دراسة تفسر سر النقوش الفريدة في جلود الحيوانات والأسماك

time reading iconدقائق القراءة - 9
في أعلى الصورة ذكر سمكة الصندوق المرقطة، وفي الأسفل أنماط محاكاة تم الحصول عليها من تجميع نوعين من الخلايا بطريقة الانتشار فوق الأنماط الكيميائية. - https://scripps.ucsd.edu
في أعلى الصورة ذكر سمكة الصندوق المرقطة، وفي الأسفل أنماط محاكاة تم الحصول عليها من تجميع نوعين من الخلايا بطريقة الانتشار فوق الأنماط الكيميائية. - https://scripps.ucsd.edu
القاهرة -محمد منصور

ذكرت دراسة علمية أن الجمال المذهل الذي تتميز به أنماط الحيوانات، من خطوط النمور والحمار الوحشي إلى بقع الفهود، ليس نتاج كمال رياضي دقيق، بل ثمرة عيوب طبيعية صغيرة تمنحها تلك اللمسة الفريدة التي تميّز كل مخلوق عن الآخر.

وكشفت الدراسة، التي أُجريت في جامعة كولورادو بولدر الأميركية، عن آلية جديدة تفسر كيف تنشأ هذه الأنماط المدهشة في الطبيعة، وكيف تتكون حتى العيوب فيها بطريقة يمكن وصفها بأنها "جمال غير مثالي".

ونجح الباحثون في إعادة إنتاج هذه الاختلافات الدقيقة في نماذج محاكاة رقمية، مقدمين بذلك تصوراً فيزيائياً جديداً يمكن أن يقود إلى تصميم مواد قادرة على تغيير ألوانها أو التفاعل مع البيئة بطريقة تشبه جلد الكائنات الحية.

العوامل المثبطة

وأوضحت الدراسة أن العلماء أمضوا عقوداً يحاولون فك الشيفرة الكامنة وراء تنوع النقوش الحيوانية، منذ أن اقترح عالم الرياضيات آلان تورنج في عام 1952 نظريته الشهيرة حول تكوين الأنماط في الأنسجة الحية.

وبيّنت النظرية أن الخلايا أثناء تطورها تفرز مواد كيميائية تُعرف باسم "العوامل المفعلة"، و"العوامل المثبطة"، تعمل معاً بطريقة تشبه امتزاج الحليب بالقهوة، فبينما تحفز بعض المواد إنتاج الصبغات اللونية، تقوم أخرى بتثبيطها، مما يؤدي إلى ظهور البقع أو الخطوط، لكن المشكلة، كما تشير الدراسة الجديدة إلى أن النماذج الحاسوبية التي اعتمدت على هذه النظرية كانت تنتج أنماطاً ضبابية وغير واضحة الحواف، بعيدة عن دقة البقع والخطوط التي تشاهد في الطبيعة.

وأشارت الدراسة إلى أن التطور الحاسم في فهم هذه الظاهرة جاء عندما أضيفت آلية جديدة إلى نموذج تورنج تُعرف باسم "الانتشار السحبي" وهي العملية التي تتحرك فيها جزيئات داخل وسط ما بفعل انتشار جزيئات أخرى.

وشبّه العلماء هذه الظاهرة بالغسيل، فعندما ينتشر الصابون في الماء، يسحب معه الأوساخ من الأقمشة، ومن خلال تطبيق هذا المفهوم على الخلايا المنتجة للأصباغ، أظهرت المحاكاة أن الخلايا لا تتحرك عشوائياً فقط، بل تسحب بعضها بعضا أثناء انتشارها في الأنسجة، وهو ما يؤدي إلى تشكل أنماط دقيقة ذات حواف واضحة.

وكشفت الدراسة أن الفريق استخدم هذه الفكرة لمحاكاة النمط السداسي الأرجواني والأسود الذي يظهر على جلد سمكة تُعرف باسم "العلجوم المزخرف"، وهي نوع لافت يعيش في البحار المحيطة بأستراليا.

وأظهرت النتائج أن الجمع بين آلية تورنج وآلية الانتشار السحبي ينتج أنماطاً حادة تشبه الواقع أكثر بكثير، غير أن المفاجأة كانت أن النماذج الناتجة كانت مثالية إلى حد غير طبيعي، فكل سداسي جاء مطابقاً للآخر تقريباً، وبمسافات متماثلة، بينما في الطبيعة لا نجد كائناً يحمل نقوشاً متناظرة بهذه الدقة.

كما أوضحت الدراسة أن الطبيعة لا تعرف الكمال الرياضي، إذ تختلف سماكة خطوط الحمار الوحشي من موضع إلى آخر، وتتنوع أحجام بقع الفهود، ولا يوجد جلد حيوان يحمل رسماً مكرراً مرتين بالطريقة ذاتها. ومن هذا المبدأ انطلقت المحاولة التالية لتحسين النموذج، إذ أضاف الباحثون عنصراً جديداً هو حجم الخلايا. وبمجرد أن تم إدخال فكرة أن كل خلية تملك حجماً وشكلاً مميزاً، وتتحرك بطريقة مستقلة داخل النسيج، بدأت الأنماط الرقمية المنتجة تكتسب العيوب نفسها التي تراها العين في جلد الحيوانات الحقيقية.

العيوب الطبيعية

ولفتت الدراسة إلى أن النموذج المحدَّث يعمل بطريقة يمكن تخيلها كأنها مجموعة من كرات تنس الطاولة بأحجام مختلفة تتدفق داخل أنبوب، فالكرات الكبيرة تترك وراءها خطوطاً أكثر سمكاً، بينما الكرات الصغيرة تنتج خطوطاً رفيعة، وعندما تتجمع الخلايا الأكبر حجماً في منطقة معينة، تنشأ بقع واسعة أو خطوط عريضة، أما عندما تصطدم الخلايا ببعضها، أو تتزاحم في مسارها، فإن الخطوط تتكسر وتنقطع. وهكذا تظهر تلك العيوب التي تمنح كل نمط طبيعي فرادته، سواء كانت انحرافاً بسيطاً في زاوية أو تفاوتاً في المسافة بين البقع.

وأكدت الدراسة أن مجرد منح الخلايا حجماً محدداً كان كافياً لتوليد تلك "العيوب الطبيعية"، إذ أظهرت المحاكاة الرقمية قطعاً في الخطوط وتفاوتات في الألوان والبنية، لتصبح النتيجة أقرب بكثير إلى جلد الحيوانات في الواقع.

وأشارت إلى أن هذه المحاكاة الرقمية لم تعد تقتصر على الأشكال المنتظمة، بل بدأت تنتج ملمساً حقيقياً للنقوش، مع تفاصيل دقيقة في التوزيع والتداخل اللوني، مما جعل النماذج تبدو حية بشكل لافت.

وأضافت الدراسة أن هذه النتائج تمثّل خطوة نحو فهم أكثر واقعية لتكون الأنماط في الكائنات الحية، إذ لم يكن الهدف إنتاج نموذج مثالي، بل تفسير كيف تنشأ الاختلافات التي تجعل كل حيوان فريداً، فبينما كان العلماء في الماضي يركزون على الدقة الرياضية في المحاكاة، يكشف هذا البحث أن سر الجمال الطبيعي يكمن في عدم الدقة نفسها، في الفوضى الصغيرة التي تمنح الأنماط شخصيتها.

ونوّهت الدراسة إلى أن الفريق البحثي يعتزم تطوير النموذج أكثر في المستقبل من خلال إدخال تفاعلات أعقد بين الخلايا والمواد الكيميائية المحيطة بها، من أجل بناء صورة أكثر اكتمالاً عن الطريقة التي تنشأ بها هذه الأنماط في المراحل الجنينية للكائنات، فعملية تكوين الجلد ليست ثابتة، بل ديناميكية تتفاعل فيها الخلايا مع إشارات كيميائية وبنى نسيجية متغيرة، وهو ما يضيف طبقات من التعقيد لم يكن من الممكن محاكاتها من قبل.

كما أظهرت الدراسة أن هذا الفهم الجديد للأنماط الحيوانية لا يقتصر على الجانب النظري أو الجمالي، بل يمكن أن يقود إلى ابتكارات عملية في مجالات متعددة، فكما استلهمت تكنولوجيا السونار من طريقة استشعار الخفافيش للأصوات، يمكن لتقليد آلية تكوين الأنماط في الجلد أن يفتح الطريق أمام تصميم مواد صناعية ذكية، فقد يصبح بالإمكان تطوير أقمشة قادرة على تغيير ألوانها تبعاً للضوء أو درجة الحرارة أو الخلفية المحيطة، تماماً كما يفعل جلد الحرباء في الطبيعة.

ونبّهت الدراسة إلى أن فهم كيفية تحرك الخلايا الملونة وتفاعلها قد يساعد أيضاً في مجالات الطب الحيوي، مثل تصميم أنظمة دقيقة لتوصيل الأدوية داخل الجسم، فإذا كان بالإمكان توجيه الخلايا الاصطناعية أو الجزيئات الدوائية لتتجمع أو تنتشر بطريقة مدروسة داخل الأنسجة، فقد يؤدي ذلك إلى علاجات أكثر فاعلية وأقل ضرراً.

محاكاة حاسوبية

وأكدت الدراسة كذلك أن النتائج الجديدة تمثّل مثالاً على كيف يمكن للطبيعة أن تكون المعلم الأول للابتكار العلمي، إذ تظهر أن النظام الطبيعي لا يسعى إلى الكمال، بل إلى التوازن بين الانتظام والعشوائية، موضحة أن إدراك هذا التوازن يمكن أن يلهم العلماء والمهندسين لتصميم أنظمة اصطناعية أكثر مرونة، قادرة على التكيف والاستجابة للظروف الخارجية بدلاً من التمسك بالصرامة الميكانيكية.

وأبرزت الدراسة أن الباحثين الذين أجروا هذه التجارب استخدموا مزيجاً من النماذج الرياضية والمحاكاة الفيزيائية لتوضيح كيف تنشأ البقع والخطوط تدريجياً، ففي البداية تتوزع الخلايا المنتجة للأصباغ عشوائياً، ثم تبدأ المواد الكيميائية المفعلة والمثبطة بالتفاعل، لتنشأ مناطق تزداد فيها كثافة الصبغة وأخرى تقل فيها. ومع مرور الوقت، تتطور هذه التفاعلات إلى أنماط مستقرة، تماماً كما تتشكل السحب في السماء من تفاعل بسيط بين بخار الماء والهواء.

ولفتت الدراسة إلى أن محاكاة هذه العمليات في الحاسوب تتطلب دقة كبيرة في ضبط المعادلات والمعلمات الفيزيائية، وأن إضافة مفهوم الحجم الفردي لكل خلية كانت الخطوة المفصلية التي جعلت النماذج أكثر واقعية.

وأظهرت النتائج أيضاً أن حتى التغيرات الصغيرة جداً في حركة الخلايا أو حجمها يمكن أن تؤدي إلى اختلافات كبيرة في الشكل النهائي للنمط، وهو ما يفسر تنوع النقوش بين أفراد النوع الواحد من الحيوانات.

وشددت الدراسة على أن هذا النوع من الأبحاث يفتح آفاقاً جديدة في علم الأحياء والفيزياء والرياضيات على السواء، لأنه يجمع بين فهم العمليات الكيميائية داخل الخلايا وبين تحليل الأنماط الماكروية التي تظهر على أجسام الكائنات، فالأنماط اللونية التي نراها ليست مجرد زينة، بل تعبير عن توازن معقد بين التفاعل الكيميائي والحركة الفيزيائية والنمو الحيوي.

وختمت الدراسة بالإشارة إلى أن الفريق البحثي يطمح إلى تطوير محاكيات ثلاثية الأبعاد في المستقبل لدراسة كيفية تداخل الأنماط على الأجسام غير المسطحة، مثل زعانف الأسماك أو أجنحة الفراشات، فهذه الهياكل المعقدة قد تظهر تفاعلات إضافية بين الشكل الهندسي للنسيج وطريقة توزيع الخلايا، مما يضيف طبقة جديدة من الفهم لتنوع الألوان والزخارف في الكائنات.

تصنيفات

قصص قد تهمك