
اكتشف علماء في مركز الأبحاث المتقدمة للعلوم بجامعة مدينة نيويورك الأميركية طريقة جديدة للتحكم في الموجات الصوتية والاهتزازات الميكانيكية، باستخدام مبدأ مستوحى من ظاهرة فيزياء الكم المعروفة باسم "الالكترونيات الملتوية"، والتي أحدثت ثورة في عالم الإلكترونيات خلال السنوات الماضية.
و"الإلكترونيات الملتوية" مجال حديث في فيزياء المواد يختص بدراسة كيفية تغير الخصائص الإلكترونية عند تدوير طبقتين رقيقتين من مادة بلورية، مثل الغرافين، بزاوية صغيرة جداً بالنسبة لبعضهما البعض.
ويعتمد هذا المفهوم على أن الإلكترونات التي تتحرك في هذه الطبقات لا تسلك السلوك نفسه عند التكديس العادي، بل تتفاعل بطريقة جديدة كليا وتنشأ أنماط تداخلية تغير من حركة الإلكترونات وتجعل المادة تظهر خصائص غير متوقعة مثل التوصيل الفائق أو العزل الكهربي التام.
وأوضحت الدراسة التي نشرتها دورية الأكاديمية الوطنية للعلوم الأميركية (PNAS)، أن الاكتشاف الجديد الذي أطلق عليه العلماء اسم "تويستلاستك" يمثل تحولاً كبيراً في كيفية توجيه ومعالجة الصوت والاهتزاز، ويمهد الطريق لتطبيقات واسعة تمتد من التصوير بالموجات فوق الصوتية إلى الإلكترونيات الدقيقة وأجهزة الاستشعار المتقدمة.
تقليل الضوضاء
تفتح التقنية الباب أمام جيل جديد من التقنيات في مجالات الطب، والاتصالات، والإلكترونيات الدقيقة. فالصوت والاهتزاز ليسا مجرد ظاهرتين طبيعيتين، بل يعدان أساساً للعديد من التطبيقات الحديثة مثل أجهزة الموجات فوق الصوتية في التصوير الطبي، والرقائق الإلكترونية الدقيقة، والحساسات الذكية، وأنظمة الاتصالات اللاسلكية.
عندما يتمكن العلماء من إعادة توجيه الموجات أو تركيزها أو عزلها بدقة، فإنهم يكتسبون قدرة هائلة على تصميم أجهزة أكثر كفاءة واستجابة وذكاء.
ويعني التحكم في الموجات الميكانيكية القدرة على تقليل الضوضاء غير المرغوب فيها في المنشآت والمصانع، وتحسين جودة الإشارات في أنظمة القياس، وحتى تطوير مواد "ميتاصوتية" يمكنها امتصاص أو عكس الاهتزازات بطريقة مخصصة.
وتقدم التقنية وسيلة مرنة للتحكم في الموجات، أي يمكن ضبطها وتغيير خصائصها بمجرد تدوير الطبقات المستخدمة بزاوية مختلفة، دون الحاجة إلى إعادة تصنيع المكونات ما يجعلها ثورة في عالم التصميم الهندسي، لأنها تسمح ببناء أنظمة تكيفية ديناميكية قادرة على التفاعل مع البيئة في الزمن الحقيقي. بعبارة أخرى، نحن أمام نقلة نوعية تجعل الصوت والاهتزاز أدوات يمكن تشكيلها والتحكم بها كما نتحكم اليوم بالإشارات الكهربائية في الإلكترونيات.
وأوضح فريق الدراسة أن فكرة الطريقة تعتمد على مبدأ بسيط في المظهر لكنه بالغ التعقيد في التطبيق، إذ يجري التحكم في انتشار الموجات الميكانيكية عن طريق تدوير طبقتين من الأسطح الهندسية المصنعة بدقة متناهية بالنسبة لبعضهما البعض.
وأشار الباحثون إلى أن مجرد تغيير زاوية التدوير بين الطبقتين يتيح إعادة تشكيل الطريقة التي تنتقل بها الموجات، ما يسمح بتبديل خصائص المادة في الوقت الفعلي دون الحاجة إلى أي مكونات متحركة تقليدية.
أكد المؤلف المشارك في الدراسة، أندريا ألو، أستاذ الفيزياء في مركز الدراسات العليا بجامعة مدينة نيويورك ومدير مبادرة الفوتونيات في مركز الأبحاث المتقدمة، أن هذا الاكتشاف يفتح الباب أمام جيل جديد من التقنيات التي ستغير الطريقة التي نتعامل بها مع الصوت والاهتزازات.
وأضاف أن فريق الدراسة أثبت أنه من خلال مجرد "لي" أو "تدوير" طبقتين من الأسطح المصنعة يمكن تحقيق مستوى غير مسبوق من التحكم في الموجات الميكانيكية، وهو ما يوفر إمكانات هائلة لتطوير تكنولوجيات جديدة في مجالات الاستشعار والاتصال ومعالجة الإشارات.
التواء الطبقات
ولطالما شكل التحكم في الصوت والاهتزاز أساسا لتطور العديد من التطبيقات التكنولوجية، بدءا من أجهزة الموجات فوق الصوتية الطبية مرورا بالأنظمة الإلكترونية الدقيقة، وصولاً إلى أجهزة القياس الصناعية المتقدمة.
وأشار الباحثون إلى أن التصميمات التقليدية في هذه المجالات عادة ما تكون ثابتة، ما يحد من مرونتها في التكيف مع ظروف التشغيل المختلفة.
وبينت الدراسة أن النهج الجديد المتمثل في "التواء الطبقات" يمكن أن يوفر مرونة ديناميكية غير مسبوقة، بحيث يمكن ضبط سلوك الموجات ميكانيكيا عبر تدوير بسيط دون الحاجة إلى إعادة تصميم النظام بالكامل.
ويعتمد البحث على مزيج من النماذج النظرية والمحاكاة الحاسوبية المتقدمة والتجارب المعملية باستخدام نماذج ثلاثية الأبعاد جرى تصنيعها بتقنية الطباعة المجسمة.
وأوضحت الدراسة أن هذه النماذج استخدمت ما يعرف بالأسطح الفوقية وهي أسطح هندسية مكونة من أعمدة دقيقة تم ترتيبها بنمط محدد بدقة نانومترية، بحيث تسمح بالتحكم في تفاعل الموجات مع المادة.
الدراسة أوضحت أنه عندما يجري تكديس طبقتين متطابقتين من هذه الأسطح فوق بعضهما البعض وتدوير إحداهما بزاوية معينة بالنسبة للأخرى، فإن البنية الناتجة تغير طريقة انتشار الاهتزازات داخل المادة.
وأشار الباحثون إلى أن هذه الظاهرة تشبه إلى حد بعيد ما يحدث في المواد ثنائية الأبعاد المستخدمة في الإلكترونيات الملتوية، إذ يؤدي التدوير بين الطبقات إلى ظهور خواص إلكترونية جديدة لم تكن موجودة في أي من الطبقتين على حدة.
كشف فريق الدراسة أن عند الوصول إلى زاوية معينة، أطلقوا عليها اسم "الزاوية السحرية"تصبح الموجات الميكانيكية شديدة التركيز وموجهة بدقة عالية، ما يسمح بتصميم أنظمة قادرة على توجيه الإشارات بسرعة وكفاءة أعلى من أي وقت مضى.
وأوضح الباحثون أن هذا الاكتشاف يمكن أن يسهم في تطوير أنظمة معالجة إشارات أسرع وأكثر استقراراً، إلى جانب تحسين كفاءة النقل في الأنظمة الصوتية والإلكترونية.
وأشار "ألو" إلى أن هذه القدرة على تغيير خصائص المادة بمجرد تدوير طبقاتها تمنح المهندسين حرية هائلة في تصميم أنظمة يمكنها التكيف مع بيئات متعددة دون الحاجة إلى أي تعديل في البنية الأساسية.
وقال إن هذه النتيجة تمثل نقلة نوعية في طريقة التفكير في الموجات الميكانيكية، إذ لم يعد الأمر مقتصراً على المواد نفسها، بل أصبح متعلقاً بالعلاقة الزاوية بين الطبقات.
أكد الباحثون أن هذه التقنية تسمح بالتحكم في نطاق واسع من الترددات، ما يجعلها مناسبة للتطبيقات متعددة النطاقات، مثل أجهزة الاتصالات المتقدمة والأنظمة الطبية التي تعتمد على الموجات فوق الصوتية.
وأوضحوا أن الطريقة الجديدة يمكن أن تستخدم لضبط سلوك الموجات في الوقت الفعلي، ما يحسن من جودة نقل المعلومات ويقلل من فقد الطاقة أثناء انتقال الموجات.
تطبيقات واسعة
أوضح الفريق أن التقنية الجديدة لا تقتصر فقط على تحسين الأداء، بل تساهم في زيادة مقاومة الأنظمة للأخطاء الناتجة عن العيوب التصنيعية أو التغيرات في البيئة التشغيلية.
وأشار الباحثون إلى أن الأنظمة التقليدية غالباً ما تتأثر بشدة بأي انحراف بسيط في الأبعاد أو التركيب، في حين أن النهج الجديد يمنح المصممين مرونة أكبر للتعويض عن هذه الانحرافات من خلال تعديل زاوية الالتواء فقط.
أضاف الباحثون أن الاكتشاف الجديد يمكن أن يمهد الطريق لتطوير أجهزة مقاومة للضوضاء وأكثر استقراراً في الأداء، ما يجعلها مثالية للاستخدام في البيئات الصعبة أو في الأنظمة الدقيقة التي تتطلب دقة عالية، مثل الأجهزة الطبية والأدوات العلمية الحساسة.
وتوقع فريق البحث أن تكون لهذا الاكتشاف تطبيقات واسعة في مجالات مثل التصوير الطبي بالموجات فوق الصوتية، إذ يمكن استخدام التقنية الجديدة لتحسين جودة الصور وتقليل التشويش الناتج عن التداخلات الميكانيكية.
وأوضح الفريق أن الاستخدامات المحتملة تمتد إلى الإلكترونيات الاستهلاكية، مثل مكبرات الصوت الذكية والهواتف المحمولة، التي يمكن أن تستفيد من قدرة التقنية على التحكم في انتشار الصوت داخل المكونات الدقيقة.
أشار الباحثون إلى أن المجال الواعد الآخر هو "الميكروفلويدكس"، أي التحكم في حركة السوائل الدقيقة داخل القنوات المجهرية، وهي تقنية تستخدم في المختبرات المصغرة لتحليل العينات الطبية والبيولوجية.
وأكد الفريق أن القدرة على التحكم في الموجات الميكانيكية بهذا المستوى يمكن أن تتيح تحريك السوائل بدقة متناهية دون الحاجة إلى مضخات ميكانيكية، ما يسهل تطوير أجهزة تحليل حيوية صغيرة الحجم وسريعة الأداء.
وأوضح أن العمل على التقنية استند إلى عقود من البحث في مجال المواد الفوقية، وهي مواد مصممة هندسياً لتوليد خصائص غير موجودة في الطبيعة، مشيرين إلى أن فكرة دمج هذا المفهوم مع مبادئ الإلكترونيات الملتوية فتحت بعداً جديداً في علم الموجات، يجمع بين المرونة الهندسية للمواد الفوقية والديناميكيات المعقدة للأنظمة متعددة الطبقات.
وأفاد فريق البحث أن الخطوة التالية في البحث تتمثل في تصغير التقنية حتى يمكن دمجها في أجهزة صغيرة الحجم، بما في ذلك الدوائر الإلكترونية على مستوى الشرائح الدقيقة.
وقال العلماء إن النجاح في تحقيق ذلك ربما يؤدي إلى ثورة في طريقة تصميم الإلكترونيات التي تعتمد على الموجات، مثل المعالجات الصوتية وأجهزة الاتصالات اللاسلكية.
وأوضح "ألو" أن الفكرة الجوهرية وراء التقنية تكمن في استخدام البساطة الهندسية لتحقيق نتائج فيزيائية معقدة، مشيراً إلى أن الاكتشاف يوضح كيف يمكن لمجرد تغيير زاوية صغيرة بين طبقتين من المادة أن يخلق أنماطاً جديدة من انتشار الموجات، شبيهة بتلك التي تنتج عن المواد البلورية ذات البنى الطوبولوجية المعقدة.
وتوقع الباحثون أن يغير هذا النوع من التحكم في الموجات مستقبل مجالات مثل معالجة الإشارات الصوتية، وتطوير فلاتر أكثر دقة وقدرة على عزل الترددات المطلوبة بدقة متناهية، كما يمكن أن يستخدم في أنظمة الاتصالات لتقليل الفقد وتحسين جودة الإرسال عبر تصميم أسطح قادرة على إعادة توجيه الموجات دون تشويه.
واعتبر فريق الدراسة أن النتائج تمثل إنجازاً علمياً مهماً لأنها تقدم وسيلة جديدة للتحكم في الطاقة الميكانيكية دون حاجة إلى استهلاك طاقة إضافية، وتسهم في تطوير أنظمة أكثر كفاءة في استهلاك الطاقة، سواء في التطبيقات الصناعية أو في الأجهزة المحمولة التي تتطلب تشغيلاً طويل الأمد.









