في عام 1856، وبينما كان السير تشارلز نيكلسون، المستكشف الإنجليزي البارع والسياسي المحنك، يقطع وديان مصر وصحاريها، اشترى من بائع متجول في مدينة الأقصر، تابوتاً مُغطى بداخله مومياء.
وضع نيكلسون التابوت على متن مركب، قطع به مئات الكيلو مترات وصولاً إلى أستراليا، وهناك، تبرع به إلى جامعة سيدني ليصبح نواة لمتحف تاريخي يحمل اسمه حتى الآن.
أجريت دراسات على التابوت والمومياء بهدف الوصول إلى هويّة صاحبها، ثم نُقلت للعرض في متحف "تشاو تشاك وينج" في سيدني.
مفاجأة جديدة
وفي عام 1999، جرت مجموعة جديدة من الدراسات على المومياء، أسفرت عن مفاجأة جديدة، إذ كشفت الدراسة المنشورة في دورية "بلوس وان" عن وجود "درع طينية نادرة" تغطي المومياء بشكل كامل بأسلوب لم يتم رصده من قبل.
وأشارت الدراسات التي أجريت على الجثث المحنطة من أواخر المملكة الحديثة إلى الأسرة الحادية والعشرين (1294 - 945 قبل الميلاد) أحياناً إلى وجود قشرة صلبة من الراتنج تحمي الجسم من التعفن، خاصةً للمومياوات الملكية في تلك الفترة.
ولكن في تلك المومياء كان الأمر مختلفاً بصورة كاملة، فعوضاً عن الراتنج استخدم المصريون القدماء طبقة من الطين لسبب مجهول.
وقالت مؤلفة الدراسة والباحثة في قسم التاريخ والآثار بكلية الفنون جامعة ماكواري، "كارين سوادا"، في تصريحات خاصة لـ"الشرق"، إن الاكتشاف كان بمثابة "المفاجأة"، فقد ظلت المومياء تحت المجاهر لمدة تصل إلى 170 عاماً، إلا أنها لم تفصح عن كل أسرارها بعد.
طبقة نادرة
الطبقة النادرة مُكونة من طين ملون يُشكل قشرة صلبة داخل أغلفة جسم المومياء، حيث اكتشف الباحثون من قبل طبقات من الراتنج -مادة صمغية نباتية توفر حماية من التعفن- لكن تلك هي المرة الأولى التي يُكتشف فيها طبقات مصنوعة من الطين مدسوسة بين القماش الكتّاني الملفوف به المومياء.
ويحدد نقش التابوت شكل مالكه على أنه امرأة تحمل لقب "مر- وح"، ويرجع تاريخه إلى نحو 1000 عام قبل الميلاد.
وخضع الشخص المحنط لمجموعة من الفحوصات تشمل الأشعة السينية وغيرها من الوسائل التشخيصية، إلا أن المؤلفين في تلك الدراسة أخضعوا المومياء لفحص التصوير المقطعي المحوسب CT باستخدام تقنية مُحدثة.
وباستخدام تلك التقنية حدد المؤلفون أن الشخص المحنط كان شاباً بالغاً متوسطاً (26-35 عاماً).
الدرع الملونة
وعلى الرغم من أن فحوصات الجسم لم تكشف عن الأعضاء التناسلية الخارجية التي تمت إزالتها أثناء عملية التحنيط، فإن الخصائص الجنسية الثانوية العظمية (عظام الورك والفك والجمجمة) تشير بقوة إلى أن الشخص المحنط كان أنثى.
ولوحظت الدروع سابقاً في الأفراد المحنطين المصريين في أواخر الدولة الحديثة؛ خاصة في الفترة الانتقالية الثالثة (1294- 945 قبل الميلاد)، ويُفترض أنها مصنوعة من الراتنج، أو مزيج من الراتنج الممزوج بمواد أخرى (على سبيل المثال البيتومين).
لكن هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها اكتشاف درع الطين الملونة، وبالتالي فإن الدراسة توفر رؤى جديدة لهذا النوع من إجراءات التحنيط وتوسع فهمنا للطرق التي عالج بها المصريون القدماء موتاهم نظراً لكون الطين بديلاً ميسور التكلفة ومتاحاً بسهولة لـ"الراتنج".
ويقترح الباحثون أن تقنية التحنيط المرصودة من المحتمل أن تكون أكثر شيوعاً مما كان يعتقد سابقاً، كما ستكشف المزيد من التحقيقات حول الأفراد المحنطين غير الملكيين إلى أي مدى تمت ممارسة هذه التقنية.
محاكاة جنائز النخبة
وأظهر التحليل الحالي لتقنية التحنيط والتأريخ بالكربون المشع لعينات النسيج المأخوذة من أغلفة الكتان وضع الشخص المحنط في أواخر عصر الدولة الحديثة (1200 -1113 قبل الميلاد).
ويعني هذا أن الجسد أقدم من التابوت، ما يشير إلى أن التجار المحليين في القرن التاسع عشر وضعوا جثة لا علاقة لها في التابوت لبيعها كمجموعة كاملة.
وكشفت عمليات المسح الجديدة أيضاً عن مدى وطبيعة درع الطين، حيث أظهرت قشرة الطين التي تغلف الجسم بالكامل وهي مغطاة بطبقات من الكتان.
وتشير صور الطبقات الداخلية إلى تلف الجسم نسبياً بعد وقت قصير من عملية التحنيط الأولي، ويقول الباحثون إن الدرع الطينة والأغلفة الإضافية تم وضعها لإعادة توحيد الجسم واستعادته.
بالإضافة إلى غرضه الترميمي العملي، يشير المؤلفون إلى أن درع الطين أعطت أولئك الذين يعتنون بالمتوفى الفرصة لمحاكاة ممارسات جنائزية النخبة، المتمثلة في طلاء الجسم بقشرة راتنجية مستوردة باهظة الثمن بمواد أرخص ومتاحة محلياً.
على الرغم من أن عملية التحنيط بالدروع الطينية لم يتم توثيقها مسبقاً في الأدبيات، فإن المؤلفين لاحظوا أنه ليس من الممكن حتى الآن تحديد مدى تكرار هذه الطريقة في عمليات التحنيط لغير النخبة في أواخر المملكة الحديثة لمصر القديمة، ويقترحون مزيداً من الدراسات الإشعاعية على مومياوات أخرى غير ملكية قد تكشف المزيد عن هذه الممارسة.
ثروة من البيانات
ويشكل اكتشاف الغلاف الطيني لجسد تلك المرأة المحنطة داخل أغلفة الكتان إضافة جديدة لفهمنا لطرق التحنيط في مصر القديمة.
وقالت "سوادا" لـ"الشرق"، إن هذا الاكتشاف الجديد في طرق التحنيط المصري سيوسع فهمنا لكيفية معاملة المصريين القدماء لموتاهم.
وأشارت إلى أن علماء الآثار لا يزالون يبحثون عن الغرض من الدرع في التحنيط وقد "توفر هذه الدراسة ثروة من البيانات الجديدة".
وأضافت الباحثة في قسم التاريخ والآثار بكلية الفنون جامعة ماكواري: "هناك كمية مهولة من المعلومات الجديدة التي يمكن اكتسابها من دراسة مجموعات المتحف".
وتابعت: "يمكن لتطبيق التقنيات الجديدة والأساليب المتقدمة للتحليلات العلمية أن يوفر رؤى جديدة ومثيرة للماضي، حيث تسلط هذه الدراسة الضوء على وجه التحديد على الحاجة إلى إعادة فحص المومياوات؛ وخاصة غير الملكية منها، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى الكشف عن ممارسات جنائزية نادرة أخرى".