ناقش باحثون مختصون في مرض السرطان، منذ منتصف القرن التاسع عشر، أسباب الاختلاف بين الخلايا السرطانية والخلايا العادية في جسم الإنسان، وذلك في محاولة لشل نشاطها.
وعرف العلماء أن خلايا السرطان مجرد خلايا عادية، ولكنها مُفرطة النشاط، ويتسبب هذا النشاط في انقسام الخلايا بسرعة مهولة، لتشكل بعدها أوراماً سرطانية.
لكن لماذا تنقسم الخلايا بسرعة؟ وما هي الخواص التي تتحكم في عمليات الانقسام؟ وكيف يمكن التحكم فيها لمنع نشوء السرطان؟. كلها أسئلة لا يُمكن الإجابة عنها بشكل دقيق، ولكن دراسة جديدة لباحثين من "جامعة تل أبيب"، كشفت لأول مرة عن دور ما يُعرف باسم "اختلال الصيغة الصبغية"، وهي إحدى الخواص الفريدة للخلايا السرطانية في تشكيل الأورام.
وبحسب البحث المنشور في دورية "نيتشر"، فإن الخلل في الخلايا السرطانية، يُمكن أن يكون نقطة ضعفها، وهو ما يعني إمكانية استغلال هذا الاكتشاف، في تطوير عقاقير مستقبلية، تستهدف نقطة ضعف الخلايا السرطانية، والقضاء عليها.
الصيغة الصبغية
يُعد اختلال الصيغة الصبغية أحد السمات المميزة للسرطان، إذ تحتوي الخلايا البشرية الطبيعية على مجموعتين من 23 كروموسوماً لكل منهما، واحدة من الأب وواحدة من الأم، لكن الخلايا المختلة للصيغة الصبغية، لها عدد مختلف من الكروموسومات.
عندما يتشكل اختلال الصيغة الصبغية في الخلايا السرطانية، فإن الخلايا لا "تتحمله" فحسب، بل يمكنها أيضاً أن تعزز تطور المرض. وتم اكتشاف العلاقة بين اختلال الصيغة الصبغية والسرطان منذ أكثر من قرن مضى، قبل وقت طويل من معرفة أن السرطان مرض قد يكون وراثياً، وحتى قبل اكتشاف الحمض النووي كمواد وراثية.
ومن المعروف أن الاستهداف الانتقائي للخلايا المختلة الصبغية، إحدى الاستراتيجيات الجذابة لعلاج السرطان. ومع ذلك، فمن غير الواضح ما إذا كان اختلال الصيغة الصبغية، يولد أيّ نقاط ضعف ذات صلة سريرية (أي يُمكن استخدامها في العلاج) في الخلايا السرطانية.
خريطة خطوط الخلايا السرطانية
في هذه الدراسة، قام الباحثون برسم خريطة كاملة لاختلال الصيغة الصبغية، لحوالي 1000 نوع من خطوط الخلايا السرطانية البشرية.
وخطوط الخلايا السرطانية هي الطريقة التي تستمر بها الخلايا في الانقسام والنمو بمرور الوقت، في ظل ظروف معينة في المختبر. وتستخدم تلك الخطوط في الأبحاث لدراسة بيولوجيا السرطان، واختبار علاجات السرطان.
وقام الباحثون بتحليل الاضطرابات الوراثية والكيميائية في تلك الخطوط، لتحديد نقاط الضعف الخلوية المرتبطة باختلال الصيغة الصبغية، ليجدوا أن الخلايا السرطانية غير الصبغية، تُظهر حساسية متزايدة للاضطراب الجيني للمكونات الأساسية.
ويعني ذلك أن الخلايا السرطانية المختلة في الصيغة الصبغية، تظهر حساسية عالية للضرر الذي يلحق بنقطة التفتيش الانقسامية، وهي نقطة تفتيش خلوية تضمن الفصل المناسب للكروموسومات أثناء انقسام الخلية. كما اكتشفوا أيضاً، الأساس الجزيئي للحساسية المتزايدة للخلايا السرطانية، باختلال الصيغة الصبغية.
العلاج المناعي
وفي عام 2018، حصل الياباني تاسوكو هونجو، والأميركي جيمس أليسون على جائزة "نوبل" للطب لتطويرهما تقنيات العلاج المناعي، التي تعتمد على الخلايا المناعية من أجل إيقاف السرطان. وتعتمد تلك التقنيات على ما يُعرف باسم مفهوم "نقاط التفتيش"، التي تتحدث عنها أيضاً تلك الدراسة.
ويُمكن تعريف نقاط التفتيش الانقسامية، بكونها تلك النقطة التي تشارك في الانقسام الاختزالي، وتمنع فصل الكروموسومات المضاعفة، حتى يتم توصيل كل كروموسوم بشكل صحيح وسليم للخلايا المنقسمة حديثاً. لكن، وفي حالة اختلال الصيغة الصبغية، تحدث تغييرات كبيرة أثناء الانقسام، ويزيد أو ينقص عدد الكروموسومات الموجودة في كل خلية.
يقول الباحثون في تلك الدراسة إن الزيادة أو النقصان في عدد الكروموسومات، هو المدخل الأساسي لمحاربة كل أنواع السرطان.
ووفقاً للباحثين، فإن اختلال الصيغة الصبغية هو أكثر التغيرات الجينية شيوعاً في السرطان. فما يقرب من 90% من الأورام الصلبة، مثل سرطان الثدي وسرطان القولون، و75% من سرطانات الدم، هي اختلال في الصيغة الصبغية بطبيعتها. لكن فهم الباحثين لكيفية مساهمة اختلال الصيغة الصبغية في تطور وانتشار السرطان، كان محدوداً.
نقطة ضعف
وطبقاً للدراسة، وجد الباحثون نقطة ضعف يمكن استغلالها أثناء انقسام الخلايا السرطانية، فعند حدوث الانقسام في نقاط التفتيش، يحدث خلل كبير في الصبغيات، يُمكن استغلاله للقضاء على السرطان.
يعني ذلك ببساطة أن تثبيط البروتينات في تلك المنطقة (نقطة التفتيش الانقسامية)، يُمكن أن يجعل خلايا السرطان أكثر حساسية لمهاجمة الجهاز المناعي. بعبارة أبسط، يُمكننا القول إن تأخير أو تثبيط فصل الكروموسومات، قد يكون "الكأس المقدسة" لعلاج السرطان، على حد قول الباحثين.
تثبيط عملية الفصل
يوجد العديد من الأدوية التي يُمكنها تثبيط عملية الفصل ببساطة، إذ يُمكن استخدام هذه الأدوية مع بروتوكولات العلاج الكيميائي والإشعاعي والهرموني، للقضاء على السرطان، لكن بشرط واحد، وهو أن تكون الخلايا السرطانية ناجمة عن اختلال الصيغة الصبغية.
ولأن معظم أنواع السرطان تندرج تحت تلك الفئة (فئة اختلال الصيغة الصبغية)، فبالتالي يُمكن علاج ذلك المرض عبر تطوير أو دمج العلاجات الحالية، مع استراتيجيات علاج السرطان التقليدية.
الأمر المميز في تلك الدراسة، هو الكشف عن طريقة لقتل الخلايا الخبيثة، من دون الإضرار بالخلايا السليمة، فبطبيعة الحال لا يُمكن أن تكون الخلية سليمة إذا ما عانت من اختلال الصيغة الصبغية.
وبالتالي؛ فاستخدام تلك الطريقة مستقبلاً، يعنى استهداف الخلايا السرطانية فقط، من دون الإضرار بغيرها، وهو أمر تفتقده كل العلاجات الحالية.
وأجريت التجارب على خلايا في المختبر، ولم تتم حتى الآن على أورام فعلية. ويقول الباحثون إن الخطوة التالية هي إجراء التجارب على الفئران.