
توصلت دراسة حديثة إلى نبتة تحمل خصائص فريدة يمكن أن تساعد على استنباط محاصيل زراعية قادرة على تحمل الحرارة الشديدة التي يفرضها تغير المناخ، لأنها استطاعت النمو في واحدة من أكثر بقاع الأرض قسوة، هي وادي الموت بكاليفورنيا، حيث تتجاوز درجات الحرارة في الصيف 49 درجة مئوية.
ونجحت النبتة المحلية، وتدعى تايدستروميا ذات الأوراق البيضاوية Tidestromia oblongifolia في النمو والازدهار وسط تلك الظروف القاتلة.
وحاول الباحثون دراسة كيف تستطيع النبتة أن تبقى خضراء وقوية في بيئة تجف فيها معظم النباتات في ساعات معدودة، وجمعوا البذور من الصحراء القاحلة في وادي الموت، وبدا لهم أن أي محاولة لإنباتها في المختبر ستكون دون جدوى.
وقرر الباحثون محاكاة الظروف القاسية التي تعيشها النبتة في بيئتها الأصلية، داخل غرف النمو الاصطناعية، فحدث ما يشبه المعجزة، إذ انطلقت النباتات الصغيرة في نمو سريع غير مسبوق، وخلال 10 أيام فقط تضاعفت كتلتها 3 مرات، في حين توقفت نباتات قريبة منها وراثياً، وتعرف بتحملها للحرارة، عن النمو تماماً.
وأوضحت النتائج التي نشرتها دورية Current Biology أن النبتة لا تنمو في درجات حرارة قاتلة لمعظم الكائنات النباتية فقط، بل تعيد ضبط نظامها الضوئي بشكل ديناميكي لتعمل بكفاءة في درجات حرارة مرتفعة جداً، وعند تعريضها لحرارة تشبه حرارة وادي الموت لمدة يومين فقط، رفعت النبتة نطاق راحتها الضوئية لتواصل إنتاج الطاقة دون تباطؤ.
وبعد أسبوعين من التكيف، وصلت درجة الحرارة المثلى لعملية التمثيل الضوئي لديها إلى 45 درجة مئوية، وهي قيمة أعلى من أي محصول زراعي معروف حتى الآن.
وأظهرت النتائج أن هذا النبات الأكثر تحملاً للحرارة بين الأنواع التي سبق توثيقها علمياً، وتقدم نموذجاً عملياً لكيفية تكيف النباتات سريعاً مع ارتفاع درجات الحرارة، الأمر الذي يمنح العلماء أدوات جديدة لتطوير محاصيل مستقبلية قادرة على الصمود أمام موجات الحر المتزايدة.
وتعتمد النبتة على تفاعل متكامل بين مستويات مختلفة من التنظيم البيولوجي، إذ كشفت القياسات الفسيولوجية والتصوير الحي والتحليل الجيني أن قدرتها المدهشة على البقاء تأتي من سلسلة من التعديلات المنسقة في خلاياها، ففي الظروف المشابهة لوادي الموت، تتحرك الميتوكوندريا – وهي مصانع الطاقة في الخلية – لتتموضع بجوار البلاستيدات الخضراء التي تجري فيها عملية التمثيل الضوئي.
وفي الوقت ذاته، تغير البلاستيدات نفسها شكلها لتتخذ هيئة "أكواب صغيرة" لم يسبق مشاهدتها من قبل في النباتات العليا، وربما تتيح لها هذه البنية الجديدة إعادة تدوير ثاني أكسيد الكربون بكفاءة أكبر والحفاظ على إنتاج الطاقة تحت الضغط الحراري الشديد.
وأظهرت تحاليل التعبير الجيني أن آلاف الجينات تغير نشاطها خلال 24 ساعة فقط من التعرض للحرارة، ويشمل ذلك الجينات المسؤولة عن حماية البروتينات والأغشية والمكونات الحساسة في جهاز التمثيل الضوئي من التلف، كما ترفع النبتة إنتاجها من إنزيم أساسي يسمى "روبيسكو أكتيفيز" الذي يساعد على استمرار عملية التمثيل الضوئي بسلاسة في درجات الحرارة المرتفعة.
وتفيد هذه النتائج في دعم الزراعة عالمياً، وسط توقعات بارتفاع متوسط درجات الحرارة العالمية بنحو 5 درجات مئوية بحلول نهاية القرن الجاري، ما يؤدي لنقص إنتاج المحاصيل الأساسية مثل القمح والذرة وفول الصويا.
ومع استمرار تزايد عدد السكان، تزداد الحاجة إلى حلول علمية ترفع من قدرة المحاصيل على تحمل الإجهاد الحراري دون فقدان قدرتها الإنتاجية.
وتظهر هذه النبتة أن النباتات بطبيعتها تمتلك القدرة على التكيف مع أقصى الظروف المناخية إذا فهمت آلياتها بدقة، ويعمل الباحثون حالياً على استكشاف الكيفية التي يمكن بها نقل هذه الخصائص الفريدة إلى محاصيل زراعية واسعة الانتشار، ما قد يؤدي إلى تحول جذري في مفهوم الزراعة في عصر الاحترار العالمي.
ويعيد هذا العمل توجيه أنظار العلماء إلى أهمية دراسة النباتات المهملة التي تنمو في بيئات شديدة الحرارة أو شديدة البرودة، فعلى مدى عقود، ركزت أبحاث علم النبات على أنواع نموذجية يسهل التعامل معها مخبرياً، مثل الأرابيدوبسيس أو محاصيل الحبوب الشهيرة كالقمح والأرز والذرة، لكن النباتات الصحراوية مثل هذا النبات تحمل في طياتها حلولاً طبيعية طورتها على مدى ملايين السنين، وهي حلول قد تمثل طوق النجاة للزراعة الحديثة أمام تحديات المناخ القاسي.
ويعمل الباحثون الآن على استخدام التقنيات الحديثة مثل التحليل الجينومي الدقيق والتصوير الحي فائق الدقة لفهم هذه الآليات على المستوى الخلوي والجزيئي.
وأظهرت النتائج الأولية أن بعض الجينات المسؤولة عن مقاومة الحرارة في ذلك النبات تنشط بطريقة منسقة تمنحها مرونة فريدة، ما قد يتيح هندستها وراثياً في نباتات أخرى دون التأثير في خصائصها الزراعية الأساسية.
ويرى الباحثون أن هذه الدراسة لا تقتصر على فهم كيفية نجاة نبتة واحدة من حرارة الصحراء، بل تقدم خريطة طريق لكيفية تكيف النباتات عموما مع التغيرات المناخية المتسارعة، لافتين إلى أن الفهم العميق لهذه العمليات يفتح الباب أمام تطوير محاصيل لا تكتفي بتحمل الحرارة، بل تزدهر في ظلها، ما يسهم في ضمان الأمن الغذائي العالمي في العقود المقبلة.
تستند هذه الجهود إلى قناعة راسخة بأن الطبيعة ذاتها تحمل الإجابات التي يحتاجها الإنسان. فالنباتات الصحراوية لم تجبر على التكيف مع الحرارة فقط، بل طورت أنظمة دقيقة للتحكم في استهلاك الماء، وإدارة الطاقة، وحماية الخلايا من الإجهاد، وكلها خصائص يمكن استعادتها في بيئات الزراعة الحديثة.
وتشير التجارب المخبرية إلى أن تطبيق هذه الدروس ربما يسمح في المستقبل بإنتاج أنواع جديدة من القمح أو الأرز قادرة على النمو في المناطق الجافة وشديدة الحرارة، دون حاجة إلى كميات ضخمة من المياه أو استخدام مفرط للأسمدة، كما يمكن أن تمهد هذه الأبحاث الطريق أمام تطوير نباتات تزدهر في الصحارى، محولة مساحات قاحلة إلى مصادر إنتاج غذائي مستدام.
ويأمل الباحثون أن تؤدي هذه الجهود إلى بناء جيل جديد من المحاصيل المصممة بيولوجياً لتحمل الحرارة، وتغيير الطريقة التي تدار بها الزراعة في العالم، فمع تسارع تغير المناخ وتزايد موجات الجفاف، يصبح من الضروري الانتقال من محاصيل تحتاج إلى ظروف مثالية، إلى محاصيل تتقن فن البقاء في الظروف المستحيلة.










