصب أستاذ ومدير لمعهد العلوم الطبية المتقدمة بجامعة كيوتو بين عامي 1998 و2011، قبل أن ينتقل إلى جامعة أوساكا التي أصبحت المقر الرئيسي لأبحاثه، حيث يشغل اليوم منصب أستاذ متميز.
جوائز قبل نوبل
وبمرور السنوات، حصل على سلسلة طويلة من الجوائز المرموقة التي توجت في النهاية بجائزة نوبل في الطب لعام 2025.
فقد نال جائزة ويليام بي. كولي عام 2004، وجائزة كيو للعلوم الطبية عام 2008، ووسام الشرف الياباني بشريط بنفسجي عام 2009، وجائزة آساي عام 2011، ثم أصبح زميلًا في الأكاديمية الوطنية الأميركية للعلوم عام 2012، قبل أن يُكرَّم بجائزة جايردنر الدولية عام 2015، وجائزة كرافورد عام 2017، ووسام الثقافة الياباني عام 2019، وجائزة باول إرليش ولويس دارمشتاتر عام 2020، وجائزة روبرت كوخ في العام نفسه.
ورغم هذه الأوسمة، ظل ساكاجوتشي كما يصفه زملاؤه "عالماً متواضعاً يرى نفسه خادماً للعلم لا بطلًا فيه". فحين بلغه نبأ فوزه بجائزة نوبل، كان في مكتبه بأوساكا قد عاد لتوه من مؤتمر علمي، وقال ضاحكاً في المقابلة: "كل عام يخبرني الزملاء أنني قد أفوز، وكنت أرد دائمًا أن هذا سيحدث فقط عندما تتحول أبحاثنا إلى علاج حقيقي في العيادة.. واليوم أظن أننا اقتربنا من ذلك."
إن ما يميز تجربة ساكاجوتشي هو صبره الطويل أمام الشك العلمي. ففي زمنٍ تتسارع فيه الأبحاث ويبحث العلماء عن نتائج فورية، كان يعمل وفق إيقاعٍ هادئ، مقتنعًا بأن المعرفة العميقة لا تُولد من التجارب السريعة بل من الإصرار الهادئ والمراجعة المستمرة. لذلك، أصبح اكتشافه نموذجًا يُدرَّس في كيفية بناء الحقيقة العلمية خطوة بخطوة عبر عقود.
وبالنسبة إلى اليابان، كان تتويج ساكاجوتشي بجائزة نوبل عام 2025 لحظة فخر وطني، إذ اعتبر امتدادًا لتقاليدها العريقة في العلوم الطبية، بعد فوز شينيا ياماناكا (نوبل الطب 2012) ويوشينوري أوسومي (نوبل الطب 2016). وقد وصفته الصحف اليابانية بأنه "العالِم الذي روّض جهاز المناعة".
لكن خلف هذا اللقب تختبئ قصة إنسان عاش بين المختبرات أكثر مما عاش في الأضواء، مؤمن بأن وظيفة العالِم ليست الشهرة بل الفهم.
ولعل أجمل ما قاله بعد إعلان الجائزة كان جملة بسيطة تختصر كل شيء: "أنا ممتن لأنني كنت جزءًا من هذا الجهد الجماعي الممتد عبر الزمن. العلم ليس إنجازا فرديا، بل هو سلسلة من الأيدي التي تتناوب حمل الشعلة."