قال تحقيق نشرته المجلة الطبية البريطانية "BMJ"، إن إدارة الدواء والغذاء الأميركية FDA "خرقت" قواعدها الخاصة، بعدما وافقت على اعتماد مضاد حيوي جديد يُسمى "ريكاربريو" RECARBRIO، لعلاج عدوى المسالك البولية.
وأشار التحقيق الذي أشرف عليه كبير المحررين في المجلة الطبية البريطانية بيتر دوشي، إلى أن علماء FDA كان لديهم "شكوك جدية" بشأن جدوى العلاج، الذي يُعد أغلى بمقدار 40 مرة من البديل المتوفر، ورغم ذلك "وافقت عليه".
وتتطلّب الأدوية المعتمدة في الولايات المتحدة "أدلة قوية" على فعاليتها، لكن التحقيق الذي أجرته المجلة بشأن الموافقة الأخيرة على المضاد الحيوي، يشير إلى أنه "تم تجاوز" هذه المعايير.
وقبل عام 1962، لم يكن لدى الولايات المتحدة مطلب قانوني لشركات الأدوية، لتقديم إثبات ما قبل التسويق لفعالية الأدوية.
آنذاك، كان التركيز في المقام الأول على السلامة، كما كان من الممكن تسويق الأدوية بناءً على فوائدها المتصورة، حتى من دون أدلة علمية صارمة تدعم فعاليتها، لكن، مع بداية ستينيات القرن الماضي، أدت سلسلة من الحوادث إلى تغييرات في تنظيم الأدوية.
مأساة "ثاليدومايد"
أحد أهم الأحداث التي شكلت مأساة كان عقار "ثاليدومايد"، الذي استخدم للتخفيف من غثيان الصباح عند النساء الحوامل في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي.
وتسبب ذلك الدواء في حدوث تشوهات خلقية خطيرة عند تناوله أثناء الحمل. وأثار الاستخدام الواسع النطاق للدواء وآثاره المدمرة مخاوف بشأن سلامة وفعالية الأدوية في السوق.
وكشفت جلسات مجلس الشيوخ التي عقدت في عام 1962 عن حالات للإعلان الكاذب والادعاءات المضللة، التي قدمتها شركات الأدوية فيما يتعلق بفعالية منتجاتها. وأكدت هذه الجلسات، على الحاجة إلى لوائح أقوى لضمان سلامة وفعالية الأدوية.
وعلى ضوء هذه الأحداث، أقر الكونجرس الأميركي تعديلات KEFAUVER-HARRIS للقانون الفيدرالي للأغذية والأدوية ومستحضرات التجميل في عام 1962.
هذه التعديلات أدخلت العديد من التغييرات المهمة على تنظيم الأدوية، بما في ذلك مطالبة شركات الأدوية بتقديم دليل جوهري على وجود فعالية الدواء قبل الموافقة عليه للتسويق.
وكان هذا بمثابة تحوّل نحو نهج أكثر صرامة، وقائم على العلم للموافقة على الأدوية، وضمان تقييم الأدوية من حيث السلامة والفعالية، قبل الوصول إلى السوق.
تجارب "ريكاربريو"
ويتوافر عقار "ريكاربريو" في شكل حقن تتركب من أدوية، وهي "إيميبينيم-سيلاستاتين"، وهو مضاد حيوي سبق أن وافقت عليه FDA، ويستخدم لعلاج الالتهابات المعقدة منذ عقود، و"ريليباكتام" وهو مثبط جديد للنشاط البكتيري، وقد حصل على موافقة الإدارة في عام 2019.
ويكلّف العلاج بهذا الدواء ما بين 4000 دولار و15 ألف دولار للدورة الواحدة، مقارنة بمئتي دولار للنسخة العامة من المضاد الحيوي القديم لنفس الشركة المنتجة للدواء.
وللحصول على الموافقة، قدمت الشركة المنتجة للدواء نتائج تجربتين سريريتين، قارنتا "ريكاربريو" مع "إيميبينيم" عتد البالغين المصابين بعدوى معقدة في المسالك البولية، وفي المرضى الذين يعانون من التهابات معقدة داخل البطن.
لكن مراجعي إدارة الغذاء والدواء أشاروا إلى أن الشركة، درست المرضى الخطأ لتقييم الفوائد الإضافية للعقار الجديد، وقالوا إن تجربة التهابات المسالك البولية أظهرت أن " ريكاربريو" كان أسوأ بنسبة 21٪ في الفعالية من "إيميبينيم" الأقدم والأقل تكلفة.
وخلصت إدارة الغذاء والدواء إلى أن "هذه الدراسات لا تعتبر كافية، وغير خاضعة للرقابة بشكل جيد".
وقدمت الشركة دراسة سريرية ثالثة، وصفتها إدارة الغذاء والدواء بأنها "صغيرة جداً"، و "يصعب تفسيرها"، "ومن دون خطط محددة مسبقاً لاختبار الفرضيات".
ومع ذلك، على الرغم من عدم تقديم جميع الدراسات السريرية الثلاثة دليلاً جوهرياً على الفعالية، وافقت إدارة FDA على عقار "ريكاربريو".
ويقول بيتر دوشي، إنه وبدلاً من أن تبني قرارها على التجارب السريرية، "كان قرار إدارة الغذاء والدواء بشأن فعالية ريكاربريو مبرراً على الأدلة السابقة على أن إيميبينيم كان فعالاً كونه جزء من العقار الجديد".
مخاوف علمية
ويقول علماء إنهم "يشعرون بالقلق" من أن موافقة "ريكاربريو" ترقى أساساً إلى العودة إلى طريقة تنظيم الأدوية، التي تخلّت عنها إدارة الغذاء والدواء منذ نصف قرن قبل معيار "الدليل الجوهري" للوكالة.
ويوضح دوشي أنه في ظل ظروف محددة، يمكن لمدير مركز تقييم الأدوية والبحوث التنازل كلياً أو جزئياً عن معايير الموافقة على "الدراسات الملائمة والمضبوطة جيداً"، الخاصة بإدارة الغذاء والدواء. لكن إدارة الغذاء والدواء أبلغت المجلة الطبية البريطانية أنه "لا توجد مذكرة تنازل في ملف ذلك الدواء".
وعندما اتصلت المجلة الطبية البريطانية بجانيت وودكوك، مديرة مركز تقييم الأدوية والبحوث في ذلك الوقت، وهي تعمل الآن النائب الرئيسي لمفوض إدارة الغذاء والدواء، قالت إنها لم تكن على علم بأن الدراسات السريرية لـ"ريكاربريو" لم تقدم دليلاً جوهرياً على الفعالية.
لكن المتحدث باسم مركز تقييم الأدوية والبحوث، قال للمجلة إن إدارة الغذاء والدواء "طبقت المرونة التنظيمية" في الموافقة على "ريكاربريو".
ويقول دوشي إنه من غير الواضح ما إذا كانت هذه المرونة التنظيمية قد مكَّنت إدارة الغذاء والدواء من استنتاج أن "ريكاربريو" قد استوفى معيار "الدليل الجوهري" القانوني، من دون "تحقيقات كافية ومضبوطة جيداً".
ورفضت إدارة الغذاء والدواء الأميركية الإجابة على هذا السؤال، قائلة إنها "ليس لديها معلومات إضافية لتقديمها".
موافقة "صادمة"
من جانبه، قال أستاذ الطب الإكلينيكي المساعد في جامعة جورج واشنطن ديفيد روس، وهو المراجع الطبي السابق لإدارة الغذاء والدواء، إن "تراجع النهج العلمي في إدارة الغذاء والدواء الأميركية أصبح أمراً لا يمكن السيطرة عليه"، واصفاً الموافقة على "ريكاربريو" بأنها "صادمة".
وأشار ديفيد روس إلى أن هناك حاجة لوضع اللوم على "اعتماد إدارة الغذاء والدواء الأميركية على الصناعة التي تدفع رسوم المستخدم بقيمة تبلغ ثلثي الميزانية السنوية للوكالة". ومع ذلك، أعاد التأكيد على أن "فساد الثقافة العلمية في إدارة الغذاء والدواء لا يزال هو السبب الرئيسي وراء ذلك، حيث تنخفض معايير السلامة والفعالية".
ولمعالجة هذا "الموقف الكئيب"، يقترح روس تقليل اعتماد إدارة الغذاء والدواء على رسوم المستخدم، وتحسين وصول الجمهور إلى المعلومات التي تتلقاها إدارة الغذاء والدواء، ومنطقها، وقراراتها.
وأشار إلى أن الموافقة على ريكاربريو "حدث كبير"، محذراً من العودة إلى "عصر كانت فيه فاعلية الدواء فكرة متأخرة".
اقرأ أيضاً: